ن بضع أشجار عجاف من الحَوْر القطني cottonwood لا تبعث الكثير من الإثارة عادة في دنيا الإيكولوجيا. ولكن في عصر أحد أيام الشهر الثامن، وقد اشتدت الريح في وادي لامار التابع لمتنزه يلوستون Yellowstone الوطني، وقف
[وهو أستاذ علم النبات بجامعة ولاية أوريگون] منتشيا هادئا في محاذاة شجرة حور قطني طولها اثنتا عشرة قدما، وأخذ يقول وهو يلوي تلك الشجرة الرشيقة كي يبين الحلقات التي تميز نمو سنة كاملة على جذعها: «تستطيع أن ترى ندبات البراعم الانتهائية، وأن ترى أن الأيائل elk لم ترعها في هذه السنة، كما لم ترعها في العام الفائت، وفي الحقيقة لم ترعها منذ عام 1990.»
يومئ <ريپل> إلى الوادي الجبلي المترامي من حولنا ويشير إلى أن هذه المجموعة من الأشجار الصغيرة ـ وإن كان العديد من أشجار الحور القطني ينتشر في المشهد الطبيعي ـ تضم الأشجار الفتية الوحيدة، وما بقية هذا الجزء من وادي لامار إلا تجمع للأشجار الشائخة. فالعينات الضخمة التي تنمو في قاع الوادي ذات أعمار تراوح ما بين 70 و 100 سنة، ولا تلوح في الأفق أشجار حور حديثة العهد. وأما على جانب التل فتعطي أشجار الحور الرجراج aspen صورة مشابهة. فثمة بساتين (أيكات) من أشجار حور رجراج مُسِنَّة تهتز تحت وطأة الرياح ولكنها تفتقر إلى شطوء sprouts تشق طريقها نموا في الطبقة ما بين ظلة الأشجار وسطح التربة.
ويعتقد بعض الخبراء أن هذه الأشجار كان يمكن أن تتلاشى تماما لو لم تظهر الذئاب في يلوستون. وفي هذا تكمن قصة رائعة عن كيفية عمل المنظومات البيئية ecosystems، وكيف أن إحداث تغير واحد يبعث جميع أنواع المفاجآت.
في أواخر شتاء عام 1995 جلبت مصلحة المتنزهات الوطنية ومصلحة الأسماك والحياة البرية الأمريكية 14 ذئبا بشاحنات وزلاجات إلى يلوستون. وكانت الذئاب الشهباء gray wolves من النوع Canis lupus الآتية من كندا أول ما استُقْدِم إلى يلوستون، لأن هذه الحيوانات كانت قد اختفت من هناك في وقت مبكر من القرن العشرين نتيجة الصيد. وفي عام 1996 أضيف 17 ذئبا كنديا آخر.
لقد أمل البيولوجيون أن يعيد الإدخال المجدد مزيج الحيوانات في يلوستون إلى حالة طبيعية أكثر مواءمة. فقد توقعوا على سبيل المثال أن تتخير الذئابُ العديدَ من الأيائل التي تعيش في المتنزه. فمنذ اختفاء الذئاب التي كانت تشكل المفترس الرئيسي الذي يحتل ذروة الهرم الغذائي في المنطقة كثر تعداد الأيائل. وقد سلك الجيل الجديد من الذئاب مثلما كان متوقعا؛ إذ تجوب المتنزه الآن ست عشرة مجموعة من الذئاب، تتألف كل منها من نحو عشرة حيوانات، وتقتل كل مجموعة منها أيلا واحدا كل يوم بالمتوسط. وبذلك تراجع تعداد الأيائل الذي كان قد تضخم إلى عشرين ألفا في تسعينات القرن الماضي إلى ما دون عشرة آلاف في عام 2004.
وكان لإدخال الذئاب هذا كثير من التأثيرات غير المتوقعة؛ إذ كانت وطأة هذه الحيوانات على الفلورا(2) flora والفونا(3) fauna في المتنزه عميقة جدا. وفي الواقع، كان اتساع التغيير كبيرا إلى حد أنه استقطب الباحثين من جميع أرجاء البلاد لدراسة التبدلات. ويقول [مدير مشروع الذئاب في يلوستون] «إن ما تراه هنا هو من تشكيل الذئاب. فلو أنك تجولت في هذا المتنزه بعد ثلاثين سنة من الآن لرأيته مختلفا تماما.»
إيكولوجية الخوف(**)
من جانبه يأمل <ريبل> أن يرى المزيد من الأشجار؛ إذ يعلِّق أثناء احتساء القهوة، في مطعم خشبي مريح قريبا من مقصورة بالقرب من المكان الذي يقيم فيه (خارج يلوستون) أثناء البحث الميداني، قائلا: «إنني أحب أشجار الحور الرجراج وأتحمس لها.» ويضيف بأن هذه الأشجار، من بين أشياء أخرى، تشكل أمكنة مثيرة للتنوع الحيوي biodiversity في غرب البلاد؛ إذ إنها موئل لتشكيلة منوعة من الطيور المغرِّدة. ولما سمع في عام 1997 أن أشجار الحور الرجراج تتراجع أعدادها في يلوستون من دون أن يعرف أحد سببا لذلك، قدم إلى هذا المتنزه ليحاول حل ذلك اللغز.
يشير <ريبل> إلى بعض الصور الفوتوغرافية (بالأبيض والأسود) المأخوذة لمكان بعينه في وادي لامار في زمنين بفاصل 50 سنة بينهما، قائلا: «يمكنك أن ترى أن أشجار الحور الرجراج والصفصاف الفتية كانت وفيرة في مطلع القرن العشرين، في حين توقف تجدُّدها ولم تعد هناك أشجار فتية في الثلاثينات من القرن نفسه.»
ويواصل بقوله: «لدي بارقة أمل.» لقد أَخَذَ عينات لُبِّية core samples من 98 شجرة من الحور الرجراج، فاكتشف أن شجرتين فقط كانتا بدأتا بالنمو بعد العشرينات من القرن العشرين، وهو يناهز الوقت الذي تمت فيه الإبادة الأخيرة الكبيرة للذئاب أو طردها من المكان. كانت الشجرتان في أمكنة تُحْجِم الأيائل عن ارتيادها خوفا من مهاجمة الضواري لها. لقد وجد <ريبل> أشجارا كبيرة وأشجارا صغيرة ولا شيء بين هذه وتلك، لأنه ما من شيء من هذا النبات نما في الفترة ما بين الثلاثينات والتسعينات من القرن العشرين في ذلك الموقع. لقد كان هذا أول دليل محسوس على «مفعول الذئب» wolf effect.
صورة
مطلع الربيع في وادي نهر لامار: بضعة ذئاب تطارد أيلا (إلكة) elk، فيما يراقب دب أشهب نتيجة المطاردة باهتمام. فالدببة الشهباء تستطيع طرد الذئاب بعيدا عن قنائصها، وكثيرا ما تلتهم البقايا بعد أن تملأ الذئاب بطونها.
تفيد نظرية «مفعول الذئب» هذه أن الذئاب أبقت أعداد الأيائل عند مستوى منعها من التهام كل شجرة حور أو صفصافة برز رأسها فوق الأرض. وحينما زال تهديد الذئاب في المتنزه زادت أعداد الأيائل والتهمت النبات فتعرى وادي لامار واختفى العديد من الأنواع النباتية الأخرى. فبدون الأشجار الصغيرة في المنطقة لن يتوافر للقنادس beavers على سبيل المثال غذاؤها، أو قد يشح. وفي الواقع، فقد تلاشت القنادس في هذا المتنزه منذ خمسينيات القرن الماضي على الأقل. وبانعدام سدود القنادس والبرك التي تكوّنها لم يعد يحيا إلا القليل من النباتات العصارية (اللحمية) succulents التي تعتبر غذاء أساسيا للدب الأشيب girzzly bear حين يستفيق من سباته الشتوي.
صورة
ذئب صغير يستشعر الجوار من حوله. بحلول منتصف الصيف تنضج الجراء بدرجة تسمح لها بمغادرة العرين
ومشاركة أبويها في تبادل العلاقات الاجتماعية مع الذئاب الأخرى.
وبعد إعادة إدخال الذئاب في عامي 1995 و 1996 بدأت أعدادها تتزايد بسرعة، وبدأ الباحثون يلاحظون تناقصا في أعداد الأيائل وتغيرا في سلوكها، إذ أخذت هذه الحيوانات الرشيقة ذات القامة الطويلة واللون البني الضارب إلى الحمرة (الماهوگاني mahogany) تقضي وقتا أقل في أغوار النهر ووقتا أطول في أمكنة تستطيع فيها مراقبة الذئاب المفترسة. فإذا صحَّت فرضية مفعول الذئب وكانت الذئاب تقلل أعداد الأيائل بشكل كبير فإن الكساء الخضري لا بد أن يكون آخذا في العودة أول مرة بعد سبعين عاما من انحساره.
سار <ريبل> بمحاذاة نهر لامار، وعلى مقربة من أحد أوكار الذئاب اجتاز مرتفعا صغيرا ثم باعد بين ستار أخضر كثيف من أشجار الصفصاف ليفتح فرجة فيه. وهناك على الأرض جمجمة وأضلاع وعمود فقري مُبَيضَّة bleached لأحد الأيائل، وتحوطها أشجار صفصاف تعلو إلى نحو ثلاثة أمتار. لقد وجد <ريبل> وزميله [المختص بالحراج في جامعة ولاية أوريگون] أن الأشجار والصفصاف تتعافى في يلوستون فيما تتزايد أعداد الذئاب. ولكن ذلك ما هو إلا جزء فقط من التغير الحاصل في المتنزه.
ها هي الأشجار تعود مجددا بشكل مثير في أمكنة غير مكشوفة وذلك مئة في المئة (360 درجة) أمام الأيائل أثناء الرعي. فهذه الصفصافات على سبيل المثال تقبع تحت مرتفع يحول بين الحيوانات وبين الرؤية الممتدة بلا عوائق. وتبين نظرة إلى هذه النباتات أنها لم تتعرض للرعي أبدا منذ سنوات. ويحاج <ريبل> بأن الأيائل لا تستشعر الأمان هنا لأنها لا تستطيع أن تستطلع ما يجري حولها ولأنها تكون قلقة من قضاء الوقت في هذا الجوار. ولكن ليس بعيدا بأكثر من 50 مترا، حيث الأرض مستوية ومكشوفة وتستمتع الأيائل فيها بالمشهد البانورامي، نجد أشجار الصفصاف أقل من المتر طولا وأنها تعرضت للرعي بوطأة مرهقة طوال الأعوام الثلاثة السابقة. ويقول <ريبلد> في هذا الصدد: «إنها إيكولوجية الخوف.»
نظرة إجمالية / عودة الذئاب(***)
▪ عمدت سلطة المتنزهات الوطنية وسلطة الأسماك والحياة البرية الأمريكيتين إلى إعادة الذئاب إلى متنزه يلوستون الوطني في عامي 1995 و 1996.
▪ يعتقد العديد من المراقبين أن الذئاب خفضت تعداد الأيائل في هذا المتنزه (إلى ما يقارب نصف عددها الآن)، وهذا بدوره استحث عودة نماء الكساء الخضري.
▪ أغرى ازدهار الكساء الخضري القنادس بالعودة فكونت سدودُها بركا مائية شجعت المزيد من الخضرة في المتنزه.
▪ سببت الذئاب كذلك تغيرات في حياة الحيوانات الأخرى في المتنزه، مثل: القيوط والدببة الشهباء والثعالب الحمراء والغربان وحتى الطيور المغردة.
المطاف الطويل للذئب(****)
تترافق إعادة نماء الكساء الخضري التي تحدث في لامار بتغيرات أخرى. ففي أعالي النهر مباشرة يوجد سد قندس صغير، وهو واحد من ثلاثة سدود تم توثيقها أول مرة على هذا النهر خلال خمسين عاما. أما نُهَيْر سلو Slough Creek الذي يرفد نهر لامار فعليه ستة سدود. ويعتقد كل من <ريبل> و<سميث> أن القنادس وَجدت ما تأكله بعد أن استعاد الكساء الخضري نماءه. ويقول <سميث>: «إن مخابئ طعامها تمتلئ بالصفصاف.» وثمة تغيرات أخرى عما قريب. فبينما تتنامى الأشجار الخشبية الخضراء على طول نهر لامار، ستستقر ضفافه ويتوقف الحت erosion. ويتنبأ <ريبل> بأن مزيدا من الكساء الخضري سيظلل هذا النهر ويبرده. وهذا يعني كذلك المزيد من الحطام الخشبي في لامار، وهذا سيبطئ النهر مسببا تجمع المياه وتحسين موائل سمك التروت trout مما سيؤدي إلى سمك أكثر عددا وأكبر حجما.
ومع أن التركيز العلمي قد انصب حتى الآن على الكساء الخضري، فيبدو أن تأثير الذئاب قد امتد إلى أجزاء أخرى بعيدة من الشبكة الغذائية لمتنزه يلوستون. ويتمثل أحد أهم تأثيراته في ما يحدثه في حيوانات القُيوط coyotes (ذئاب صغيرة). فعلى مدار ثلاث سنوات قبل إعادة إدخال الذئاب قام [وهو الآن عالم رئيسي في مركز يلوستون للبحوث الإيكولوجية الذي يُعد منظمة غير ربحية في بوزمان بمونتانا] ومعه زوجته [وكلاهما بيولوجي متخصص بالفصيلة الكلبية؛ التي تضم الذئاب أيضا] بجمع بيانات قاعدية baseline data عن المتنزه، لقد وجدا أن حيوانات القيوط ضحّت كثيرا لفسح المجال للذئاب.
صورة
بعدما وصلت الذئاب الكندية إلى يلوستون، نقلتها الزلاجات إلى حظائر إقامة مؤقتة معزولة داخل المتنزه المحمي.
لقد انخفضت أعداد القيوط في المتنزه إلى 50 في المئة، وفي المناطق التي تتركز فيها الذئاب انخفضت تلك الأعداد إلى 90 في المئة. كما أصبحت ذكور القيوط أصغر حجما مما كانت عليه قبل وصول الذئاب، وربما يكون ذلك حسبما يقول <كرابتري>: «لأن الأفراد الكبيرة كانت أكثر عدوانية فتحدت الذئاب وأفنيت.» وبتناقص أعداد القيوط تعاظمت أعداد فرائسها من فئران الحقل voles والجرذان والقوارض الأخرى، وهو ما أفاد الثعالب الحمراء والطيور الجارحة. ولكن الثعلب الأحمر يفترس الطيور المغرِّدة كذلك، وهكذا فإن المزيد من الثعالب يعني ازدياد الوطأة على الطيور.
ذئاب مستوردة(*****)
لغرض إعادة الذئب الرمادي الأمريكي الشمالي إلى موطنه السابق في متنزه يلوستون الوطني، عمد البيولوجيون إلى أسر ذئاب من منطقتين في كندا (انظر الخريطة في الأسفل) ونقلوها إلى المتنزه. لماذا نقلت هذه الحيوانات عبر حدود دولية مادامت الذئاب موجودة في مونتانا؟ كان الباحثون قد قرروا أن الذئاب الأكثر احتمالا للنجاح هي تلك التي تعرف كيف تصطاد حيوانات متنزه يلوستون. فالذئاب الكندية تفترس الأيائل (الإلكة) بصفة أساسية، وهي التي ستكون مصدر الغذاء الرئيسي في يلوستون. أما ذئاب الولايات المجاورة فغالبا ما تفترس الظباء.
أمضت الذئاب الأحد والثلاثون، التي تم شحنها في عامي 1995 و 1996، الشهرين الأولين (في وطنها الجديد) في حظائر تأقلم منعزلة مساحتها تقارب الفدان acre. وجُعل اتصالها بالبشر في حده الأدنى لمنع الذئاب من الاعتياد على البشر، مع أن الذئاب قلّما تطور مثل هذا السلوك (الذي غالبا ما يشاهد عند الدببة الشهباء). كان الهدف إطلاق وحدات اجتماعية يمكنها أن تصبح مجموعات تكاثر بدلا من أن تكون ذئابا تعيش فرادى. وفي الوقت نفسه، أراد البيولوجيون إحداث تنوع diverity جيني كاف لتفادي مشكلات الاستيلاد الداخلي inbreeding، الأمر الذي كان وراء اختيارهم حيوانات من بضع جماعات من الذئاب في مقاطعتين كنديتين مختلفتين.
يبدو أن الخطة بمجموعها تمت وآتت ثمارها حسب المأمول. ففي نهاية عام 2003 شكلت الذئاب الدخيلة 16 مجموعة بلغ مجمل تعداد أفرادها 170. وبعد أقل من عشر سنوات على إعادة إدخال الذئاب، تتوجه الحكومة لإنهاء الحماية الفدرالية المندرجة في مرسوم الأنواع الحية المهددة بالانقراض فيما يخص الذئاب، وهي عملية تعرف باسم «النزع من القائمة» delisting. ويأمل أصحاب مزارع الماشية، الذين تشكل مواشيهم فرائس سهلة للذئاب، أن يروا الذئاب تخرج من قائمة الحماية في أسرع وقت. ولكن بعض المدافعين عن الذئاب يعتقدون أن الحماية لاتزال ضرورية. ويشكل هذا الأمر أحدث نقاط الخلاف القديم بين أصحاب مزارع الماشية وأنصار الحياة البرية.
صورة
وكذلك فتحت الذئاب الباب مشرعا أمام «سوق يلوستون للحوم». فالدببة الشهباء أو الأسود الأمريكية قلَّما تهاجم الأيائل الكبيرة، مع أنها تأكل عجول الأيائل وتتغذى بجثث الحيوانات التي قتلها برد الشتاء؛ فيما الذئاب، في المقابل، تقتل الأيائل الكبيرة باستمرار. وبعد أن تملأ بطونها، تتطوح متخمة باللحم وتخلد للنوم أو يزيحها عن قنيصتها دب أشهب. فوجود الذئاب أدى إلى توفير المزيد من اللحم في البراري. وبالطبع فإن جميع أشكال الحيوانات القمّامة scavengers تعيش على هذه الجثث، وتعكس زيادة أعداد جميع الكائنات (من الدببة الشهباء حتى طيور العُقق) هذا الثراء. لقد سُجّل هنا أكبر عدد من الغربان تجمع على قنيصة (135 غرابا). ويقول <سميث>: «نرى العقاب الأصلع والعقاب الذهبي والقيوط والغراب وطائر العقعق فوق كل طريدة. ولا أدري ماذا كانت تفعل قبل أن تظهر الذئاب على المسرح.»
ولكن هل تُعدّ الذئاب حقا الآلة المسيرة لهذه التغيرات؟ يعتقد معظم العلماء أن الأمر كذلك. ويقول <سميثد>: «أهمية الذئاب بالنسبة إلى يلوستون مثل أهمية الماء لمنطقة إيڤرگليدز(4) Everglades.» فكلاهما يعد القوة الأساسية المسؤولة عن تشكيل shaping النظام البيئي. وفي متنزه بانف Banff الوطني بكندا وثق العلماء تغيرات سببتها الذئاب التي عادت من تلقاء نفسها إلى هذا المتنزه في ثمانينات القرن العشرين، تمثلت في عودة ظهور الصفصاف وتضاعف تنوع الطيور المغردة وغزارتها. وهاهم الباحثون يأتون اليوم إلى يلوستون للبحث عن بعض الدلائل الأولى على أثر الذئاب في المناطق الواقعة بالقرب من ضفاف النهر. وتوجد ستة مشروعات على الأقل تجمع البيانات.
ولكن بعض الباحثين توترهم تأثيرات الذئاب؛ إذ يقول <كرابتري>، على سبيل المثال، صحيح أن الصفصاف عاد إلى المنطقة وتشير الصور إلى أنه يعاود نموه بشكل مثير، ولكن الارتباط القوي بين عودة الذئاب وهذا النمو الجديد للصفصاف لم يثبت بتاتا. ويشرح قائلا: «إن الادعاء بأن الذئاب هي المسؤولة يفتقر إلى العلم المنهجي. فالنظام البيئي في يلوستون هو نظام متعدد الأسباب المتآثرة multicausal interactive system ولا يستند إلى سبب وحيد إطلاقا. ويندر أن يكون هناك سبب مهيمن. وفي الوقت الذي كانت أعداد الذئاب تتزايد، كان هناك فيضان على طول النهر وكان الطقس أكثر حرارة. ربما كان للذئاب دور ما، ولكن هذا الدور شوشته تلك العوامل وسيمضي عشرون عاما أو أكثر قبل أن نعرف الحقيقة بشكل قاطع.»
صورة
أنثى الأيل مع صغيرها يرقبان بيقظة ما في الجوار من ذئاب. ومنذ أن تم إدخال الذئاب مجددا في يلوستون يختفي في كل ربيع مزيد من الصغار نتيجة الافتراس. وقد قل تعداد الأيائل إلى النصف تقريبا مقارنة بما كان موجودا قبل إعادة الذئاب إلى المتنزه مباشرة.
صورة
قيوط وعقائق magpies تتغذى بقنيصة من الأيائل قتلتها الذئاب. وغالبا ما ترافق الغربان هذه الحيوانات لتأكل الفتات المتبقي من قنائص الذئاب، الأمر الذي يذكرنا بالمتوالية المعهودة في الساڤانا الإفريقية: الأسود والضباع والنسور.
إن باحث بيئي عمل في دراسة لصالح الأكاديمية الوطنية للعلوم حول يلوستون نُشرت في عام 2002. ويلاحظ <پاتن> أن يلوستون لم تعش شتاء قاسيا منذ حققت أعداد الذئاب مستويات عالية، وأن الأيائل قد لا تكون احتاجت إلى أن تلجأ إلى الأشجار طلبا للغذاء. ويقول في هذا الصدد: «حين يكون الشتاء قاسيا تغامر الأيائل بالتهام أي شيء لتملأ بطونها. أعطني شتاءين قاسيين متتالين، وعندئذ سأقبل بوجود ارتباط بين عودة الذئاب والنمو الجديد للصفصاف.»
إن النقاش حول تأثير الذئاب في الأيائل يثير جدلا طويل الأمد فيما يتعلق بالطريقة المناسبة لتدبير الأيائل في يلوستون وإدارتها. وفي وقت من الأوقات اعتقدت سلطة المتنزهات أن أعداد الأيائل كانت كبيرة جدا فأرسلت في الستينات من القرن الماضي صيادين لقتل الآلاف منها ضمن برنامج باسم «التخفيض المباشر» direct reduction. وبحلول نهاية ذلك العقد انخفضت أعداد الأيائل إلى نحو 4000. ولكن احتجاج الجماهير أنهى قتل الأيائل. وتبنَّت سلطة المتنزهات منذ السبعينات سياسةً للتنظيم الطبيعي في المتنزهات البرية (مثل يلوستون)، تتلخص في فلسفة للإدارة تكف اليد الثقيلة الوطأة للإنسان وتدير المتنزهات «كمصورات فطرية للولايات المتحدة.» ومنذ ذلك الحين تنامت أعداد الأيائل.
لعقود عديدة وحتى الآن، بقي الناقدون بما في ذلك سكان ولاية مونتانا، يستنكرون سماح السلطة الوطنية للمتنزهات باكتظاظ مناطق عشبية واسعة بحشود الأيائل. وهم يجادلون بأن ترك الطبيعة تأخذ مداها فيما يعتبر ـ بالتأكيد ـ وضعا غير طبيعي هو عمل أحمق. ويضيفون إلى ذلك أن القليل فقط من الأيائل ستقضي الشتاء في مثل هذه الارتفاعات الشاهقة إذا كان بمقدورها الارتحال نحو السهول. وبدلا من ذلك فإن ضغط الصيد في المساحات المحيطة يدفع بها إلى الاحتشاد في المتنزهات.
هذا ويؤكد بعض الباحثين أن عودة الكساء الخضري على امتداد ضفاف النهر (عن طريق إنقاص أعداد الأيائل) تُضَعْضِع زعم سلطة المتنزهات المستمر بأن تعداد الأيائل في يلوستون هو ضمن الحدود الطبيعية. ولكن <سميث> يدافع عن وجهة نظر المتنزه ويرى أن هناك طرقا أخرى للنظر إلى الأمر. فأعداد الأيائل ستتذبذب بشكل واسع مع مرور الزمن بحسب قوله، ومع أن هذه الأعداد ربما كانت ـ ولاتزال ـ كبيرة، فإنها «ستكون ضمن الحدود الطبيعية على الأمد الطويل.»
صورة
يتعافى الكساء الخضري في المتنزه بسبب تناقص أعداد الأيائل. إن أشجار الحور القطني الناضجة هذه، تعززها الآن بادرات وأشجار صغيرة يمكنها ـ لولا الغزارة المفرطة للأيائل ـ أن تواصل نموها حتى النضج.
صورة
أغرى الكساء الخضري المزدهر (لا سيما صفصاف العرائش) القنادس على العودة إلى المتنزه. لقد أنشأت هذه القنادس برك ماء شجعت على نمو المزيد من الكساء الخضري، وغيرت مجرى بعض الجداول.
وفي تضاد مع هذا الدفاع، يرى وهو مؤلف كتاب "Playing God in Yellowstone" عام 1986 الذي انتقد بقسوة سياسة التنظيم الطبيعي، بأن قول سلطة المتنزهات بمثل هذا الرأي أمر سخيف. فهو لم يجد دليلا واضحا على وجود تعداد كبير للأيائل في نَجْدِ يلوستون Yellowstone Plateau في الماضي، ويشير إلى أنه في الفترة ما بين العامين 1872 و 1920 أنشئ المتنزه وقمعت تعديات الصيد وطُرد الأمريكيون الأصليون وقامت مصلحة المساحة البيولوجية في الولايات المتحدة بقتل الذئاب. لقد جرى هذا حين بدأ تعداد الأيائل بالتضخم وحدث انفجار عددي غير طبيعي.
ومع أن المحكَّمين ما انفكوا يدرسون تأثيرات الذئاب فإن الدلائل المبكرة توحي بقوة إلى أن فصيلة الكلبيات canids تُعَدُّ بيولوجيِّي استعادةٍ غير عامدين(5). فهي من خلال ما تقوم به (أي افتراس الأيائل بشكل رئيسي) تسبب تغيرات كبيرة في نظام يلوستون البيئي. ويُعَد العديد من هذه التغيرات إيجابيا لتلك الأشياء التي يهتم بها البشر. وإذا ما حاول الخبراء تحقيق بعض هذه الأهداف فسيكون ذلك أمرا مكلفا للغاية.
لقد جلبت الذئاب معها دروسا أخرى. إنها توضح بشكل مثير التوازن الذي تصونه ضواري قمة السلسلة الغذائية وتؤكد ما هو مفقود في معظم أنحاء البلاد التي تم فيها اجتثاث الضواري. إنها مثال للتأثيرات المجهولة وغير المقصودة لعمق تأثير فعلٍ ما في نظام بيئي ما. والأكثر من ذلك أهمية، أن ذئاب يلوستون تضع في بؤرة الاهتمام أفكارا ضبابية حول كيفية عمل النظم البيئية بطريقة لم تحظ يوما بهذا القدر من دقة التوثيق. ومثلما يتردد صدى أفعال الذئاب في أرجاء يلوستون فإن هذا الصدى سيتردد في المستقبل مادام يساعد على زيادة فهمنا للنظم الطبيعية.