يُعتبر أحد أهم ألغاز مرض السيدا { الإيدز }, هو ما نصوغه بالتساؤل: لماذا تكون الاصابة بفيروسه مسبّبة لنسبة عالية من الوفيات عند البشر, في حين فيروسات شبيهة لا يمكنها التأثير في انواع حيّة اخرى كالقرود؟. مع ضرورة لفت الانتباه, وعدم نسيان: بأنّ الكائن الطفيليّ بالعموم, لا يكون من مصلحته القضاء على مُضيفه, لانه بذلك سيفقد كل موارد حياته. مع هذا, فقد قضى فيروس نقص المناعة المُكتسب البشري (VIH) على حيوات أكثر من 25 مليون شخص في الثلاثين عام الاخيرة, وفق معطيات منظمة الصحة العالمية OMS.
يكون VIH عضواً في عائلة فيروسات نقص المناعة عند القرود (SIV), والتي بالعموم لا تقتل مُضيفيها الاصليين. الصيغة التي تحوّل فيها الفيروس VIH ليفتك بالبشر للآن قيد النقاش منذ اكتشاف المرض, حيث تكون الفرضية الاكثر قبولاً هي بأنّ بعض الصيادين قد انتقلت لهم العدوى من دم قرود مريضة, بادئين بهذا نشره في جماعات بشرية. في الواقع, يرتبط الفيروس SIV بشكل اوثق مع الفيروس HIV الذي يُعتبر ايضاً فيروس قد اكتسبته الشمبانزي من خلال افتراس قرود اخرى (Baiels et al. 2003) .
الآن, يُفترض بروز عقبة هامة أمام الفكرة القائلة بأن الجسم البشري قد جرى تصميمه بذكاء. بكل تلك الحماقة, ينتج المصمم بوصفه مُصنّع لنموذج نهائيّ ويرتقي اعلى السلّم في الكائنات الحيّة, وهو بكل هذا الضعف والعوز مقارنة بنماذج بدائيّة قرديّة؟ هل يُعقل للكائن العاقل المُختار: ان يعاني من كل هذا العوز والعجز امام ذاك الفيروس, في الوقت الذي لا يتأثر به كائنات دونيّة بل تواجهه بنجاح؟؟؟!!!
لاجل تقديم تفسير لهشاشة التصميم الذكي, يتوجب اللجوء الى التأمُّل الحقيقيّ بكون الامر عبارة عن عقوبة الهية, أو اعتبارنا غير قادرين على فهم مقاصد المصمّم: وهذا أشهر الردود الايمانيّة الكوميدية.وهذا لا يشكّل أمر غير مُقنع فقط, بل يكون مُجانباً الصواب. مع هذا, تكون القصّة أطول.
يكون HIV بمثابة فيروس ارتجاعي { أو قهقري* }, ما يعني بأن جينومه يكون متشكلاً من سلسلة وحيدة من الحمض النووي الريبي RNA عوضاً عن الحمض النووي الريبي منقوص الاوكسجين DNA والذي يشكّل كروموزوماتنا. تقوم الفيروسات القهقرية تلك بنسخ RNA الى DNA قبل ان تتمكن من التضاعف: عملية تحدث داخل الخلية بفضل انزيم فيروسيّ اسمه transcriptasa inversa**. هذا ال DNA الذي تمّ الحصول عليه انطلاقاً من ال RNA الفيروسي: يعبر الغشاء النووي ويدخل في المادة الجينية الوراثية للمُضيف, حيث تتابع تضاعفها { نسخها او تكاثرها ذات المعنى .. فينيق } مع الآلية الذاتية للمُضيف.
صورة
هذا سيجعل كثير من الفيروسات الارتجاعية: تقوم بترك " بصماتها الجينية " في جينوم الكائن المُصاب بها. ولدينا ما نسبته 8% تقريباً من الجينوم البشري: يأتي من ادخالات الفيروس عبر آليات عدوى كما هو موضّح.
منذ سنوات قليلة { في العام 2007, Kaiser وآخرون }, تمّ العثور على فيروس ارتجاعي اسمه PtERV1 والذي قد ترك آثاراً في جينوم الشمبانزي والغوريللا. كان هذا الفيروس ناشطاً منذ ما يقارب 3-4 مليون عام, إثر انفصال خطوط الشمبانزي والبشر. مع ذلك, لا يُبرز الجينوم البشري أيّ اشارة لهذا الفيروس PtERV1, على الرغم من أنّ اسلافنا قد سكنوا افريقيا في اللحظة التي كان الفيروس فيها يثبت اقدامه في جينوم اسلاف الشمبانزي والغوريللا.
صورة
يظهر أن مفتاح اللغز يكمن في البروتين المسمى TRIM5-alfa***, مع تغيرات مختلفة عند الرئيسيات. فكل نوع حيّ يقونن TRIM5-alfa مع نوعية مضادة فيروسية مختلفة. كمثال, يمتلك قرد المكاك الريسوسي بروتين TRIM5-alfa يجعله يقاوم فيروس HIV-1, بينما البروتينات البشرية لا تحمل حماية كتلك. مع هذا, فالبديل البشري ل TRIM5-alfa يحمي من الفيروس PtERV1. تكمن المشكلة بأن البروتين قد يوفر الحماية من فيروس, لكنه لا يوفرها لفيروسين بذات الوقت.
صورة
Macaco Rhesus
يكون ممكنا بأن اسلافنا لم يكونوا مصابين اطلاقاً ب PtERV1, لكن المقاومة المقوننة في جينومنا تكون قوية جداً بحيث تحدث طفرة حادثيّة لا علاقة لها بالعدوى. فالسيناريو الاكثر ترجيحا: هو أنّ الشمبانزي والبشر قد تعرضوا لتطور مستقل في بروتين TRIM5-alfa, وفي هذه الحالة, فقد قام الفيروس الارتجاعي PtERV1 بإنهاء البشر اللذين لم يمتلكوا مقاومة له. هذا ادى لترك باقين على قيد الحياة مُقاومين ولديهم مناعة ضد PtERV1, لكنهم حساسين تجاه فيروس قاتل آخر, سيتابع حضوره ملايين اخرى من الاعوام, انه: فيروس VIH.
دون أدنى شكّ, أمر يدعو للسخرية, اننا نستطيع مقاومة فيروس قد انقرض منذ 3 ملايين عام, بينما نحن الآن عاجزين عن حماية انفسنا من فيروس آخر, موجود بوقتنا الحاضر, ويعيث فساداً في نوعنا الحيّ.
هوامش
* فيروس القهقري فيروس من فصيلة الفيروسيات القهقرية Retroviridae الريبونية ذات جينوم وقطبية موجبة وأنزيم فيروسي يسمى المنسخة العكسية Reverse transcriptase ينسخ عكسيا الجينومات من صيغة الحمض الريبوني إلى الحمض الأكريبوني، ويشركها في جينومات الخلية، ولا يوبئ إلا خلايا الكائنات الفقاريّة.
قد يبلغ قطر الفيروس القهقري 120 نانومترا، وغلافه غني بالبروتينات.
** يمكن الاطلاع على تفاصيل اكثير حول الفيروس الارتجاعي وحيثياته بالانكليزية, هنا:
http://www.bio-medic...ion/Retrovirus/
*** يمكن القراءة عنه بالانكليزية هنا:
http://www.ncbi.nlm....?tool=pmcentrez
الهوامش منقولة ... يُرجى التدقيق
المقال الاسباني في القسم الاجنبي
تعقيبي
اتابع ترجمة هذه السلسلة المُمتعه حقاً, وقمت بترجمة العنوان باتجاه مُباشر للتعبير عن مضمونه, لانّ الكاتب الاسباني يستخدم تعابير ادبية لا تناسب لغتنا .. بمعنى لا تُوصل ذات المعنى, لذلك اضع كلام معبّر عن المضمون.
عادة ما يعتبر ناقدي التطور ضرورة وجود مصمم وراء هذا الكون وما فيه .. وعندما يُناقشون بعلل او عورات في التصميم: يبدؤون بارجاع اسباب العلل الى البشر ذاتهم, والايدز لحسن المصادفة انه من اكثر المواضيع المطروقة دينيا بحيث ان الشذوذ الجنسي هو المسؤول وبالتالي مخالفة صريح الايمان هو السبب .. والموضوع اعلاه يوضح كيف نشأ فيروس الايدز وكيف انتقل الى البشر .. وبكل الحالات آمل اضافة او تصحيح اي فكرة وردت.