ؤلف الصبغيان X وY زوجين غريبين. فالصبغي X شبيه بأي صبغي
آخر، ولكن الصبغي Y ـ الذي هو مصدر الذكورة ـ غريب جدا.
كيف وصل الاثنان إلى هذا الاختلاف الشديد كله؟
ـ
صورة
إن الصبغيين البشريين اللذين يحددان الجنس ـ أي X وY ـ هما زوج (شفع) شاذ. أما المجموعات الـ 22 الأخرى من الصبغيات في خلايانا فتتألف من شركاء حسنة التوافق، وكل شريكين متماثلان كشمعدانين توأمين. ويأتي أحد الكروسومين في كل ثنائي من الأم ويأتي الآخر من الأب؛ وهما في حالتهما السوية من حجم واحد ويحملان الجينات(1) نفسها. أما الصبغي Y فهو أصغر جدا من الصبغي X؛ وهو في الواقع ضئيل بشكل واضح، ولا يؤوي أكثر من بضع عشرات من الجينات التي يقل عددها كثيرا عن الـ 2000 إلى الـ 3000 جينة المحمولة على الصبغي X. وهناك عدد من جينات Y لا مثيل لها إطلاقا على الصبغي X. والصبغي Y مثقل بكميات كبيرة جدا من «سقط»(2) junk الدنا.
وحتى وقت قريب وجد البيولوجيون صعوبة في شرح الطريقة التي جعلت الصبغي Y يتدنى إلى مثل هذا الوضع السيئ. وعلى الرغم من تعدد نظرياتهم، لم يجدوا إلا سبلا قليلة لاختبار أفكارهم. ولكن الوضع تغير الآن، بفضل مشروع الجينوم (المجين) البشري Human Genome Project وما ارتبط به من جهود رمت إلى فك رموز التسلسل الكامل لنيوكليوتيدات الدنا في الصبغيات ال24 المتمايزة عند البشر، أي: X وY و22 صبغيا جسديا(3) autosomes. وكما أن بإمكان علماء الأحافير (المستحاثات) تعقب تطور الأنواع بوساطة فحص الهياكل العظمية للحيوانات الحية والأحافير، توصل علماء البيولوجيا الجزيئية إلى تعقب تطور الصبغيات والجينات عن طريق تفحص تسلسلات الدنا.
وتوضح النتائج الحديثة أن تاريخ الصبغيات الجنسية تَعرّض دائما لتغير صارخ، وتميَّز بسلسلة من الخلل الشديد طرأ على الصبغي Y وبتغيرات تعويضية في الصبغي X. ومما لا ريب فيه أن هذا التفاعل مستمر اليوم.
وعلاوة على ذلك، فقد تبين أن الصبغي Y ـ الذي عُدَّ منذ زمن بعيد ضئيل الأهمية ولا يتجاوز في عمله إطلاق برنامج الذكورة ـ قادر على إنجاز أعمال تتعدى ظنون البيولوجيين. فقد نجح على امتداد أكثر من 300 مليون سنة في الحفاظ على حفنة من الجينات مهمة من أجل بُقْيا الذكور، وعلى اكتساب غيرها مما تتطلبه الخصوبة. وعوضا عن النظر إلى هذا الصبغي الذكوري على أنه <رودني دَنجرفيلد>(4) الصبغيات (كما دعاه بعضهم للدلالة على عدم احترامه)، فهو في الواقع أشبه بـ<وودي ألن>(5)؛ إذ إنه على الرغم من مظهره المتواضع الخادع، يمتلك قوى غير متوقعة.
صورة
انطلق الصبغيان X وY زوجًا (شفعا) متوافقا قبل مئات ملايين السنين. ولكن الصبغي Y ضمر حتى صار ضئيلا جدا، في حين حافظ الصبغي X على كيانه السليم. وتتضح الآن كيفية تباعد هذين الزوجين على ذاك النحو الشديد الإثارة. وتبين الصورتان المجهريتان هذين الصبغيين كما يبدوان خلال مرحلة الطور التالي من أطوار الانقسام الخلوي.
إن حب الاستطلاع وجّه كثيرا من البحوث إلى الاهتمام بموضوع تطور صبغيات الجنس البشرية. ولكن غايةً عمليةً أخرى ساعدت أيضا في هذه البحوث، وهي الرغبة في تفسير العقم لدى الذكور ومعالجته. إن ما تم التوصل إليه من مستجدات في جينات Y التي تؤثر في القدرة على الإنجاب، قد يفضي إلى معالجات مبتكرة للرجال الذين تنقصهم تلك الجينات أو الذين لديهم نسخ معيبة منها (انظر الإطار في الصفحة 9).
لقد أفادت الاكتشافات الحديثة من الخطوات التي أُنجزت، والتي بدأت قبل نحو 100 سنة. لقد اعتقد البيولوجيون قبل القرن العشرين أن البيئة هي التي تحدد الجنس في البشر والثدييات الأخرى؛ الأمر الذي تفعله تماما في الزواحف الحديثة. ففي الزواحف، تستميل درجة حرارة الجنين في مرحلة مبكرة من التطور جهازا غير مفهوم بوضوح لصالح تكوين ذكر أو أنثى. ومع ذلك، تبين للباحثين في أوائل القرن العشرين أن بإمكان الصبغيات أن تكون صاحبة الكلمة في تحديد الجنس في بعض الأنواع. وبعد ما يقرب من 20 سنة تبين أن الثدييات هي من ضمن تلك الكائنات التي تستخدم الصبغيات (X وY تحديدا) لتقرير الجنس خلال التطور الجنيني.
تراكم الدلائل(6)
وفي العقود التي تلت، توصل الباحثون إلى أن الصبغي Y هو صانع الذكورة، واستنبطوا أن الصبغيين X وY تطورا من صبغيين جسديين متطابقين في سلف قديم. وأنه حدث بالمصادفة في وقت ما قُبيل ظهور الثدييات أو بُعيده، أن تسببت طفرة ـ في جزء صغير من نسخة الصبغي الجسدي التي سوف تصبح الصبغي Y ـ في أن تصير الأجنة التي تحمل ذلك الصبغي المتغير (مع رفيقه: الصبغي المستقبلي X) ذكورا. أما الأجنة التي تحمل إرث اثنين من الصبغي X فقد صارت إناثا.
وفي عام 1990، حدد علماء الوراثة ذاك الجزء من الصبغي الذي يُكسب الذكورة، وهو جينة مفردة دعيت SRY وتعني «منطقة تحديد الجنس على Y» sex determining region Y. ويحفز الپروتين المكوَّد بالجينة SRY تشكل الخصيتين، ويبدو أن ذلك يحدث بوساطة تفعيل جينات على صبغيات متعددة، وبعد ذلك يتولى التستوستيرون والمواد الأخرى المصنوعة في الخصيتين تشكيل الذكورة.
استنتج العلماء أن صبغيات الجنس عند البشر بدأت حياتها زوجا متوافقا. ويعزى ذلك جزئيا إلى أن نهايات الصبغيين X وY بقيتا وكأنهما توأمان ومعهما القدرة على الانخراط في سيرورة تدعى التأشُّب recombination. وفي أثناء الانتصاف (الانقسام الاختزالي)(7) meiosis تصطف الصبغيات المتوافقة بعضها مع بعض وتتبادل شدفا segments. وبعد ذلك، تتوزع نسخة من كل صبغي جسدي، إضافة إلى صبغي جنسي، توزعا متساويا على كل خلية توالدية (تناسلية). ومع أن معظم الصبغي Y ضئيل التشابه مع الصبغي X، فإن نهايات هذين الصبغيين تصطف خلال الانتصاف في الذكور وتتبادل قطعا وكأن هذين الصبغيين مازالا يؤلفان مجموعة متطابقة. (ومثل هذا الاصطفاف ضروري لتوزع الصبغيات الصحيح على النطاف).
وهناك برهان آخر على أن الصبغيين X وY كانا متماثلين يوما ما. وتمت رؤية هذا البرهان في جزء الصبغي Y الذي لا يتأشب مع الصبغي X؛ فالكثير من الجينات المتناثرة في منطقة اللاتأشب هذه مازال يملك نظائر له على الصبغي X.
لقد قدم وجود منطقةٍ عديمة التأشب، تُشَكِّل %95 من الصبغي Y، دليلا على الكيفية التي غدا بها هذا الصبغي ظلا لذاته الأصلية. ففي الطبيعة وفي المختبر يساعد التأشب على الحفاظ على سلامة كيان الصبغيات. وعلى نقيض ذلك، يسبب انعدامه تراكم الطفرات الهدامة في الجينات في مناطق اللاتأشب، ومن ثم اضمحلالها أو تلاشيها. ولذا بدا معقولا الاعتقاد بأن شيئا ما سبّب توقف تبادل الدنا بين أجزاء ضخمة من الصبغيين X وY، وتبع ذلك انهيار الجينات في منطقة اللاتأشب من الصبغي Y. ولكن متى وكيف توقف التأشب بعد ظهور الصبغي Y؟ ذاك أمر بقي غير مؤكد على امتداد عقود.
تشكل على مراحل(8)
إن الأبحاث التي اكتملت في السنوات الخمس الأخيرة سدت كثيرًا من الثغرات. فعلى سبيل المثال، أظهر كل من <لان> و [من معهد وايتهد للبحوث الطبية الحيوية في ماساتشوستس] عام 1999، أن الصبغي Y فَقَد القدرة على تبادل الدنا مع الصبغي X بطريقة متدرجة وغير متوقعة، شملت أولا رقعة من الدنا تحيط بالجينة SRY، ومن ثم انتشرت على مراحل متمايزة، حتى غشيت الصبغي بأكمله تقريبا. إن الصبغي Y هو وحده الذي تردى استجابة لفقدان تأشب Y-X. ومع ذلك استمر الصبغي X في ممارسة التأشب حينما التقت نسختان منه خلال الانتصاف في الإناث.
ما المسؤول عن خلل التأشب بين الصبغيين X وY؟ يحتمل أنه عندما حاول الصبغيان X وY الأوليان مقايضة الشدف، خلال مرحلة الانتصاف في أحد الأسلاف القدامى جدا للثدييات الحديثة، أن جزءا من الدنا على الصبغي Y صار مع****ا، أو انقلب رأسا على عقب بالنسبة إلى الجزء المناظر له على الصبغي X. وبما أن التأشب يتطلب أن يصطف تسلسلان متماثلان من الدنا أحدهما بجوار الآخر، فإن الانقلاب سوف يخمد التآثر المستقبلي بين مناطق الصبغيين X وY التي كانت متماثلة في السابق.
صورة
تضم صبغيات الخلية الذكرية السوية (الصورة) 22 زوجا من الصبغيات الجسدية (وهذه ليس لها صلة بتحديد الجنس)، إضافة إلى الصبغين Y و X ـ يأتي أحدهما في كل زوج من الأم والآخر من الأب. لقد ساعدت الجينات في المنطقة NRY ـ أي: منطقة اللاتأشب في الصبغي nonrecombing region of the Y Y (اللون الأزرق في المخطط) ـ على إظهار التاريخ التطوري للصبغين X وY. وقد دعيت المنطقة بهذا الاسم لأنها لا تستطيع التأشب (أي تبادل الدنا) مع الصبغي X. ولم تذكر على المخطط إلا الجينات التي ما زالت قادرة على العمل. إن لنصف هذه الجينات تقريبا نظائر على الصبغي X (اللون الأحمر)، وبعضها جينات "إدارية" (تنظيمية) مطلوبة لبُقْيا معظم الخلايا. وتعمل بعض جينات NRY في الخصيتين فحسب (اللون الأرجواني)، حيث يحتمل أن تشارك في خصوبة الذكر.
وعندما فحصنا التسلسلات النيوكليوتيدية لـ19 جينا تظهر في منطقة اللاتأشب لكل من الصبغيين X وY، اكتشفنا أن التأشب توقف متخذًا مراحل متمايزة. (لقد توقفت بعض نسخ الصبغي Y عن القيام بأي وظيفة). وبصفة عامة، إذا توقفت أزواج من نسخ الجينة عن التأشب، ازداد تباعد تسلسلاتها مع مرور الوقت. ويدل العدد الضئيل نسبيا من الاختلافات على تأشب توقف حديثا، في حين يدل العدد الكبير منها على انقطاع التأشب منذ زمن بعيد.
لقد وقعت غالبية أزواج الصبغيين Y-X في واحدة من أربع مجموعات. واختلفت نسخ الصبغيين X وY ضمن المجموعة الواحدة بالقدر ذاته تقريبا؛ مما يشير إلى أن التأشب انقطع في الوقت نفسه تقريبا. ولكن المجموعات اختلف بعضها عن بعض بشكل واضح. وكانت نسخ الصبغي Y التي بدأت تتباعد عن نظيراتها على الصبغي X إبان ظهور الجينة SRY هي الأشد اختلافا عن شريكاتها، في حين أظهرت المجموعات الأخرى تباعدا متضائلا على نحو تدريجي بين نسخ الصبغيين X وY.
وبمقارنة تسلسلات الدنا بين الأنواع يستطيع البيولوجيون غالبا أن يحسبوا بشكل تقريبي موعد بدء تباعد الجينات التي كانت متوافقة يوما ما (ومن ثم معرفة المناطق التي تملك تلك الجينات). لقد أظهرت مقارنات كهذه أن طلائع الصبغيات الجسدية لكل من X وY ظلت متشابهة وسليمة في الزواحف التي وجدت قبل بدء تفرع سلالة الثدييات بشكل واسع. ولكن وحيدات المسلك monotremes ـ كالپلاتيپوس (خلد الماء) والنضناض (قنفذ النمل) ـ التي كانت من أوائل ما تفرع من الثدييات الأخرى، تملك كلا من الجينة SRY ومنطقةِ لاتأشب مجاورة. وأوحت هذه الاختلافات بأن نشوء الجينة SRY، وتوقف التأشب في المناطق القريبة، حدث عند بدء ظهور سلالة الثدييات تقريبا، قبل نحو 300 مليون سنة.
وقد حصلنا على المزيد من المعلومات عن ذاك التوقيت بتطبيق تحليل «الساعة الجزيئية» molecular clock. إن بوسع البيولوجيين تقدير المعدل التقريبي الذي يحتمل أن تتغير حسبه تسلسلات الدنا إن لم تقع تحت أي ضغط معين يبقيها على حالها. وإذا ضربنا مدى تباين التسلسل في أزواج Y - X بذاك المعدل المقدر، استنتجنا أن أول انقلاب في توقف التأشب حصل بين 240 و320 مليون سنة مضت.
صورة
حدث تنكس الصبغي Y على أربع مراحل، بدأت قبل 300 مليون سنة تقريبا بعد أن اكتسب سلف الثدييات الشبيه بالزواحف جينة جديدة (SRY) على أحد صبغياته الجسدية. وشملت كل مرحلة إخفاقا في التأشب (تبادل الدنا) بين الصبغيين X وY خلال عملية الانتصاف؛ أي انقسام الخلية الذي يُنتج النطاف والبويضات. فإذا أوقف التأشب، توقفت الجينات التي في المناطق المصابة عن عملها واضمحلت. إن التسلسل المبين شديد التبسيط. وعلى سبيل المثال، لقد استطال الصبغي Y فعليا بشكل مؤقت في بعض الأحيان (بوساطة ضم الدنا الصبغيَّ الجسدي إلى مناطق مازالت قادرة على التأشب)، قبل أن يؤدي إخفاق التأشب إلى ضمور نهائي.
وتدل تحليلات مماثلة على أن الانقلاب التالي حدث ما بين 130 و170 مليون سنة خلت، قُبيل تفرع الجرابيات marsupials من السلالة التي أدت إلى ظهور الثدييات المشيمية كلها. ووقع الانقلاب الثالث قبل 80-130 مليون سنة؛ أي قبل تنوع الثدييات المشيمية. أما الانقلاب الأخير فقد أصاب الصبغي Y قبل نحو 30-50 مليون سنة، بعد أن بدأت السعادين monkeys مسيرتها التطورية الخاصة، ولكن قبل انفصال القردة apes وأشباه الإنسان hominid عن المجموعة.
وعلى النقيض من هذا الاتجاه العام للأزواج Y-X، فإن بعض الجينات في منطقة اللاتأشب في الصبغي Y تقوم بتكويد پروتينات تختلف قليلا جدا عن الپروتينات التي تكودها نظائرها في الصبغي X، حتى في المناطق التي تعرضت للانقلاب في أبكر الأوقات. وربما أمكن تفسير الحفاظ عليها بقانون تطور بسيط هو: إذا كانت الجينة أساسية للبُقْيا، فسوف يحتفظ بها في الغالب. وفي الواقع، إن جينات Y التي كانت الأقل تغيرا هي في أساسها جينات «إدارية» housekeeping ـ ضرورية جدا لسلامة كيان كافة خلايا الجسم تقريبا.
تعويض الخسائر(9)
يدل المنطق ومجموعة كبيرة من الأبحاث على أن إخفاق التأشب بين الصبغيين X وY، والتردي التالي في عدد كبير من جينات Y، لا بد من أن تكون قد تبعتهما سيرورة ثالثة عوَّضت عن التنكس. ويتخذ التفكير المنطقي الخط التالي: ليست الجينات كلها نشيطة في كل خلية. ولكن عندما تحتاج الخلية إلى پروتينات معينة، فإنها تقوم عادة بتحريض كل من نسخ الجينات المتقابلة من الأم والأب. وإن كميةَ الپروتين المتولدة من كل نسخة مضبوطةٌ تماما كي تحقق النمو الأمثل والأداء اليومي للكائن الحي. ولهذا، فعندما بدأت الجينات على الصبغي Y بالاختفاء، انخفض إنتاج الپروتينات المتعلقة به حتى النصف وبشكل كارثي لدى الذكور إن لم تقم الأنواع المصابة بتطوير حيل تعويضية.
يتعامل العديد من الحيوانات، كذبابة الفاكهة، مع انعدام المساواة هذا عن طريق مضاعفة نشاط نسخ الصبغي X لتسد ثغرة الجينات المفقودة في الصبغي Y في الذكور. ويلجأ غيرها إلى توظيف استراتيجية أكثر تعقيدا. ففي بادئ الأمر تزيد من نشاط جينات X في كل من الذكور والإناث، وهي مناورة تستعيض بها مستويات الپروتين في الذكور، ولكن تولِّد فيضا منها لدى الإناث. وتقوم بعض الحيوانات، كالدودة الخيطية (المَمْسودة) nematode worm بالإقلال حتى النصف من نشاط جينات X عند الإناث. ويلجأ غيرها، بما فيها الثدييات، إلى سيرورة تدعى تعطيل الصبغي X، وفيها تُجري خلايا أجنة الإناث في مراحلها المبكرة تعطيلا عشوائيا لمعظم الجينات في واحد من صبغيها X. وقد تكبح الخلايا المجاورة نُسخا مختلفة من الصبغي X، ولكن ستبدي كل أنسال خليةٍ ما النمط ذاته في تعطل الصبغي X لدى هذه الخلية.
ومع أن تعطل الصبغي X عُدَّ منذ زمن بعيد استجابة لاضمحلال جينات Y، فلم يكن هناك دليل على وجهة النظر تلك. وإذا أدى تنكس جينات Y إلى تعطيل الصبغي X، فمن المتوقع عندئذ أن تستمر جينات X التي لها نظائر نشطة في منطقة اللاتأشب في الصبغي Y في العمل عند الإناث (أي لتتلافى التعطيل) ـ بحيث تحافظ على مستويات الپروتين عند الإناث معادلة لمستوياتها لدى الذكور. واعتمادا على تحليل مستويات النشاط لدى أزواج Y-X الباقية من 24 نوعا من الثدييات، وجدت و قبل بضع سنوات أن نسخ الصبغي X من جينات Y العاملة تتجنب التعطيل فعلا. وكذلك أظهرت تلك التحليلات أن تعطل الصبغي X ـ مع أنه يحصل في لحظة خلال تطور حيوان ما في يومنا هذا ـ لم يحدث كله في وقت واحد. وعوضا عن ذلك نشأ على استحياء ـ في قطعة بعد قطعة أو ربما في جينة بعد جينة ضمن القطعة، ولم ينشأ دفعة واحدة على امتداد الصبغي.
انبثاق الخطط(10)
ومن الغريب أن منطقة اللاتأشب في الصبغي Y لا تملك فقط حفنة من الجينات الثمينة التي تنطبع على الصبغي X، بل ربما لديها أيضا «دزينة» من الجينات التي تحفز خصوبة الذكور. وتقوم هذه الأخيرة بتكويد الپروتينات التي لا تُصنع إلا في الخصيتين، ويفترض أن دورها هو المشاركة في إنتاج النطاف. ويبدو أن بعضها قفز إلى الصبغي Y من صبغيات أخرى، وكذلك كان غيرها على الصبغي Y منذ البداية، إلا أن غايتها في البدء كانت مختلفة، ثم اكتسبت وظائف جديدة مع مرور الزمن. إذًا، ليس التنكس إلا خطة بارزة في نشوء الصبغي Y. وهناك خطة أخرى لم تعرف أهميتها إلا مؤخرا، ونعني بها اكتساب جينات الخصوبة.
صورة
تطور تعطل الصبغي X: يبدو أن إخماد معظم الجينات على أحد الصبغيين X في الخلايا الأنثوية حدث بطريقة متدرجة شملت جينة أو بعض الجينات في كل مرحلة، وذلك لتعويض فقدان الجينات على الصبغي Y (المخطط). ويمكن رؤية أحد تأثيرات تعطل الصبغي Y في القطط المبقعة (الصورة). إن الجينة التي تحدد كون لون الفراء برتقاليا أو أسود (أي غير برتقالي) تستقر على الصبغي X. إن الإناث التي تحمل النسخة البرتقالية على أحد الصبغيين X والنسخة السوداء على الصبغي X الآخر سيضم فراؤها بعض المناطق البرتقالية وبعض المناطق السوداء، وذلك اعتمادا على أي الصبغيين X جرى إخماده في كل خلية. إن جينة أخرى هي المسؤولة عن وجود مناطق بويضات.
يختلف أصحاب النظريات حول القوى التي حولت الصبغي Y إلى مغنطيس يجذب تلك الجينات. وبإمكان الأنواع ككل أن تستفيد من عزل جينات لدى الذكور قادرة على أن تضر بالإناث أو أنها لا تقوم بأي عمل مفيد حيالها. ومن الممكن أيضا أن وجود جينات الخصوبة الذكرية على الصبغي Y يحميها عن طريق التأكد من أنها تمر من ذكر إلى آخر من دون أن تمر عبر إناث (يمكنهن طرحها من غير معاناةِ أي عواقب مباشرة).
وهناك نقطة غموض أخرى حول كيف تستطيع جينات الخصوبة أن تزدهر في غياب التأشب وفي ظل شروط أفسدت معظم جينات Y الأخرى. قد تكمن الإجابة في ملاحظة أن كل جينة خصوبة ذكرية تقريبا على الصبغي Y موجودة في نسخ متعددة. ولهذا فباستطاعة مثل هذا الانتشار أن يمتص تأثيرات الطفرات المخربة التي لا تصيب عادة إلا نسخة واحدة فقط في الوقت الواحد. وفيما تقوم بعض النسخ بتجميع الطفرات ثم تخفق في نهاية المطاف، تستمر النسخ المتبقية في المحافظة على القدرة التوالدية (التناسلية) للرجل وأداء دور البذور التي تؤدي إلى تضاعف تلك النسخ عينها.
لقد حظي تطور صبغيات الجنس في البشر بأدق الدراسات وأكملها. ولكن ترافق تلك الدراسات بمقارنات مع الأنواع الأخرى، أفسح المجال للبحوث كي تتعرف المبادئ العامة التي تتحكم في مجريات الأمور في مخلوقات طورت صبغيات جنسية بمعزل عن الثدييات. وتستخدم بعض تلك الحيوانات، كالطيور والفراشات، النظام Z-W لتحديد الجنس. فإن أدت وراثة نسخة واحدة من صبغي معين إلى تشكيل ذكر، دعي ذاك الصبغي Y وسمّي شريكه X. أما إذا أدت وراثة نسخة واحدة من الصبغي إلى تشكيل أنثى، سمي ذاك الصبغي W وسمي شريكه Z.
إن أحد المبادئ البارزة هو أن صبغيات الجنس مشتقة من الصبغيات الجسدية. ولكن قد تتفاوت هذه الصبغيات الجسدية المتأثرة. ومثال ذلك أن الصبغيين W وZ في الطيور نشآ عن صبغيات جسدية مخالفة لتلك التي أدت إلى الصبغيين X وY في الثدييات. وكذلك في ذبابة الفاكهة نشأ الصبغيان X وY عن صبغيات جسدية مختلفة عن تلك المستخدمة لدى الثدييات.
وفي معظم الأنواع التي تتوالد جنسيا، ما إن نشأت صبغيات الجنس حتى ازداد ابتعادها عن التماثل فيما تتعرض لواحدة أو أكثر من الدورات المتعاقبة الثلاثية الخطوات وهي: كبت التأشب، وتنكس الأجزاء اللامتأشبة من الصبغيات الخاصة بالجنس (Y أو W)، وأخيرا: التعويض من جانب الصبغي الآخر. وفي الوقت نفسه، أضحت الصبغيات الخاصة بالجنس في كثير من الحالات ذات أهمية للخصوبة، كما حدث للصبغي Y في البشر والحشرات.
إجابات جديدة للرجال(**)
ما سبب كون الصبغي Y عقيمًا؟(***)
تساعد الدراسات الجينية للصبغي Y على تفسير بعض حالات العقم، إضافة إلى إيضاحها تاريخ صبغيات الجنس. ففي نحو نصف الأزواج والزوجات المصابين، تكمن المشكلة كليا أو جزئيا في الرجل الذي ينتج أحيانا أعدادا غير كافية من النطاف أو لا ينتجها إطلاقا. ويغلب أن تكون جذور هذه الشذوذوات غامضة. ومع ذلك، توحي النتائج الحديثة بأن الصبغي Y يحوي عددا من جينات الخصوبة، وأن الخلل في واحد منها أو أكثر مسؤول عن حالات نحو 10 في المئة من الرجال الذين لا ينتجون نطافا أو ينتجون القليل منها.
في البداية أسند الباحثون دورا للصبغي Y في العقم، وذلك في السبعينات عندما رأوا بالمجهر أن عددا من الرجال العقيمين يفتقرون إلى قطع صغيرة من الصبغي Y موجودة عادة في الرجال ذوي الخصوبة. ويعرف العلماء اليوم أن حذف (خَبْن) أي من مناطق محددة ثلاث على الصبغي Y قد يسبب العقم. وكذلك عرفوا أن كلا من هذه المناطق ـ المسماة AZF أي عامل فقد النطاف azoospermia factor a، b، c ـ يحوي جينات متعددة.
ومعظم تلك الجينات شديدة النشاط في الخصيتين، حيث تصنع النطاف (أي إن الجينات تعطي كميات وفيرة من الپروتينات التي تكودها). ويوحي هذا السلوك بشدة بأن الجينات في المناطق AZF ضرورية لتصنيع النطاف، مع أن إسهاماتها الدقيقة، وتآثراتها مع جينات الخصوبة على الصبغيات الأخرى، مازالت غير معروفة.
والآن يحاول بعض الاختصاصيين بالعقم تقدير أثر حذف الصبغي Y كجزء من فحوصهم التشخيصية. فإذا وجد رجال لديهم هذا النقص (حذف الصبغي Y) وينتجون بعض النطاف على الأقل، فربما أمكن إعطاؤهم مداواة مولّفة من حقنة (زرقة) نطاف داخل السيتوپلازم (الهيولى) (ICSI)، وفيها تؤخذ النطاف من الخصيتين وتغرز في البويضات في المختبر. ومما يؤسف له أن الأبناء المولودين بهذه الطريقة سوف يرثون الصبغي Y المعيب الذي يحمله آباؤهم، وقد يواجهون مشكلات العقم ذاتها.
وحينما يتفهم الباحثون تماما أسرار وظائف الپروتينات المكوَّدة بجينات المنطقة AZF، فقد يغدو بإمكانهم أن يتغلبوا على العقم لدى الرجال الذين يعانون حذفا في الصبغي Y بإبدال الپروتينات الناقصة، وربما كان ذلك باستعادة الجينات المفقودة نفسها. وعلى الجانب الآخر، لا بد لهذه المعلومات من أن تتيح فرصة تطوير أدوية قادرة على إحداث تعطيل متعمد لآلية إنتاج النطاف ـ ومن ثم تقديم موانع حمل جديدة للذكور.
صورة
إن إيصال النطاف مباشرة إلى البويضة (يمكن رؤيته هنا في الإبرة الميكروية) قد يتغلب على العقم لدى بعض الرجال المصابين بطفرات في الصبغي Y.
ومن المعقول أن نتساءل عما يحمله المستقبل لنوعنا البشري. هل ستستمر الدورة حتى تمحو كل تأشب بين الصبغيين X وY وتقضي في النهاية على الصبغي Y، ربما بعد آلاف السنين أو ملايينها؟ توحي المكتشفات الحديثة بأن الذكور قادرون على حماية جينات Y الأساسية لبُقْياهم وخصوبتهم. ومع ذلك، يبقى الاضمحلال الكامل للصبغي Y إمكانيةً نظرية.
غالبا ما تُجرى البحوث على الجينات بهدف فهم الاضطرابات البشرية وتصحيحها. وقد بدأت بعض الاستقصاءات للصبغي Y وليس لها إلا ذاك الهدف؛ أي فهم تطور الذكر وتصحيح العقم. ولكن العديد من الدراسات كان أقل تركيزا على المداواة. ومع توصل الأبحاث الطبية والجهود المنهجية في مجال تسلسل الجينات إلى استعراف المزيد من الجينات على الصبغيين X وY، لم يستطع العلماء المهتمون بتطور الأنواع مقاومة طرح سؤال أساسي جدا حول وجود أي جديد لدى تلك الجينات تقوله حول الماضي البعيد للصبغيين X وY وسوء توافقهما الغريب. وفي هذا المضمار، يبدو أن باستطاعة الجينات أن تروي قصة مثيرة جدا.