"الأشكال الأساسية للحياة الدينية" هو الكتاب الثالث لدوركايم وهو بلا شك أكثر كتبه أهمية وعمقا وأصالة، وهو برأيي الكتاب الذي تتجلى فيه روح المؤلف.
في هذا الكتاب يضع دوركايم نصب عينيه هدفا وهو تطوير نظرية عامة عن الدين، والتي تبلورت من خلال تحليل المؤسسات الدينية الأكثر بساطة وبدائية. من هذه الجملة فحسب نتعلم عن أحد الأفكار الرئيسية لدوركايم : من الجائز ومن الممكن أن نطور نظرية عن الأديان المتطورة اعتمادا على دراسة الدين في أشكاله الأساسية والبدائية. فالطوطمية(1) تكشف ماهية الدين. كل استنتاجات دوركايم من أبحاثه عن الطوطمية ترتكز على فرضية أنه من الممكن إدراك ماهية ظاهرة اجتماعية ما بناء على معاينة أشكالها الأساسية.
هناك سبب إضافي للأهمية البالغة للطوطمية في نظرية دوركايم. فهو يعتقد أن العلم، في أيامنا هذه، يحتل مركز السلطة الثقافية والأخلاقية العليا في المجتمعات الفردانية والعقلانية. من الممكن أن نذهب إلى ما هو أبعد من العلم ولكن دون أن نكفر بأهميته أو أن نلغي قيمة الأشياء التي يعلمها. ومع ذلك، فإن المجتمع الذي يحدد ويكوّن ظروفا لانتشار الفردانية والعقلانية، يحتاج، كأي مجتمع آخر، إلى معتقدات جماعية. غير أنه يبدو أن الدين التقليدي، والذي لم يعد يلبي متطلبات الروح العلمية، لن يستطيع تلبية متطلبات هذه المعتقدات والإيمان.
والاستنتاج يبدو بسيطا عند دوركايم بل ومدهشا، إذا سمح لي أن أستخدم هذه الكلمة: أليس العلم ذاته هو من اكتشف أن الدين في أساسه هو تعبير عن المجتمع في صورة أخرى أو لباس آخر؟ وإذا كان صحيحا أن البشر، على مر التاريخ، عندما سجدوا للطوطم أو لله ، فهم قد مجّدوا في الواقع فقط واقعهم الجماعي الذي أخذ شكل الدين، وبذا يمكن الخروج من المتاهة. علم الدين يثبت أنه من الممكن بناء المعتقدات اللازمة للإجماع مجددا، صحيح أن العلم لا يكفي لتوليد إيمان جماعي، ولكنه يبقي فسحة أمل في أن المجتمعات المستقبلية تستطيع أن تكوّن لنفسها آلهة جديدة، حيث أن كل آلهة الماضي لم تكن سوى المجتمع بصورة مغايرة.
بهذا المفهوم يعطي دوركايم في كتابه "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" حلا لمشكلة التناقض بين الدين والعلم. فالعلم بحد ذاته، منذ أن اكتشف الماهية الحقيقية للأديان، فهو لا يكوّن دينا جديدا ولكنه يعزز الثقة في قدرة المجتمعات على أن تكوّن لها، في كل عصر، الآلهة التي تحتاج إليها. "المصالح الدينية ليست إلا صورة رمزية للمصالح الاجتماعية والأخلاقية."
أود القول أن من بين كل مؤلفات دوركايم، فإن كتابه "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" هو منتَج مساوٍ في قيمته ل"أسلوب السياسة الإيجابية" لأوغوست كونت. دوركايم لا يصف دين المجتمع بالطريقة التي وصف فيها "كونت" دينه الإنساني بتفصيل بالغ. بل هو يقول بوضوح أن "كونت" أخطأ في ادعائه بأن فردا واحدا يستطيع إنشاء دين وفرضه. حيث أنه إذا كان الدين إنتاجا جماعيا، فإن الادعاء بأن عالِم اجتماع واحد يقدر أن يكوّن دينا لا يستقيم مع هذه النظرية. ومع ذلك، إذا أراد دوركايم أن يثبت أن موضوع الدين ليس سوى المجتمع بصورة أخرى، من الممكن عندها أن نقارنه ب"كونت"، حيث أراد أن يؤسس دينه المستقبلي، زعم أن الإنسانية، حين قضت على الآلهة الغيبية، فهي تحب نفسها، أو الخير الكامن فيها باسم الإنسانية.
من الممكن بحث "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" من خلال ثلاثة نقاط معاينة، حيث أن الكتاب يحوي ثلاثة أنواع بحوث. فهو يحوي وصفا وتحليلا مفصلا عن مجموعة العشائر Clans وعن الطوطمية في داخل بعض القبائل الأسترالية، مع ذكر طفيف للقبائل الأمريكية. وفيه نظرية عن ماهية الدين التي تعتمد على بحوث الطوطمية الأسترالية. وفي النهاية يعطي تفسيرا سوسيوجيا للصور المختلفة للفكر الإنساني، أي مقدمة في علم الاجتماع الإدراكي.
من بين الثلاثة أفكار يحتل الأول أكبر مساحة، وهو البحث الذي يصف مجموعة العشائر والطوطمية. ولكن لن أتعمق فيه زيادة عن اللزوم إذ بالإمكان أن نلخص بإيجاز توصيفات دوركايم عن الموضوع.
الموضوع الثاني، أي تطوير نظرية عامة عن الدين اعتمادا على البحث الذي أجرته عن الطوطمية، هو ما يهمنا هنا. وفي هذا الكتاب يستعمل دوركايم نفس الأسلوب الذي اعتمده في كتبه السابقة، بداية هو يعرّف المشكلة، ثم يقوم بتفنيد النظريات حول نفس الموضوع والمخالفة لنظريته. وفي النهاية تأتي المرحلة الثالثة، والتي يبدي من خلالها الطبيعة الاجتماعية في ماهية الأديان.