abdo ثـــــــــــــــائر
الجنس : عدد المساهمات : 68 معدل التفوق : 176 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 28/01/2012
| | هابرماس ومسالة التقنية | |
هابرماس ومسالة التقنيةسالم يفوت مقدمة ينتمي يورغن هابرماس(*)
I ürgen Habermas إلى الجيل الثاني من مدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية. فقد دأب مؤرخو الفلسفة الألمانية المعاصرة في القرن العشرين على تقسيم مراحل تطور النظرية النقدية إلى مرحلتين أساسيتين : المرحلة الأولى وهي التي تأسست فيها النظرية النقدية على يد كل من هوركهايمرMax Horkheimer وأدورنو Theodor Adorno ثم ماركوزH. Marcuse ؛ والمرحلة الثانية يمثلها هابرماس بشكل أساسي. فقد أمد مدرسة فرنكفورت بدماء جديدة نتيجة تأثره بمصادر فلسفية معاصرة أخرى وإطلاعه الجيد على المناحي الفلسفية المعاصرة في فرنسا ممثلة في فلسفات الاختلاف خصوصا مع ميشال فوكو وجاك دريدا. ولعل كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة يعتبر أروع شاهد على ذلك. فقد حاول فيه هابرماس تحليل ودراسة أكثر النصوص الفلسفية التي أدمجت في صيرورتها أسئلة الحداثة ابتداء من فلاسفة الأنوار وكنط إلى دريدا، دون إغفال أي نص تناول مسألة الحداثة من أفق الاتفاق مع فكر الحداثة أو الاختلاف معه. ومن هذا المنظور اختلف هابرماس مع فلاسفة ما بعد الحداثة، ومع دريدا بالذات معتبرا أنهم يمثلون تيارا مناهضا للحداثة، لكن دون أن يبتعد عنهم نـهائيا أو يعتبر نفسه نقيضا لهم. "ففي الوقت الذي تنفصم فيه العرى الداخلية بين تصور الحداثة والأسلوب الذي يتم به فهم تلك الحداثة نفسها في أفق العقل الغربي، يغدو ممكنا إضفاء بعض النسبية على عمليات التحديث المتواصلة بشكل أوتوماتيكي تقريبا، واعتماد نظرة الملاحظ ما بعد الحداثـي الانتقادية"1.من كنط الذي سمح نسقه الفلسفي بانفتاحات فكرية لتدشين أول نظرة فلسفية في الحداثة مع هيغل، كما يعتقد هابرماس، إلى دريدا الذي يعبر عن لحظة فكرية من لحظات ما بعد الحداثة القائمة بشكل من الأشكال، على استلهام نمط السؤال النيتشوي(نسبة إلى نيتشه)، مرورا بماركس وماكس فيبرM.Weber وهايدغر والنظرية النقدية وبياجي وغيرهم..استنادا إلى كل هذا الركام الفلسفي والعلمي، وانطلاقا من الرغبة في جعل النظر الفلسفي أكثر إلتصاقا بواقعه وأكثر نقدية في عالم تنتصر فيه النزعات الوضعانية والذرائعية ويتم فيه إقصاء كل فكر نقدي، أراد هابرماس إعادة بناء النظرية النقدية بشكل يجعلها تستجيب أكثر للمعطيات الجديدة.وقد اعتمد في عملية إعادة البناء تلك على أعمال الفيلسوف هربرت ماركوز، خصوصا منها كتابه الإنسان ذو البعد الواحد. ولعل كتاب هابرماس: التقنية والعلم كإيديولوجيا2 هو الكتاب الذي يدشن المرحلة الثانية من مراحل تطور مدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية. فقـد عثر هابرماس في أعمال ماركوز على العديد من العناصر التي وظفها في مشروعه الفلسفي ومناسبة للابتعاد قليلا عن النظرية النقدية الأولى. منـذ نـهاية الكتاب وهو منشغل بنظرية العقلنة: عقلنة الحياة والمجتمع الحديثين.كما أصدر هابرماس، في السنة نفسها التي أصدر فيها كتاب التقنية والعلم كإيديولوجيا، كتابا آخر يتناول نفس الموضوع تقريبا، إنما ببعض الإسهاب ومن منظور أكثر تجذرا في تاريخ الفلسفة، عنوانه: المعرفة والمصلحة3. وبهذا العنوان كذلك كان هابرماس قد ألقى سنة 1965 درسا افتتاحيا بجامعة فرنكفورت، ثم نشره ثلاث سنوات فيما بعد ضمن كتابه التقنية والعلم كإيديولوجيا.إن ما سوف ينصرف إليه اهتمامنا في هذا البحث هو تناول موقف هابرماس من الحداثة والتقنية ومن مختلف التيارات الفلسفية لمعاصرة المناصرة للعلم، وأبرزها الوضعانية المحدثة، أو المؤيدة للتقنية تأييدا يصل إلى حد الإعجاب. في أصول مناهضة الوضعانيةإن معايشة هابرماس لمجهودات التحديث في ألمانيا، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، ولمرحلة البناء المسترشد بالعقلانية، حيث الخطاب الثقافي والسياسي يكبت السؤال ويقصى النقد، دفعته إلى اختيار الاستمـرار في تقليد ثقافي وفلسفي ألماني يتخذ من السلب والنفي والنقد مبدأه الموجه ويجعل من الفلسفة أداة لتفكيك الأفكار والمعتقدات الرائجة والمتداولة ومحاكمة الفكر الوضعاني الذي يكن له عداء نظريا مكينا4.ولو بحثنا عن أصول ذلك العداء لوجدناها منغرسة في أعماق الخيار النقدي لمدرسة فرنكفورت، وتضرب بجذورها فيها. فبالرجوع إلى أسئلة النظرية النقدية يتبين للمرء أن نقد الوضعانية شكل هاجسا أساسيا لدى دُعاة تلك النظرية،المتقدمين منهم و المتأخرين. فالكشف عن الآليات النظرية والتاريخية والعلمية التي حكمت الفكر الوضعاني، والكشف عن إرادة القوة التي كانت تحايث تلك الآليات استدعى منهم جميعا القيام بحفريات الجنوح العلموي لدى النزعات الوضعانية. وسوف نكتفي هنا بنموذج منهم، نعتبره بليغا، هو نموذج هربرت ماركوز (1898-1986).فقد خصص هذا المفكر العديد من مؤلفاته لنقد كل أشكال الاستقطاب، وعلى رأسها الاستقطاب العلموي والتقني، باعتبار التقنقراطيـة الوجه الآخر للفلسفة الوضعانية. فإذا كان أفلاطون أراد أن يجعل من الفلاسفة سادة، فإن التقنوقراطيين يريدون أن يجعلوا مـن المهندسين مجلس إدارة مديري المجتمع"5.ففي كتابه العقل والثورة6 يؤكد أن الوضعانية من حيث اشتقاقها تعني مذهب الإيجاب والقبول Positivisme، وهما أمران يجب أن يفهما في معناهما السياسي والإيديولوجي في سياق القرن التاسع عشر في فرنسا بالذات بعد الثورة الفرنسية. إن الإيجاب كان يعني قبول الأوضاع الراهنة والوقوف منها موقف الرضا والمناصرة؛ خلافا للرفض أو النفي الذي كانت تحمل لواءه فلسفات أخرى عاصرها أوغست كونت (1798-1857)، رائد الوضعانية، في فرنسا أو خارجها، أبرزها فلسفة هيغل (1770-1831) التي كانت ترتكز على فكرة السلب والتناقض، وهو ذات الاتجاه الذي سـار فيه ماركس (1818-1882) فيما بعد مع تعديله كي يستقيم على قدميه. هذا فضلا عن الفلسفات الاشتراكية الخيالية في فرنسا كفلسفة سـان سيمون (1760- 1825) ومذهب برودون (1809-1865) الفوضوي. إنـها اشتراكيات تستند إلى فلسفة اجتماعية رافضة تتخذ موقف الرفض من الأوضاع الراهنة ومن النظم الاجتماعية القائمة كما يدعو إلى تغييرها تغييرا جذريا في الوقت الذي اكتفت فيه الوضعانية مع كونت بالدعوة إلى الإصلاح في إطار ما هو قائم وما هو موجود. لذا فإن الإعجاب بالعلم ومعاداة الفلسفة لدى هذا المفكر لا يمكن أن تفهم إلا في هذا السياق، سياق الهجوم المرير على فلسفات السلب والرفض ممثلة في المذاهب الفلسفية الاجتماعية التي عرفت انتشارا في فرنسا، وفي فلسفة هيغل واليسار الهيغلي في ألمانياإن الوضعانية، مع أوغست كونت، لا يمكن أن تفهم على أفضل نحو ما لم نستحضر الخصم الذي كانت هاته الفلسفة تواجهه. فقد جاءت كرد فعل واع على الاتجاهات النقدية الـهدامة في فرنسا وألمانيا. وهـو رد فعل اتخذ طابعا مريرا بوجه خاص في ألمانيا فقد تم وصف مذهب هيغل، لقاعدتـه النقدية، بأنه فلسفة سلبية تنفي أي واقع لا معقول. لكن رد الفعل الإيجابي (= الوضعاني المحافظ) رأى في محاولة هيغل قياس الواقع وفق معايير العقل المستقل وتحديا للنظام القائم وبحثا عن إمكانيات الأشياء دون معرفة واقعها الفعلي لأنها تقتصر على الصور المنطقية ولا تصل إلى العمق الفعلي الذي لا يمكن استنتاجه في هاته الصور. إن الفلسفة السلبية، نظرا إلى بنائهـا التصوري، "تنفي" (أو تنكر) الأشياء على ما هي عليه. فالأمور الواقعة التي تؤلف الوضع القائم أو الحالة الراهنة، حين ينظر إليها في ضوء العقل، تصبح سلبية، محدودة، عارضة -أي تصبح صورا زائلة داخل عملية شاملة تؤدي إلى تجاوزها. وهكذا نظر إلى الجدل الهيغلي على أنه أوضح أنموذج لكل سلب هادم لما هو معطى…"7. حارب كونت أيضا هذا النمط الفرنسي من الفلسفة السلبية، أي ضد تراث ديكارت وعصر التنوير.ولعل النقطة التي يصبح فيها الارتباط واضحا بين وضعانية القرن التاسع عشر والوضعانية المحدثة هي توجيه الفكر نحو الأمور الواقعة، ورفع مكانة التجربة بحيث تصبح هي صاحبة القول الفصل في كل معرفة8.تجدر الإشارة أيضا إلى أن المشروع الذي قدمه كونت لبناء علم اجتماع جديد على أسس منهجية جديدة، كان الهدف منه فصل النظرية الاجتماعية عن ارتباطها بالفلسفة السلبية ووضعها في فلك المذهب الوضعاني (= الإيجابي). وفي الوقت ذاته تخلى كونت عن الاقتصاد السياسي بوصفه عماد النظرية الاجتماعية، وجعل من المجتمع موضوعا لعلم مستقل، وهو "علم الاجتماع"9.والحقيقة أن الخطوتين كانتا مترابطتين: فعلم الاجتماع أصبح علما نتيجة تخليه عن وجهة النظر المتعالية للنقد الفلسفي. وأصبح ينظر إلى المجتمـع الآن على أنه مجموع مركب من الوقائع متحدد بدرجات متفاوتة، تحكمه قوانين عامة بدرجات متفاوتة ـ أي أنه مجال يعامل كأي مجال آخـر للبحث العلمي. ورأي كونت أن التصورات التي تفسر هذا المجال يجب أن تستمد من الوقائع التي يتكون منها هذا المجال، أما مضمونات التصورات الفلسفية التي تحاول أن تصل إلى أبعد من ذلك فينبغي استبعادها.هكذا يرى ماركوز أن اسم الوضعانية (= الإيجابية) اسم سجالي، أي لا يمكن أن يفهم إلا في سياق خلافي واختلافي، أي لا يفهم إلا باستحضار الخصم الذي كان يحاربه. حينئذ يتبين للمرء أنه نحت للدلالة على ذاك التحول من نظرية فلسفية إلى نظرية تريد أن تكون علمية10. فحلول الملاحظة محل التأمل في علم الاجتماع عند كونت، يعني تأكيد النظام بدلا من أي خروج على النظام؛ وهو يعني سلطة القوانين الطبيعية بدلا من الفعل الحر، والتآزر بدلا من اختلال النظام. والواقع أن فكرة النظام، التي كانت أساسية في مذهب كونت الوضعاني، لها مضمـون شمولي في معناها الاجتماعي، فضلا عن المنهجي، ولقد كان التأكيد المنهجي ينصب على فكرة علم موحد، وهي نفس الفكرة التي تسيطر على التطورات الأخيرة للوضعانية11.ينعت ماركوز الوضعانية، أو الفكر الإيجابي، في موضع آخر، بأنها فلسفة أحادية البعد12 تعكس تطور المجتمع الأحادي البعد الجديد وأشكال الرقابة التقنقراطية فيه. ثمة إذن طابع إيديولوجي ملازم لكل جنوح وضعـاني وعلموي، فربط صدق الفكر والمعرفة باختيارهما الواقعي، وجعل العلوم الفيزيائية نموذج اليقين والدقة، والاعتقاد بأن تقدم المعرفة منوط بالاحتداء بذلك النموذج، كلها علامات على انتصار معايير الواقع التكنولوجي حيث يتحول العالم إلى عالم أدوات ومنافع ومصالح. لذا فإن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة ويشهد على التقدم التقني هو الرفاه، والفعالية وافتقاد الحرية الفردية. "وهل ثمة ما هو أكثر عقلانية من إلغاء الفردية عن طريق مكننة الأعمال الضرورية اجتماعيا، لكن الشاقة ؟"13. إن لغة الفعالية والإنتاجية هي لغة النظام التكنولوجي. وحتى الحقوق والحريـات التي كانت عوامل أساسية في المراحل الأولى من المجتمع الصناعي تقل أهميتها وحيويتها في مرحلة أكثر تقدما، وتفرغ من مضمونـها التقليدي. "فقد كانت حرية الفكر والكـلام والضمير ـ شأنـها شأن المشروع الحر الذي كانـت تخدمه وتذود عنه ـ تـهدف هي المكونة في جوهرها من أفكـار نقدية إلى استبدال ثقافة مادية و فكرية بالية بثقافة أخرى أكثر فعالية وعقلانية. وعندما أخذت تلك الحريات والحقوق صفة المؤسسات شاطـرت المجتمع الذي أصبحت جزءا لا يتجزأ منه، مصيره وبكلمة واحدة، إن الإنجاز يموه المقدمات".[1]يصف ماركوز المجتمع الصناعي المعاصر بأنه مجتمع يضفي صفة العقلانية على اللاعقلانية؛ باعتباره مجتمعا تسنده حضارة منتجة، ناجعة، قادرة على زيادة الرفاه وعلى إضفاء صفة الحاجة على ما هو زائد عن الحاجة وتحويل ما هو كمالي إلى ما هو ضروري والهدم إلى البناء. وبمقدار ما تحول الحضارة القائمة عالم الشيء إلى بعد للجسم والروح الإنسانيين، يصبح مفهوم الاستلاب بالذات إشكاليا. فالناس يتعرفون على أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في سيارتهم وجهازهم التلفيزيوني الدقيـق الاستقبال، وفي بيتهم الأنيق وأدوات طبخهم الحديثة. إن الآلية التي تربط الفرد بمجتمعه قد تبدلت هي نفسها، والرقابة الاجتماعية تحتل مكانـها في قلب الحاجات الجديدة التي ولدتـها.[2]فالأشكال السائدة من الرقابة الاجتماعية هي أشكال تكنولوجية بمعنى جديد. ومما لا ريب فيه أن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد ساهمتا، في المرحلة الحديثة الراهنة، في إخضاع السكان لتقسيم العمل الحالي. ولكن الرقابات التقنية غدت اليوم تعبيرا عن ذات العقل الذي أصبـح خادما لكل الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث وأن كل تناقض يبدو لا عقلانيا وكل معارضة مستحيلة.[3]يعتبر ماركوز أن ثمة رابطة ما بين العقل ما قبل التكنولوجي، والمتجلي في علاقات التبعية في أشكالها السابقة على العصر الصناعي، والعقل التكنولوجي. فإذا كان تميز العلاقات الأولى هو طابع التبعية الشخصيـة فإن ما يميز هذا العقل الأخير هو استمرار التبعية، إنما في لون جديد، إذ يحل محـل التبعية الشخصية، شيئا فشيئا نوع آخر من التبعية : تلك التي تخضـع المرء "لنظام أشياء موضوعي"، ويعني به القوانين الاقتصادية وقوانين السـوق وغيرها… ولئن كان "نظام الأشياء الموضوعي" من صنع السيطرة ونتائجها هو الآخر، فإن السيطرة تعتمد الآن على درجة أكبر من العقلانيـة، عقلانية مجتمع يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت ذاته وبصفة أنجع الموارد الطبيعية والفكرية ويوزع على نطاق متعاظم باستمرار أرباح هذا الاستغلال. نحن نحيا ونموت تحت راية العقلانية والإنتاج، كما يقول ماركوز، إنها إيديولوجية النظام الاجتماعي التكنولوجي الذي يرهن العقل النظري بالعقل العملي انطلاقا من أنـهما متمايزان ومنفصلان ومـن أن الحياد الذي هو جوهري وأساسي بالنسبة إلى العلم الخالص، يمكن نسبتـه أيضا إلى التقنية. فالآلة لا تبالي بالاستعمالات الاجتماعية التي صنعت من أجلها، وأن كل المطلوب أن تتفق هذه الاستعمالات مع الإمكانيات التقنية للآلة. بيد أن هذا التصور لا يبدو مطابقا للواقع. فالعلاقة القائمة بين العلمي وتطبيقه، بين عالم الإنشاء العلمي وعالم الإنشاء والسلوك، وثيقة جدا وتخضع لمنطق واحد وعقلانية واحدة : منطق السيطرة وعقلانيتها.[4]يقيم ماركوز البرهان على الطابع الأداتي النزعة للعقلانية الاجتماعية، ذلك الطابع الذي يجعل منها قبليا وبشكل مسبق تكنولوجيا، والتأكيد على أن هاته الأخيرة شكل من أشكال الرقابة والسيطرة الاجتماعية.[5]يقول ماركوز : "إن التكنولوجيا المعاصرة تضفي صيغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل "تقنيا" أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يختار أسلوب حياته. وبالفعل، إن نقص الحرية لا يطرح نفسه اليوم على أنه واقعة لا عقلانية أو واقعة ذات صبغة سياسية، وإنما يعبر بالأحرى عن واقع أن الإنسان بات خاضعا لجهـاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل. إن العقلانية التكنولوجية لا تضع شرعية السيطـرة موضع اتهام، وإنما هي تحميها بالأحرى والأفق الأداتي النـزعة للعقل يطل على مجتمع كلي استبدادي موسوم بالسمة العقلانية".[6]يتبين، إذن، أن التقنية ليست شيئا محايدا عديم اللون والطعم والرائحة. كما أنـها ليست مجرد تطبيق عملي لممارسة نظرية هي العلم. إنـها منطق أو وضع أو موقف فلسفي أوإيديولوجي. ليست آلات وأدوات ووسائل عمل، في يد الإنسان، بل إنها أدوات ووسائل تكرس منطق السيطرة وتكشف عصر التقدم التقني وأيديولوجيا النظام التكنولوجي.ثمة مشابـهات بين هذا الموقف الذي دافع عنه ماركوز ثم هابرماس، وموقف الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر M. Heidegger الذي يعتبر الوضعية الأساسية للأزمنة الحديثة هي "الوضعية التقنية"، ولأن العصـر عصر تقني. فالتقنية شكل من أشكال الحقيقة وكيفية من كيفيات الوجـود، أو نمط من أنماط تجلياته.إنه موقف يصبّ في القول "بلا حيادية" التقنية، خلافا للموقف الماركسي الذي يعتبرها مجرد تطبيق للعلم.[7]لقد تبلور هذا الموقف من التقنية والعلموية، بداية مع كل من هوركهايمروأدورنو في كتابهما جدل العقل الذي خصصناه لنقد تجليات الحداثة التقنية.[8] التقنية والعلم كإيديولوجياينفي هابرماس وجود حياد أو براءة أو صفاء علمي. فالعلم في سياق العقلانية التقية تحايثه حسابات السياسة أي إرادة قوة بالمعنى النتشوي، ينبغي إخراجها إلى واضحة النهار. وهو أمر يتطلب نقد الوضعانية والتيارات المعجبة بالعلم والنـزعة التقنية. فهاته جميعا تعبيرات متنوعة للإيديولوجيا المكونة للحداثة التقنية.تعتبر الوضعانية، في نظر هابرماس، تعبيرا عن ذلك الجنوح إلى تحنيط العلم لدرجة يتحول معها إلى إيمان جديد واثق من قدرته الهائلـة على تقديم أجوبة لكل الأسئلة المطروحة واقتراح حلول ناجعة لكل القضايـا. أما النـزعة التقنية فهي الجنوح إلى اعتبار التطبيق العملي للمعرفة العلمية هو وحده الكفيل بأن يقدم المجتمع ؛ بل إنـها تنظر إلى التقنية نظرة أداتية محيلة إياها إلى وسائل محايدة قوامها التوظيف العملي للمعرفة العلمية ومتناسية أن التقنية تحول الإنسان نفسه إلى وسائل وأدوات، فتقمع طاقاته الإبداعية والتحررية. بـهذا المعنى تكون إيديولوجيا ينبغي انتقادها من خلال نقد الحداثة والمجتمع الحديث الذي يجمع بين العلم والتقنية والصناعة وحول ذلك إلى "قوة منتجة أولى". فمنذ أن تحول العلم إلى قوة منتجة ذات وظائف اجتماعية، بات قوة إيديولوجية باعتباره يلعب دورا أساسيا في منح المشروعية للنظام الاجتماعي والسياسي الحديث المؤسس على العقلانية التقنية.يضع هابرماس على عاتقه، إذن، مهمة كشف الغطاء عن الوهم العلموي والتقنوي الذي يجعل النموذج التقنوقراطي النموذج الأسمى في العلاقة بين القرار السياسي والمعرفة العلمية.[9] وقد حاول في النص الأساسي الذي خصصه لمسألة التقنية، وهو كتاب : التقنية والعلم كإيديولوجيا أن يستأنف ابرز أطروحة دافع عنها ماركوز ويناقشها ؛ ألا وهي الاعتقاد بأن التكنولوجيا تضفي على الأشياء صفة الأدوات وتحيلها إلى مجرد وسائل فتنقلب بذلك إلى عائق أمام التحرر إذ يتحول الإنسان نفسه فيها إلى أداة.يرجع الفضل إلى ماكس فيبر M. Weber في استخدام مفهوم "المعقولية" لوصف الشكل الرأسمالي للنشاط الاقتصادي، والنمط البرجـوازي للمبادلات، والأنماط البيروقراطية للسيطرة. وعليه فإن العقلنـة تعني توسيع المجالات المجتمعية التي تخضع لمعايير القرار العقلي. والتي تشير بموازاة مع تصنيع العمل الاجتماعي ومكننة الحياة الاجتماعية وإضفـاء الصفة الآلية والتقنية على حياة الإنسان.[10] أن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة هو رزوحها تحت أشكال من الرقابة المتعددة المستويات تحشر في عداد العقلنة والتخطيط والترشيد المتوخية كلهـا تحقيق "غاـيات" و"أهداف" معقلنة.ويؤكد هابرماس أن "العقلنة" المتزايدة للمجتمع تتم بموازاة مع عملية إضفاء صبغة المؤسسة على التقدم العلمي والتقني. فبقدر ما يتدخل العلم والتقنية في مؤسسات المجتمع ويفقدها طابعها كمؤسسات، بقدر ما تغدو الإنتاجية هي المعبئ الوحيد للمجتمع وتضع نفسها فوق كل مصلحة.هكذا يحول هابرماس مفهوم العقلنة، مثلما استخدمه ماكس فيبر، ويكيفه تكييفا يجعله يسير على قدميه، وليس على رأسه كما كان الأمر مع ماكس فيبر. وهابرماس، هنا، يسير في خطى ماركوز الذي انتقد الطابع الصوري للمعقولية في صيغتها الفيبرية وكأنـها مجرد عملية تتم في حدود نشاط عقلي يقرره رئيس مؤسسة رأسمالية متوخيا منه تحقيق غابات وأغراض عملية استناد إلى معايير العلم والتقنية. فهو يرى أن خلف هذه "المعقولية" المظهرية ثمة إرادة سياسية ثاوية تسعى إلى توسيع مجال السيطرة وعقلنته. فكل عقلانية تكنولوجية يحايثها منطق للسيطرة يتمثل في إخضاع الإنسان لنظام الأشياء. فطالما أن معقولية من هذا القبيل تقوم على وضع الخطط والاختيار بينها بحثا عن أفضلها، واستخدام التكنولوجيا الملائمة وتـهيئ الأنظمة المناسبة والمواتية، لبلوغ غايات ثابتة ومحددة، فإنها تبقى شيئا يتم في غفلة عن التفكير وفي خلسة من المصالح الاجتماعية الكبرى. معقولية من هذا القبيل، لن تخدم سوى علاقات التسيير والتحكم التقني؛ إنها تفترض نوعا من السيطرة على الطبيعة أو على المجتمع. ذلك أن النشاط العقلي حينما يطرح لنفسه غـايات يتحول إلى رقابة. لذا فإن "عقلنة" شروط الحيـاة تعني في نـهاية الأمر تحويل السيطرة إلى مؤسسة لها شرعيتها، والتي لا ينتبه إلى أنـها شرعية سياسية: وهذا هو جوهر النقد الذي يوجهه ماركوز ثم هابرماس لماكس فيبر.[11] ففي المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعيا، تتجه السيطرة إلى أن تفقد طابعها القمعي الهيمني لتتحول إلى نوع من السيطرة "المعقلنة" دون أن تتخلى، مع ذلك، عن طابعها السياسي أو تفقده.لكن الطابع القمعي لا يختفي كلية، بل يتخذ لنفسه مظاهر وتجليات تتمثل في خضوع الأفراد ورزوحهم تحت نير جهاز الإنتاج والتوزيع واندماجهم الكلي في منطقه. إلا أن الأفراد لا يعون بالجوهر القمعي لكل ذلك لأنه يضفي على نفسه رداء جديدا من الشرعية مفاده الزعم بأن السيطرة على الطبيعة والتحكم في الإنتاجية المتزايدة هو ما سوف يضمن للأفراد شروط عيش رغد.لقد فاق تعاظم قوى الإنتاج، والذي هو أحد مميزات التقدم العلمي والتقني المعاصر، كل النسب والحدود. ومبادئ العلم الحديث قد ركبت وبنيت، مسبقا، على نحو يمكن معه استخدامها كأدوات مفاهيمية من طرف عالم الرقابة الإنتاجي الذي يجدد نفسه بصفة أوتوماتيكية. وكان من نتيجـة ذلك أن اندمجت النـزعة الإجرائية النظرية بالنـزعة الإجرائية العملية وامتزجت بـها. وهكذا قدم المنهج العلمي، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام السيطرة الفعالة على الطبيعة، مفاهيم محضة، ولكنه قدم أيضـا مجموع الأدوات التي سهلت سيطرة الإنسان على الإنسان على نحـو مطرد الفاعلية من خلال السيطرة على الطبيعة. ولقد اصبح العقل النظري، بمحافظته على بقائه وحياده، خادما للعقل العملي. ولقد كان هذا التلاقي مفيدا لكليهما. واليوم ما تزال السيطرة قائمة، ولقد أخذت طابعا أكثر شمولا بفضل التكنولوجيا، وبوجه خاص بوصفها تكنولوجيا. فالتكنولوجيا تبرز ابتلاع السلطة السياسية من خلال امتدادها إلى كل دوائر الثقاف | |
|