منذ العصور القديمة مثل وجود الشرّ في العالم مشكلة نظريّة محيّرة، وقامت محاولات عدّة لتفسيره والبحث عن مبرّر معقول لوجوده. في الألف الثالث قبل الميلاد كان المجتمع البابلي يفسّر ما يصيب أفراده من شرور بانتهاكهم الأوامر الدينيّة والمحرّمات الأخلاقيّة وما تقتضيه العادات والسلط القائمة. وكان يعدّ جميع هذه الأعمال الخارجة عن منظومة القيم المطلوبة ذنوبا تستحقّ العقاب وأوكل إلى الشياطين مهمّة إنزاله بمستحقّيه(1).
واحتفظت المجتمعات الكتابيّة بفكرة الشيطان(2) ولكنّها أقحمت عنصرا جديدا في تفسير المشكلة جعلته شريكا للشيطان في صنع الشرّ هو النفس، وأدّى ذلك إلى اعتبار الشرّ مشكلة أخلاقيّة وإلى حصرها في نطاق الفعل الإنساني. غير أنّ الشياطين وإن كثرت جدّا وكانت بالغة القوّة والقسوة وتحالفت معها الأنفس الأمّارة بالسوء لم تكن بمفردها لتقدر على تفسير الشرّ الواقع في المجتمع والعالم لأنّه يبدو أحيانا كالمتغلغل في أعماق الأشياء الممتزج بها ويبدو وجوده كأنّه من طبيعتها بل من طبيعة الوجود ذاته. فكثير من الحيوانات والبشر والقيم والعقائد والأعمال شرّ صرف، ومن الأوقات ما هو شرّ كذلك لارتباطه بكواكب وقرانات مختصّة بالنحس. وشيئا فشيئا نشأ لدى المفكّرين اقتناع بأنّ لمشكلة الشرّ مظهرا أنطولوجيّا لا يقلّ خطورة عن مظهرها الأخلاقي.
وكانت الثنويّة الفارسيّة من أهمّ العقائد التي حاولت تفسير الشرّ أنطولوجيّا، فافترضت مبدأين أصليين للعالم أحدهما يفسّر ما فيه من خير والآخر يفسّر ما فيه من شرّ. غير أنّ هذا الحلّ نوقش من عدّة جهات وجوبِه بإشكالات غير قابلة للحلّ من وجهة نظر المنطق الصوري الذي كان أساس الجدل الديني والفكري في نهاية العصر القديم وطيلة العصر الوسيط. من هذه الإشكالات امتزاج الخير بالشرّ في كثير من مظاهر الواقع مع أنّهما ضدّان لا يلتقيان، وانقلاب الخير إلى شرّ والشرّ إلى خير في بعض الأحيان، وظهور الخير ممّن يفعل الشرّ غالبا وظهور الشرّ ممّن يفعل الخير(3).
وقد مكّن هذا النقد المتكلّمين المسلمين من الارتقاء بالتوحيد- أي القول بمبدأ تفسيري واحد للأشياء- إلى مرتبة النظريّة العامّة القادرة بمفردها على تخطّي الصعوبات التي وقعت فيها النظريّات والعقائد الأخرى، ومن ضمنها الصعوبة الناجمة عن مشكلة وجود الشرّ. لكنّهم ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم أمام صعوبات جديدة: كيف يصدر الخير والشرّ، والحسن والقبيح-وهما زوجان متناقضان- من مبدأ واحد؟ وهل يصحّ نعت الله بالعادل الحكيم إذا كان إنّما يخلق الخلق ليبتليهم بأقسى الشدائد ويمتحنهم بأعظم الأضرار؟
بسبب هذه الصعوبات باتت نظريّة الأصلح المعتزليّة ونظريّة أفضل العوالم الممكنة الغزاليّة(4)مهدّدتين بالانهيار. فإذا كان عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة فلماذا تضمّن كلّ الشرور والقبائح الموجودة فيه ولم يستغن وجوده عنها؟ وكيف يكون الله جوادا عادلا حكيما بعد خلقه كلّ هذه القبائح والشرور والمضارّ؟ إنّ الفيلسوف الميتافيزيقي يحسّ بحيرة تجاه هذا الوضع غير الملائم وغير الضروري الذي يتّسم به العالم ويخضع له المجتمع، والمتكلّم يعروه القلق على الحكمة والعدل الإلهيّين المهمّين في تبرير العمل بالشرائع المنزلة. ولا مناص لمن يقول بالأصلح أو بأفضل العوالم الممكنة من أن يصطدم بهذين السؤالين ويواجه حقيقة الشرّ ويبحث لها عن تفسير مقنع يزيل طابعها الإشكالي السلبي ويبرّئ الإله من تهمة إرادتها أو فعلها.
اختار بعض المفكّرين حلاّ جذريّا للمشكلة تمثّل في إنكار وجود الشرّ أو اعتباره خيرا أسيء تأويله أو أسيء تقبّله، وأفضى ذلك ببعضهم في النهاية إلى الإقرار بأنّ إبليس نفسه من طبيعة خيّرة. كان هذا ما انتهى إليه الحسين بن منصور الحلاّج (ت 309) وتحمّل تبعاته بكلّ شجاعة(5)، وما ذهب إليه اليزيديّة وعبّرت عنه عقائدهم الغامضة القائمة على التوحيد بين الله والشيطان في كيان واحد سمّوه الملَك طاووس(6)، وما أقرّه على نحو ما المعتزلي بشر بن المعتمر (ت 210) الذي كان يعتبر الموجود وبدائله النظريّة الممكنة خيرا كلّها ولأجل ذلك عدّ الله مصيبا في كلّ ما يفعل(7)، وما ذهب إليه في بداية النهضة الأوروبّيّة الفيلسوف اليهودي سبينوزا نافيا إمكان وجود الشيطان أصلا (8).
لكنّ هذا الحلّ غير واقعي ويصعب على كثير من الناس قبوله، لاسيما أولئك الذين اكتووا بنار الشرّ وتجرّعوا الآلام المختلفة. ولأنّ أيّ مفهوم لا يستطيع أن يسود ويستمرّ إلاّ إذا كان حائزا على قدر كاف من الواقعيّة والمعقوليّة ظلّت الحاجة قائمة إلى تفسير الشرّ ومراجعة منظومة القيم الأخلاقيّة في ضوء معطيات الواقع التي لا يمكن جحدها. وفي الإسلام كان المعتزلة أوّل من استجاب لهذه الحاجة استجابة عقلانيّة منظّمة لأنّهم أرباب العدل وأصحاب المعقول. وكان للفلاسفة العرب كذلك إسهام مهمّ في حلّ المشكلة ولكن من موقع آخر ومنطلقات أخرى. ومن أهل السنّة برز بصورة خاصّة أبو حامد الغزالي(ت 505)، وكانت ميزة فكره الأساسيّة الجمع بين التعاليم الأشعريّة والآراء الفلسفيّة السينويّة والأفكار الصوفيّة العرفانيّة. وكان ما حمل هؤلاء على التصدّي لمشكلة الشرّ هو قولهم بالأصلح أو بأفضل العوالم الممكنة. فكيف فهموا مشكلة الشرّ؟ وعلى أيّ نحو عالجوها؟
نستعرض في هذا المقال ثلاث مقاربات لمعضلة الشرّ وما أثارته من مشاكل: المقاربة الكلاميّة كما عبّر عنها المعتزلة وأهل السنّة من الأشاعرة والماتريديّة، والمقاربة الفلسفيّة كما عبّر عنها الفارابي(ت339) وابن سينا (ت428) وإخوان الصفاء، والمقاربة الكلاميّة-الفلسفيّة-الصوفيّة كما عبّر عنها الغزالي(ت505)، وذلك عبر أربعة عناصر أساسيّة يتعلّق أوّلها بمعنى الشرّ ويتعلّق ثانيها بفاعله ويتعلّق ثالثها بصلته بالصفات الإلهيّة ويتعلّق رابعها بضرورته. وسنعمد إلى تسليط الضوء على وجهة نظر التيولوجيا والفلسفة المسيحيّتين في الموضوع كلّما رأينا في الأمر فائدة في إبراز خصوصيّة الموقف الإسلامي أو كونيّته.
في معنى الشرّ
إنّ الأصل الذي إليه تستند معالجات المتكلّمين والفلاسفة لمشكلة الشرّ ومنه تستمدّ خصوصيّاتها وقواسمها المشتركة هو الحدّ. ولمّا لم يكن حدّ الفريقين لمفهوم الشرّ واحدا من كلّ وجه وجب أن يكون تشخيصهما للظواهر التي ينطبق عليها هذا الاسم مختلفا وأن تكون مواقفهما منها متباينة.
ولبيان هذه الفروق ننظر أوّلا في حدّ المتكلّمين ولا سيما المعتزلة للشرّ. وننظر ثانيا في حدّ الفلاسفة، ونكاد نقتصر منهم على ابن سينا لأنّه أهمّ فيلسوف إسلامي كان له إسهام في معالجة المشكلة. ونلحق به أبا حامد الغزالي لا لأنّنا نعدّه فيلسوفا- فذلك أمر ليس من اليسير البتّ فيه- وإنّما لأنّ مقاربته لمعنى الشرّ كانت أقرب إلى مقاربة الفلاسفة. وننظر ثالثا في حدّ اللاهوتيّيْن المسيحيّيْن أغسطين وتوما الإكويني باعتبارهما أهمّ ممثّلين للأرثودكسيّة المسيحيّة في عصريها القديم والوسيط.
لم يكن مفهوم الشرّ مركزيّا في الفكر الكلامي ولم يمثّل مشكلة كلاميّة من الدرجة الأولى، وإنّما عدّ فرعا لمفهوم آخر أهمّ منه هو القبيح. وللقبيح عند المعتزلة فروع أو تجلّيات عدّة هي الشرّ والظلم والضرر والفساد والعبث. فقد كانوا يعتبرون هذه المفاهيم جميعا داخلة تحت باب واحد جامع سمّوه القبيح، ورأوها دالّة دلالة أصليّة على معنى الشرّ. وكان من أبرز من عبّر عن هذا الرأي أبو هاشم الجبّائي (ت321)، فقد ذهب إلى أنّ الضرر لا يكون إلاّ قبيحا. إلاّ أنّ متأخّري المعتزلة ناقشوا هذا الرأي وأدخلوا عليه بعض التصحيحات من أجل حصر معنى الشرّ وتحديد ما يدخل في بابه وما لا يدخل.
من هذه التصحيحات ما نبّه عليه القاضي عبد الجبّار بن أحمد (ت 415) من أنّ الضرر لا يكون كلّه قبيحا ومن ثمّ شرّا، وإنّما يقبح إذا ولّد ألما وغمّا أو ولّد ما يؤدّي إليهما من غير أن يُعقِب نفعا يوفي عليهما. أمّا إذا ولّد نفعا مؤجّلا يضاهيه أو يوفي عليه فإنّه يكون خيرا نافعا(9).
إنّ ميزة هذا التعريف أنّه يزيد مفهوم الضرر حصرا ويخرج منه ما يلتبس به ولكنّه ليس منه أو ما يشترك معه في بعض الخصائص ويخالفه في أخرى. وبفضله أخرج قاضي القضاة جملة من الأضرار والآلام من دائرة ما سمّاه ضررا قبيحا، وتوصّل إلى هذه النتيجة بفضل التحليل الواقعي لمفهوم الضرر والربط - ولكن بصورة جدليّة غير آليّة- بينه وبين مفاهيم الشرّ والفساد والقبح والألم.
بناء على هذا التعريف وصف عبد الجبّار المعاصي بأنّها أضرار "من حيث تؤدّي إلى العقاب" وإن كانت تحقّق لفاعلها بعض الملاذّ العاجلة، وعدّ إطعام اللذيذ المسموم شرّا "من حيث يؤدّي إلى الهلاك" وصحّح وصف الله بأنّه نافع وضارّ "من حيث يدخل تحت الضرر الحسن والقبيح" فالأضرار بعضها نافع وبعضها ضارّ في العاقبة، لذلك يوصف بعضها بأنّه خير وبعضها الآخر بأنّه شرّ. ولا يوصف بالشرّ والفساد كلّ ما كان منها مضرّا في العاقبة، بل يجب إلى جانب ذلك لكي يوصف بأنّه شرّ أن يكون ضررا قبيحا أيضا. ولذلك لا يوصف العقاب الأخروي" بأنّه شرّ وفساد ولا بأنّه خير ونعمة، وإن كان ضررا وألما" لأنّه عدل مستحَقّ. والقاعدة في هذا أنّ كلّ ضرر إذا كان -مع كونه ضررا- حسنا خرج من قسمي الشرّ والفساد. فإذا كان ضررا محضا امتنعت تسميته بأنّه خير، وبناء على ذلك لا يجوز وصف الآفات التي تلحق الأبدان والأموال والزروع بأنّها شرّ وفساد إلاّ على وجه المجاز(10).
إنّ هذا التمييز بين الأضرار الحسنة والأضرار القبيحة يأخذ بعين الاعتبار عاملين متظافرين: التوقيت- وأفضل الأوقات العواقب والأوقات المتطاولة، فهي أولى بالاعتبار من الزمن القصير المتصرّم-، والكمّيّة، أي مقدار اللذّة الحاصلة. وبسبب هذين العاملين لم يكن ربط عبد الجبّار بين النفع واللذّة ربطا آليّا. فالملاذّ هي أصل المنافع، ولذلك لا ينتفع من أن تستحيل اللذّة عليه، مثل الله والجماد. ولكنّ العاقل يتحمّل المشاقّ القليلة من أجل الملاذّ الكثيرة ويؤثر الآجل من المنافع إذا كانت أكثر وأدوم على العاجل منها."ولولا أنّ ذلك أنفع له" لم يكن ليوثره على النفع الحاضر القليل ولا كان يتحمّل المضرّة لأجله(11). وذلك يدلّ على أنّ بعض الضارّ قد يكون نافعا مفيدا ومن ثمّ خيرا.
من أجل الإقناع بهذا الرأي الذي لا تميل إليه النفس إذا خُلّيت بينها وبين نوازعها التجأ قاضي القضاة إلى القياس المع****. فبيّن أنّه "إذا جاز في اللذّة أن تكون ضررا إذا أعقبت مضرّة عظيمة، نحو تناول الخبيص المسموم" جاز العكس، وهو أن تكون المشقّة نفعا إذا أدّت إلى نفع أعظم وإن كان مؤجّلا بعض الوقت. وعلى هذا الوجه اعتبر الله نافعا بالتكاليف والآلام لأنّه يثيب الصابرين عليها ويعوّضهم عمّا تجشّموه جزاء حسنا. وبناء على مفهوم الضرر النافع ذهب إلى أنّ الأنبياء حين يدعون الناس إلى الدين إنّما هم نافعون لهم منعمون عليهم رغم إلزامهم إيّاهم بأمور شاقّة، وذلك لما في الاستجابة لدعوتهم من نفع أخروي لا ينفد(12).
والنتيجة العامّة التي انتهى إليها عبد الجبّار بناء على مفهوم الغاية أو العاقبة هي التمييز بين ثلاثة أنواع من الأفعال بحسب ما توصف به من خير أو شرّ: خير هو نفع حسن، وخير هو ضرر حسن مثل ذمّ العصاة في الدنيا وتعذيبهم في الآخرة وإقامة الحدود والمرض والفقر والمصيبة فليس هذا شرّا إلاّ في المجاز، وشرّ هو ضرر قبيح مثل الكفر فإنّه قبيح في ذاته مهلك صاحبه في عاقبة أمره(13).
ولم يكن بموضع إشكال من هذه الأقسام الثلاثة عند المعتزلة سوى القسم الثاني، وقد ذهبوا فيه مذاهب مختلفة، واختلافهم فيه يدلّ على أنّ مشكلة الشرّ ليست بالبساطة التي توحي بها تقريرات عبد الجبّار العامّة. فقد ذهب الجبّائي إلى "أنّ الأمراض والأسقام ليست بشرّ في الحقيقة وإنّما هي شرّ في المجاز، وكذلك كان قوله في جهنّم "، إلاّ أنّه لم يصف عذابها بأنّه خير لأنّ الخير مرادف للنعمة وهو ما للإنسان فيه منفعة، وليس عذاب النار كذلك. ولكنّه أيضا لم يعتبره شرّا لأنّه ليس عبثا وفسادا، والصواب عنده أنّه عدل وحكمة. وكان الإسكافي يقول إنّه خير في الحقيقة ومنفعة وصلاح ونظر للكافرين في الدنيا ورحمة لهم لأنّه يحذّر العباد في الدنيا من ارتكاب الكفر(14). وكان أكثر المعتزلة يقولون في لعن الله الكفّار في الدنيا إنّه "عدل وحكمة وخير وصلاح للكفّار لأنّ فيه زجرا لهم عن المعصية"،لكنّ بعضهم أقرّوا بأنّ ذلك عدل وحكمة ولم يقولوا إنّه خير وصلاح ونعمة ورحمة(15).
إنّ هذه الأقوال المتضاربة توضّح الطابع الإشكالي لمسألة الشرّ واستعصاء بعض الأمور على التصنيف إلى شرّ أو خير والتجاء الكلام المعتزلي إلى تخريجات غريبة من نوع وصف بعض الأشياء مثل العقوبات الأخرويّة بكونها عدلا وحكمة والامتناع مع ذلك عن اعتبارها خيرا، وهو ما يجعل بعض العدل والحكمة خارجا عن القسمة إلى خير وشرّ، ويؤدّي إلى منع هذا الزوج التقابلي من أن تكون له قيمة كلّيّة حاصرة.
إنّ الشرّ من وجهة نظر معتزليّة فعل مخصوص يفعله المكلّف على خلاف ما ينبغي له فيكون مهلكا له في الدنيا أو في الآخرة. أمّا ما عدا ذلك من مصائب وأضرار تصيب الإنسان نتيجة الأمراض والعوادي الطبيعيّة فليس شرّا إلاّ من منظور الحواسّ والزمن المحدود الفاني، وكلاهما لا اعتبار به من منظور الآخرة. إنّ هذا التعريف يعبّر عن الرؤية الكلاميّة والدينيّة بصفة عامّة، وهي رؤية تنطلق من منظومة القيم الأخلاقيّة الإسلاميّة ومن الدفاع عن الفعل الإلهي وفهم الوجود وتحديد المعايير في ضوء الصفات الإلهيّة.
لعلّ أبرز من صاغ تعريفا فلسفيّا للشرّ في الثقافة العربيّة ابن سينا والغزالي، وأبرز من صاغ مثل ذلك في الثقافة المسيحيّة القدّيسان أغسطين وطوما الإكويني. لذلك نكتفي فيما يلي بالإحالة على هؤلاء الأربعة.
ربط ابن سينا في بعض رسائله بين الخير والوجود وبين العدم والشرّ، وعرّف الشرور بأنّها أعدام(16). وفي النجاة زاد هذا الرأي تفصيلا، فوصف الواجب الوجود أي الله بأنّه خير محض وكمال محض "وصرّح بأنّ" الشرّ لا ذات له بل هو إمّا عدمُ جوهرٍ أو عدمُ صلاحِ حالِ الجوهر. فالوجود خيريّة، وكمال الوجود خيريّة الوجود. "واعتبر الوجود الذي لا يقارنه عدم" لا عدمُ جوهر ولا عدم شيء للجوهر، بل هو دائم بالفعل" - خيرا محضا. أمّا الممكن الوجود بذاته فليس خيرا محضا لأنّ ذاته تحتمل العدم، "وما احتمل العدم بوجه فليس من جميع جهاته بريئا من الشرّ والنقص. "واستنتج أنّ الخير المحض ليس " إلاّ الواجب الوجود بذاته"(17).
لم يبتعد الغزالي عن هذه الطريقة في تحديد معنى الشرّ، وهذا يعني أنّه لم يستمدّ طريقته من الإطار الأخلاقي الذي انطلق منه المعتزلة، ولم يربط الشرّ بمعنى الضرر غير المتبوع بنفع يكافئه، ولم ير له معنى مستقلاّ عن الخير. إنّ الخير والشرّ عنده مفهومان متناقضان، والنقيضان يتحدّد معنى أحدهما بالتعارض مع معنى الآخر. فالخير مرادف للوجود والكمال والنظام18، وليس الشرّ -بناء على ذلك- إلاّ المعنى الدالّ على عدم الوجود أو عدم كمال الوجود(19).
إنّ هذا التعريف يجعل الشرّ شيئا لا ذات له ولا ماهية، ويؤخّره إلى رتبة الفرع التابع للخير، ولكنّه في الآن نفسه يجعل منه أساسا للتفاوت بين الموجودات. فالموجود الوحيد المبرّأ من النقص وإمكان العدم والذي هو مبدأ لكلّ موجود وسبب لكلّ نظام هو الأوّل، أي الله، وهو خير محض. وما عداه يتطرّق إليه النقص وإمكان العدم، وهذا ينطبق حتّى على الملائكة(20).
ليس الشرّ إذن هو الضرر الحاصل لبعض المخلوقات نتيجة المرض أو العقاب أو ما شاكلهما كما تخيّل المعتزلة، بل هو ضرب من الوجود، أو بتعبير أدقّ هو انعدام كمال الوجود. إنّ هذا المنهج في تعريف الشرّ هو منهج الفلاسفة المشّائين، استقاه الغزالي من ابن سينا وضمّنه كتابيه المقاصد والتهافت. وهو أيضا المنهج الذي اعتمده اللاهوتيّون المسيحيّون في القرون الأولى والوسطى واستخدموه في دحض التصوّر الثنوي للعالم. فالأشياء القابلة للفساد تفقد بحسب القدّيس أغسطين(ت430م) (SaintAugustin) من خيريّتها بقدر ما يلحقها من الفساد أي من العدم، فإذا عدمت الخير كلّه فقدت وجودها كلّه. إنّ انعدام كلّ خير مساو لانعدام الوجود، وبناء على ذلك لا يمكن أن يوجد شرّ حيث لا يوجد أيّ خير.
وتأييدا لهذا التمشّي في فهم الخير والشرّ أنكر القدّيس طوما الإكوينـي (ت1274م) (Saint Thomas d'Aquin) أن يكون غياب خير ما شرّا لأنّ ذلك يؤدّي إلى القول بأنّ الأشياء التي لم توجد قطّ شرور. وأنكر أن يكون الشيء شرّا لأنّه ليس له ما لغيره من الخير، فليس الإنسان شرّا لأنّه لا يملك رشاقة الجدي أو قوّة الأسد. وإنّما الشرّ هو الحرمان من خير مستحَقّ بالنوع، كالعمى الذي هو حرمان من البصر المميّز للموجودات الحيّة العليا، أو كانعدام اليدين في حقّ الإنسان. وهذا ليس حرمانا في حقّ العصفور مثلا، ومن ثمّ لا يمكن عدّه شرّا بالإضافة إليه(21) .
وإذا لم يجز أن يكون موضوع الشرّ إلاّ خيرا وأن لا يدخل الشرّ إلاّ على خير وأن لا يوجد شرّ محض قائم بذاته منفصل عن كلّ خير(22)امتنع أن يكون الشرّ ماهية شيء ما لأنّه حرمان، وليس الحرمان جوهرا بل سلبا في جوهر. إنّ الشرّ في حقيقته انعدام للماهية(23)، وبذلك يثبت كون الخير أوّليّا لأنّه الأصل وكون الشرّ ثانويّا لأنّه فرع. ويترتّب على هذه النتيجة كون الشرّ مفهوما نسبيّا، فلا وجود لشرّ لذاته أو لشرّ مطلق، بل الشرّ هو دوما شرّ بالنسبة إلى موجود محدّد ناله حرمان ما(24).
بناء على هذه الرؤية تمكّن طوما من دحض التصوّر الثنوي للعالم، فبيّن أنّ الشرّ لا يجوز أن يكون مبدأ لبعض الموجودات كما يعتقد الثنويّة لأنّ الموجود لا يمكن أن يكون في جوهره شرّا. فكلّ موجود بحكم كونه موجودا هو خير، والشرّ نفسه لا يمكن أن يوجد إلاّ في الخير وليس له مبدأ هو الشرّ المحض أو الظلمة بلغة الثنويّة. واستشهد بقول أرسطو في الشرّ المحض إنّه لو وجد لكان انهار من تلقاء نفسـه (le mal intégral se détruirait lui-même ) إذ ينبغي تحطيم كلّ خير أوّلا ليبقى الشرّ في كلّيّته، وهذا يجعل مفهوم "الشرّ في ذاته" أو "الشرّ المحض" مفهوما متهافتا متناقضا. إنّ خطأ الثنويّة في نظر الإكويني أنّها بافتراضها الخير والشرّ متناقضين من كلّ وجه نسيت أنّهما موجودان وأنّهما بذلك يشتركان في أصل الوجود الذي هو خير بذاته(25).
ميّز طوما في الشرّ بين صنفين جعل لكلّ واحد منهما خصائص مميّزة وصفات مشتركة: الشرّ في نظام الطبيعة (le mal dans l'ordre naturel)، والشرّ في نظام الأخلاق (dans l'ordre moral)(62). ومع لايبنتز (ت 1716م) (Leibniz) أصبح الشرّ ينقسم إلى ثلاثة أنواع: الشرّ الميتافيزيقي وعنى به نقصا في كمال الوجود، والشرّ الطبيعي أو البدني وعنى به الألم الحسّي، والشرّ الأخلاقي وعنى به الخطيئة(27).
أمّا المتكلّمون المسلمون فلا نجد عندهم مثل هذا التمييز والتقسيم ولا نقف لديهم على وعي صريح باختلاف أنواع الشرّ بعضها عن بعض من حيث الطبيعة أو المجال. اعتبروا الشرّ حقيقة واحدة ولم يفرّقوا بين ما كان منه في الطبيعة وما كان منه في الحياة الاجتماعيّة. والسبب في ذلك أنّهم كانوا يصدرون في جميع آرائهم عن خلفيّات أنطولوجيّة وإبستمولوجيّة متشابهة تتمثّل في النظريّة الذرّيّة التي لم تكن تميّز بين المجال المادّي والمجال المعنوي، وفي نظريّة الفعل التي كانت ترى في كلّ موجود حادث فعلا يتطلّب فاعلا عاقلا مسؤولا. نظروا إلى الشرّ باعتباره نوعا واحدا لأنّ له نسبة واحدة إلى الله من حيث هو فاعل له أو محاسِب عليه، ولم يميّزوا بينه وبين مسمّيات أخرى مثل الظلم والضرر المحض والفساد والعبث، ووضعوها جميعا تحت اسم واحد جامع هو القبيح.
لقد كان الأساس الذي اعتمد عليه المتكلّمون في تعريف الشرّ أساسا أخلاقيّا محضا استمدّوه من نظريّتهم في الفعل. وكان الأساس الذي اعتمد عليه الفلاسفة العرب في تعريفه أساسا أنطولوجيّا محضا استمدّوه من تحليلهم لمقولة الوجود. أمّا الأساس الذي اعتمد عليه الفلاسفة والتيولوجيّون المسيحيّون في ذلك فكان مزيجا منهما، ينطلق من رؤية تصنيفيّة للعالم لا من تمثّل الشريعة ومن مفهوم الكمال الطبيعي لا من مفهوم الكمال النظري. وافق المسيحيّون الفلاسفة المسلمين في ربط الشرّ بالعدم والإمكان والقوّة وأنكروا مثلهم الوجود المستقلّ للشرّ واعتبروه فرعا عن الخير مرتبطا به، وأغنوا وجهة نظرهم بإضافة البعد الأخلاقي الذي تضمّنه مفهوم المتكلّمين للشرّ واستنتجوا من كلّ ذلك وجود أصناف متمايزة من الشرّ تَمايُزَ مجالات النظر الرئيسيّة عندهم: الميتافيزيقا والطبيعة والنفس.