باختصار
واجه الإنسان العاقل(1) Homo sapiens عند انتشاره من إفريقيا إلى سائر مناطق العالم، منذ نحو ستين ألف عام، تحديات بيئية لم يكن في مقدوره التغلب عليها باستخدام تقنيات ما قبل التاريخ.
ولذا، فقد توقع العديد من العلماء أن الدراسات المسحية لجينوم genome البشر سوف تظهر لنا دليلا دامغا على وجود طفرات انتشرت سريعا في مختلف الجماعات populations من خلال انتقاء طبيعي natural selection - حيث يكون للأفراد الحاملين لهذه الطفرات عدد أكبر من المواليد الأصحاء مقارنةً بغير الحاملين لها.
ولكن اتضح أنه على الرغم من احتواء الجينوم على بضعة أمثلة لانتقاء طبيعي قوي جدا وسريع، فإن أغلب حالات الانتقاء الطبيعي القابلة للقياس تبدو وكأنها حدثت بمعدل أبطأ كثيرا مما تصوره الباحثون
منذ آلاف السنين، انتقل البشر إلى هضبة التبت وذلك للمرة الأولى في تاريخهم، وتضم هذه الهضبة مساحة شاسعة من السهول كما يصل ارتفاعها إلى 14 ألف قدم فوق سطح البحر. وعلى الرغم من أن هؤلاء المرتادين الجدد لتلك المنطقة من العالم امتلكوا ميزة دخول نظام بيئي جديد يخلو من المنافسة مع أقرانهم من البشر، إلا أن انخفاض تركيز الأكسجين عند مثل هذا الارتفاع فوق سطح البحر نجم عنه عبء كبير على أجسامهم، تمثل بإصابتهم بمرض المرتفعات altitude sickness وازدياد معدل وفيات الأطفال. وفي مطلع عام 2009 تمكنت سلسلة من الدراسات من تحديد تنوع variant شائع لأحد الجينات genes لدى التبتيين (سكان هضبة التبت) Tibetans ونادر في الجماعات البشرية الأخرى. ويعمل هذا التنوع على تنظيم إنتاج كريات الدم الحمراء في أجسام التبتيين، مما يساعد على تفسير كيف تكيفت هذه المجموعة من البشر مع هذه الظروف البيئية القاسية. لقد وفّر هذا الاكتشاف، الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية، نموذجا مثيرا لتكيف حيوي بشري سريع مع ظروف بيئية جديدة تم في الماضي القريب. وقد قدرت إحدى هذه الدراسات أن هذا التنوع النافع للجين قد انتشر حتى الشيوع خلال الثلاثة آلاف عام الماضية – والتي لا تمثل سوى لحظة بمقاييس التطور الزمنية.
لقد بدا هذا الاكتشاف وكأنه يدعم الرأي القائل إن النوع البشري قد خاض عملية تكيف حيوية معتبرة من النمط المذكور، وذلك منذ نزوحه من إفريقيا لأول مرة، أي منذ ما يقارب 60 ألف عام (تشير التقديرات إلى حدوث هذا النزوح في الفتـرة بين 50 ألف عام إلى 100 ألف عام خلت). لا يمثل الانتقال إلى الأماكن المرتفعة إلا أحد التحديات البيئية العديدة التي واجهها الإنسان العاقل إبان هجرته من مراعي وأحراش شرق إفريقيا الحارة إلى مناطق التْندرا tundras الباردة، والغابات المطيرة والصحاري ذات الشمس الملتهبة – أي عمليا جميع النُّظم البيئية ecosystems والمناطق المناخية على سطح هذا الكوكب. والمؤكد هو أن تكيف الإنسان مع البيئة كان في معظمه ناجما عن استخدام التقنية – فمواجهة البرد على سبيل المثال، تمت من خلال صنع الملابس؛ إلا أن تقنيات عصور ما قبل التاريخ لم تكفِ بمفردها لمواجهة هواء المرتفعات القليل الكثافة، والتأثيرات المدمرة للأمراض المعدية، وغيرها من المعوقات البيئية. وفي مثل هذه الظروف، تطلب التكيف تطورا جينيا عوضا عن حلول تقنية. ووفقا لذلك كان من المنطقي أن تفضي الدراسات المسحية لجينوم البشر human genome إلى ظهور أدلة واضحة لحدوث طفرات جينية انتشرت مؤخرا لدى الجماعات البشرية المختلفة عبر «الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي» natural selection – حيث إن الأفراد الحاملين لهذه الطفرات يقومون بإنتاج مواليد يتمتعون بصحة أفضل وقدرة أكبر على البقاء مقارنةً بغير الحاملين لها.
صورة
منذ ستة أعوام، بدأت مع زملائي بالبحث عن العلامات الدالة على حدوث مثل هذه التحديات البيئية في جينوم البشر. كنا نريد أن نفهم كيفية تطور البشر منذ بدء رحلة أجدادنا الحديثة التي وَسِعَت جميع بقاع الأرض. ما مدى التباين الجيني بين الجماعات البشرية المنتشرة في الأماكن المختلفة من العالم الناجم عن التكيف مع ضغوط بيئية مختلفة بفعل الانتقاء الطبيعي، وذلك كما حدث مع التبتيِّين. وما هي نسبة هذا النوع من التباينات الجينية الناجمة عن تأثيرات أخرى؟ وبفضل ما حدث من تقدم في تقنيات دراسة التباين الجيني، تمكّنا من الشروع في التصدي لهذه الأسئلة.
في الحقيقة يحتوي الجينوم على أمثلة قليلة لحالات انتقاء طبيعي قوي جدا وسريع. وبدلا من ذلك، يبدو أن غالبية الحالات الملموسة من الانتقاء الطبيعي قد حدثت خلال عشرات آلاف السنين.
مازال العمل جاريا في دراساتنا هذه، إلا أن النتائج المبدئية أصابتنا بالدهشة؛ فقد اتضح أن جينوم البشر يحتوي على أمثلة قليلة لحالات انتقاء طبيعي قوي جدا وسريع. ويبدو أن أغلب حالات الانتقاء الطبيعي الواضحة في جينوم البشر قد حدثت خلال عشرات الآلاف من السنين. وما يبدو أنه قد حدث بالفعل في العديد من الحالات هو أن طفرة نافعة قد انتشرت في جماعة ما كاستجابة لأحد الضغوط البيئية المحلية، ثم جرى نقلها إلى أماكن أخرى بعيدة مع امتداد الجماعة ووصولها إلى تلك الأماكن. وعلى سبيل المثال، هناك تنوعات لبعض الجينات تشترك في تكوين اللون الفاتح للبشرة، وذلك ****يلة للتكيف مع القدر المنخفض من ضوء الشمس، إلا أن هذه التنوعات تنتشر في الجماعات وفقا لمسارات الهجرة التي اتخذها البشر قديما، ولا تقتصر في انتشارها على خط عرض latitude مكان المعيشة. إن استمرار وجود مؤشرات الانتقاء الطبيعي الماضية لآلاف الأعوام من دون أن يطرأ عليها تغيير بفعل ضغوط بيئية جديدة يدل على أن الانتقاء الطبيعي يعمل أحيانا كثيرة بتمهل وبطء أكبر بكثير مما تصوره العلماء. وعلى ذلك، فإن التطور السريع لجين رئيسي في التبتيِّين لايبدو حالة معتادة من حالات الانتقاء الطبيعي.
وكباحث بيولوجي متخصص في التطور، كثيرا ما أسأل عما فيما إذا كان الإنسان مستمرا بالتطور في وقتنا الحالي. ولا شك لديّ في أننا مازلنا نتطور؛ إلا أن الإجابة عن السؤال المتعلق بالكيفية التي نتغير بها هو أمر أكثر تعقيدا. وتشير البيانات التي حصلنا عليها من دراساتنا إلى أن السيناريو التقليدي للانتقاء الطبيعي، والذي تنتشر فيه الطفرة النافعة في المجتمع البشري، مثل انتشار النار في الهشيم، حدثٌ نادرٌ نسبيا، خلال الستين ألف عام الماضية. ويبدو أن مثل هذه الآلية المؤدية إلى تغير تطوري تستلزم عادةً استمرار الضغوط البيئية لعشرات آلاف السنين – وهو أمر غير شائع الحدوث بعد أن بدأ أجدادنا بارتياد بقاع هذا الكون وتسارع معدل الابتكار التقاني.
وهذه الاكتشافات عملت بالفعل على صقل فهمنا ليس فقط لتاريخ تطور الإنسان خلال الفترة الأخيرة، وإنما أيضا لما يمكن أن يحمله المستقبل للبشرية. فهناك عدد من التحديات الحالية التي تواجه النوع البشري – مثل تغيرات مناخ الأرض والعديد من الأمراض المعدية – والأغلب هو أن الانتقاء الطبيعي أبطأ من أن يعول عليه. وعوضا عن ذلك سيكون علينا أن نعتمد على الثقافة والتقانة.
اكتشاف آثار الأقدام(**)
منذ عشرة أعوام فقط كان من الصعب جدا على العلماء تتبع الاستجابات الجينية لبيئتنا من قبل أنواعنا، ذلك أن الأدوات البحثية اللازمة للقيام بذلك لم تكن متوفرة. إلا أن ذلك تغير تماما باستكمال سَلْسَلة الجينوم البشري(2) وما تبعه من فهرسة التباين الجيني(3). وإذا شئنا الدقـة في فهم ما تَمّ إنجازه، فمن المفيد أن نتعرف قليلا تركيبَ الدنا DNA وكيف أن بعض التغيرات الصغيرة في هذا التركيب يمكن أن تؤثر في وظيفتها. يتألف جينوم البشر من نحو ثلاثة بلايين زوج من نكليوتيدات الدنا، وهي بمنزلة الأحرف التي تخدم كدليل إرشادي حول كيف يُجمع إنسان [انظر المؤطر التالي]. ومن المعلوم الآن أن هذا الدليل يحتوي على قائمة مكونة من 20 ألف جين – والجينات هي سلاسل مكونة من حروف الدنا التي تحمل المعلومات اللازمة لبناء الپروتينات (تقوم الپروتينات، وهي تشمل الإنزيمات كأحد أنواعها، بمعظم العمل في الخلايا). إن اثنين في المئة من جينوم البشر يكوّد endode لبناء الپروتينات، وهناك نسبة مشابهة تقريبا من الجينوم يبدو أنها تشترك في تنظيم الجينات genes regulation. أما أغلب المتبقي من الجينوم فليس له دور معلوم.
قراءة الجينوم
علامات الانتقاء(***)
يستطيع العلماء أن يستدلوا على حدوث انتقاء طبيعي في منطقة ما من الدنا DNA من خلال ملاحظة غياب التباين في هذه المنطقة. وجينوما أي شخصين يختلفان فقط في واحد تقريبا من كل ألف زوج من نكليوتيدات الدنا، أو «الحروف». ويُطلق على نقاط الاختلاف هذه اسم مواقع تعدد الأشكال الأحادية النكليوتيدات أو سنپس (SNPs)، كما تُسمى النسخ المختلفة من الأسس عند كل سنپ بالأليلات. وعندما يؤدي نجاح أليل معين إلى تحسين القدرة التكاثرية للأفراد، فإنه ينتشر في الجماعة، أي يتم «انتقاؤه». وفي الوقت نفسه، تنتقل الأليلات المجاورة مع الأليل المنتقى لتصبح أيضا أكثر شيوعا في الجماعة. وينتج من ذلك انخفاض في تباين السنپ في هذا الجزء من الجينوم لدى أفراد الجماعة، وهو ما يطلق عليه كسح انتقائي selective sweep.
صورة
وعموما هناك مستوىً عالٍ من التشابه بين جينومي أي شخصين، إذ لا يتعدى الاختلاف فيما بينهما مجرد زوج واحد فقط من النكليوتيدات من بين كل 1000 زوج. ويُطلق على مواقع جزيء الدنا التي يحدث فيها استبدال لزوج واحد من النكليوتيدات بزوج آخر، اسم تعدد الأشكال الأحادي النكليوتيد(4) أو سنپس SNPs، كما يُطلق على جميع أشكال الدنا لكل سنپ SNP اسم ألّيل allele. وبما أن غالبية أجزاء الجينوم لا تحمل كودات لإنتاج الپروتينات أو لتنظيم تعبير الجينات، يستبعد أن يكون لمعظم السنپس أي تأثير ملموس في الشخص الحامل لها. ولكن إذا وُجِدَ السنپ في منطقة من الجينوم تحمل كودا أو لها دور تنظيمي، فمن الممكن أن يكون لهذا السنپ تأثير في تركيب الپروتين أو في وظيفته أو في توقيت إنتاجه أو في كميته. ويمكننا أن نتصور قدرة السنپس على تعديل أي من صفات الجسم تقريبا سواء كانت الطول أو لون العينين أو القدرة على هضم الحليب، أو قابلية الإصابة بالأمراض مثل السكري والفصام والملاريا والإيدز.
عندما يدعم الانتقاء الطبيعي أحد الألّيلات بقوة، فإن هذا الأليل يزداد شيوعا في الجماعة مع ظهور كل جيل جديد، فيما يصبح الألّيل الذي لا يحظى بهذا الدعم أقل انتشارا. وفي حال ثبات الظروف البيئية، سينتشر الأليل النافع حتى يصبح كل فرد في الجماعة حاملا له، ويصبح وقتذاك ثابتا في هذه المجموعة من الأفراد. ويتطلب هذا نمطيا العديد من الأجيال. فلو أن شخصا يمتلك نسختين من ألّيل نافع ولديه قدرة أكبر على إنتاج أطفال بمعدل 10%، وشخص آخر يمتلك نسخة واحدة منه ولديه قدرة أكبر على إنتاج الأطفال بمعدل 5% مقارنةً بشخص ثالث ليس لديه أي نسخة، فإن هذا يعني أن هذا الأليل سيحتاج إلى 200 جيل، أو 5 آلاف سنة تقريبا كي يزداد معدل انتشاره في المجتمع من 1 إلى 99%. ونظريا، فإن الأليل النافع يمكن أن يصير ثابتا في جينوم أفراد المجتمع خلال بضع مئات من السنين إذا أضفى ميزة كبيرة غير معتادة. وفي المقابل، فإن الأليل الذي يضفي ميزة أضعف سيحتاج إلى آلاف السنين.
فلو استطعنا الحصول على عينات دنا DNA من بقايا آدمية قديمة واستخدمناها في تعقب التغيرات المصاحبة لانتشار الأليلات النافعة على مر العصور، لكان ذلك شيئا عظيما في سياق جهودنا الرامية إلى فهم التطور البشري الحديث. إلا أنه غالبا ما يتحلل الدنا بسرعة في العينات القديمة، مما يعوق قدرتنا على اتباع هذا الأسلوب في الدراسة. ولذلك، فإن مجموعتي البحثية ومجموعات أخرى حول العالم عملت على تطوير وسائل عدة لفحص التباين الجيني في الإنسان المعاصر بغية العثور على مؤشرات حول حدوث الانتقاء الطبيعي في الماضي.
النتائج
نتائج مدهشة من دراسة الجماعات(****)
تمكن الباحثون من تعريف عدد قليل من الألّيلات المفضلة favorable alleles والتي تنتشر بدرجة كبيرة كنتيجة لحدوث انتقاء طبيعي قوي عمل على تكيف البشر السريع مع الضغوط البيئية المحلية (في اليمين)؛ إلا أن تحليلا جديدا تضمن المئات من العلامات الظاهرة الأخرى والدالة على حدوث انتقاء طبيعي (مثل الكسوح الانتقائية) تشير إلى أن غالبيتها لا تمثل تكيفا مع ظروف بيئية حديثة. وقد وُجد أن معظم الأليلات الانتقائية والتي تمّ الكشف عنها من خلال هذه الدراسة تظهر واحدا من الطرز الجغرافية الثلاث (الخريطة في الأسفل): فهي إما أن توجد بتكرارية مرتفعة في كل الجماعات الموجودة خارج إفريقيا ولا تنتشر داخلها (السهم البرتقالي)، أو أنها تنتشر في المنطقة الغرب آسيوأوروبية – التي تتكون من أوروبا وغرب آسيا وجنوبها – وتكون نادرة في الأماكن الأخرى (السهم الأحمر)، أو أنها تسود في شمال آسيا، وشرقها وأقيانوسيا، والأمريكتين (السهم الأصفر) فيما تنتشر بمعدل منخفض في المنطقة الغرب آسيوأوروبية. وتبين هذه الطرز أن الهجرات البشرية القديمة قد أثرت في توزع هذه الأليلات.
حدث تطور سريع للجين الخاص بإنتاج إنزيم اللاكتاز الذي يهضم سكر اللبن، وذلك في الجماعات التي تنتشر فيها مزارع الألبان في أوروبا والشرق الأوسط وشرق إفريقيا خلال الخمسة آلاف إلى عشرة آلاف عام الماضية.
هناك جين يسمى الكبير LARGE له دور في استجابة الجسم للإصابة بڤيروس حمى اللاسا، ومؤخرا حدث لهذا الجين انتقاء طبيعي قوي في مجتمع النيجيريين حيث يستوطن هذا الڤيروس المُمْرِض pathogen.
صورة
مثال: هناك تنوع للجين المسمى SLC24A5 يؤدي دورا في تفتيح لون البشرة. ونظرا لارتباط هذه الصفة بانخفاض كمية ضوء الشمس المتاحة ، فالمتوقع أن ينتشر هذا التنوع بتكرارية عالية ومتشابهة في الجماعات التي تعيش عند خطوط العرض الشمالية – مثل الفرنسيين والصينيين الهان Han Chinese. إلا أن فحص الجماعات الأخرى على مستوى العالم ودراسة تباين السنپ في المنطقة من الجينوم المحتوية على هذا الجين أظهرا خلاف المتوقع. إن كل مربع متعدد الألوان في الشكل يمثل التباين في السنپ لدى قطعة الجينوم المحتوية على هذا الجين عند إحدى الجماعات: وكلما قلّ هذا التباين، زادت مساحة اللون الأحمر في المربع. وكما نرى، تظهر لنا هذه المربعات حدوث انتقاء طبيعي قوي لهذا الأليل لدى الفرنسيين وغيرهم من جماعات المنطقة الغرب آسيوأوروبية، إلا أن ذلك لا ينطبق على جماعات الهان الصينية وغيرها من جماعات آسيا الشرقية. إن توزيع هذا الأليل يمثل كسحا انتقائيا في سكان المنطقة الغرب آسيوأوروبية – وهذا يدل على أن الأليل قد ظهر وانتشر منذ فترة طويلة في جماعة سلفية ancestral population بمنطقة الشرق الأوسط، وحمله أفرادها فيما بعد أثناء هجرتهم إلى الشمال والغرب؛ ولم يكن للانتقاء الطبيعي تأثير قوي في هذا الجين منذ ذلك الحين، وإلا لظهرت مساحة أكبر من اللون الأحمر في المربع الخاص بجماعة الهان.
وفي أحد أساليب الدراسة يجري التنقيب في بيانات الدنا الخاصة بالعديد من الأفراد حتى نصل إلى قطع دنا ذات اختلافات قليلة في أليلات السنپ للأفراد في جماعة. وعندما تنتشر طفرة نافعة بسرعة في جماعة ما نتيجة لحدوث انتقاء طبيعي، فإنها تأخذ معها قطعة من الجزء المحيط بها من الصبغي في عملية يُطلق عليها انتقال جيني ترافقي genetic hitchhiking. ومن ثم، فإنه مع زيادة انتشار الأليل النافع في جماعة بسبب الانتقاء الطبيعي، ستحدث أيضا زيادة في معدلات انتشار الأليلات المجاورة المحايدة أو القريبة من الحياد والتي لا تؤثر في تركيب الپروتين أو كميته بشكل واضح. فهي تمتطي العربة التي تجرها الأليلات المنتقاة طبيعيا. ويطلق على انخفاض أو إزالة التباين فيما بين أفراد الجماعة في نقاط السنپ في منطقة الجينوم المحتوية على أليل نافع مصطلح الكسح الانتقائي selective sweep. ويمكن لعملية انتشار الأليلات المنتقاة بواسطة الانتقاء الطبيعي أن تترك طُرزا أخرى مميزة في بيانات السنپ: فلو أثبت، بشكل مفاجئ، أحد الأليلات الموجودة أصلا فائدته المتميزة في ظروف بيئية جديدة لجماعة ما، يمكن لهذا الأليل أن يصل إلى معدلات انتشار عالية في هذه الجماعة (ويظل نادرا في الجماعات الأخرى) من دون ظهور علامة signal الانتقال الجيني الترافقي بالضرورة.
من الممكن أن يكون جينوم البشر قد مَرّ مؤخرا بتغير تكيفي أوسع مما يمكن للعلماء تعرّفه حتى الآن من خلال تفحُّص الجينوم بالطريقة المعتادة.
خلال السنوات القليلة الماضية، أجري العديد من الدراسات، ومن ضمنها دراسة نشرتُها مع زملائي في عام 2006، حددت مئات العلامات الدالة على حدوث انتقاء طبيعي واضح في جينوم البشر إبان الستين ألف سنة الماضية أو نحو ذلك – أي منذ مغادرة «الإنسان العاقل» لإفريقيا. وفي عدد قليل من الحالات تمكن العلماء من إدراك طبيعة الضغوط البيئية الانتقائية والنفع التكيفي الذي حققه الأليل المنتقى؛ إذ تبين، على سبيل المثال، أن أفراد الجماعات التي تنتشر فيها مزارع إنتاج الألبان في أوروبا والشرق الأوسط وشرق إفريقيا تمتلك منطقة في الجينوم تحتوي على جين لإنتاج إنزيم اللاكتاز lactase، الذي يعمل على هضم اللاكتوز lactose (السكر الموجود في اللبن). ويظهر هذا الجين علامات واضحة لاستهدافه بواسطة انتقاء طبيعي قوي. وفي أغلب الجماعات، يُولد الأطفال ولديهم القدرة على هضمه، إلا أنه بعد الفطام يتوقف عمل جين إنزيم اللاكتاز مما يجعل البالغين غير قادرين على هضم اللاكتوز. وفي عام 2004 نشر فريق بحثي في معهد ماساتشوستس للتقانة(5) دراسة في المجلة الأمريكية للجينية البشرية(6) أوضح فيها أن تنوعات من جين إنزيم اللاكتاز ظلت في حالة نشطة حتى مرحلة البلوغ وحققت انتشارا كبيرا لدى جماعات الأفراد في المناطق الأوروبية التي تنتشر فيها مزارع الألبان، وذلك في مدة تراوحت ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف سنة. وفي عام 2006 نشرت مجموعة بحثية بقيادة
[تعمل الآن في جامعة پنسلڤانيا]، دراسة في مجلة جينية الطبيعة Nature Genetics سجلت فيها هذه المجموعة ملاحظاتها حول حدوث تطور سريع لجين اللاكتاز في جماعات شرق إفريقيا التي تنتشر فيها مزارع الألبان. وهذه التغيرات، بكل تأكيد، ما هي إلا استجابة للتكيف مع ممارسة معيشية جديدة.
لقد تمكن الباحثون أيضا من العثور على علامات واضحة على حدوث الانتقاء الطبيعي فيما لا يقل عن ستة جينات لها علاقة بتحديد لون البشرة والشعر والعينين لدى غير الأفارقة. وكان الضغط البيئي والنفع التكيفي adaptive benefit واضحين هنا أيضا. فمع انتقال البشر من مواطنهم الأصلية في المناطق المدارية، صاروا عرضة لقدر أقل من أشعة الشمس فوق البنفسجية. وحدث ذلك في الوقت الذي يحتاج فيه الجسم إلى هذه الأشعة لبناء الڤيتامين D، وهو عنصر غذائي جوهري. والأشعة فوق البنفسجية في المناطق المدارية قوية لدرجة تمكنها من اختراق البشرة الداكنة اللون لتصل بالكميات المطلوبة لتركيب الڤيتامين D. ولكن ذلك لا يحدث في الأماكن البعيدة عن خط الاستواء. والحاجة إلى امتصاص كمية كافية من الأشعة فوق البنفسجية لبناء هذا الڤيتامين عملت بكل تأكيد على تطور لون بشرة الأفراد في هذه المناطق ليصبح لونا فاتحا، والتغيرات في هذه الجينات الحاملة لعلامات دالة على حدوث انتقاء طبيعي قوي مكّنت ذلك التحول التكيفي adaptive shift.
وتظهر أيضا العلامات الدالة على الانتقاء الطبيعي في مجمـوعـة متنوعة مـن الجيـنـات التي تُكسـب الجـسم مقاومةً للأمراض المعدية. وعلى سبيل المثال، توصلت [من جامعة هارڤرد] مع زملائها إلى أن طفرة في الجين المسمى الكبير LARGE قد انتشرت مؤخرا بمعدل سريع في الأفراد بمنطقة يوروبا في نيجيريا؛ والمرجح أن ذلك يمثل استجابة لظهور حمى لاسا Lassa fever مؤخرا في هذه المنطقة.
صورة
علامات مختلطة(*****)
تمدنا الأمثلة السابقة وحالات أخرى محدودة بدليل قوي على حدوث انتقاء طبيعي عَمِلَ سريعا على تعزيز الأليلات النافعة. أما فيما يتعلق بأغلب المئات من العلامات المرشحة الأخرى، فهناك غموض حول الظروف البيئية التي أدت إلى تفضيل انتشار الأليل المنتخب؛ كما أننا نجهل تأثير هذا الأليل في الأفراد الحاملين له. وقد اعتدنا مع غيرنا من الباحثين حتى وقت قريب على تفسير مثل هذه العلامات المرشحة كدليل على حدوث ما لا يقل عن مئات من حالات الكسح الانتقائية السريعة جدا في الخمسة عشر ألف سنة الأخيرة لدى العديد من المجتمعات البشرية التي تمت دراستها. ولكن تبين لنا من خلال دراسة جديدة، أن أغلب هذه العلامات لا تمثل في الواقع نواتج تكيف سريع حديث للإنسان مع الظروف البيئية المحلية.
وبالتعاون مع زملاء في جامعة ستانفورد تمكّنا من دراسة مجموعة هائلة من بيانات السنپس التي تم الحصول عليها من تحليل عينات دنا نحو 1000 شخص من مختلف أنحاء العالم. وقد أظهر لنا التوزيع الجغرافي للأليلات المنتقاة أن العلامات الأكثر وضوحا تميل إلى الظهور في واحد فقط من ثلاثة أنماط جغرافية geographical patterns. النمط الأول يُطلق عليه كسوح ما بعد الخروج من إفريقيا out-of-Africa sweeps والذي يتميز بالانتشار الكبير للأليلات المنتقاة والأجزاء المرافقة لها من الجينوم hitchhikers في كل الجماعات غير الإفريقية [انظر المؤطر أعلاه]. وهذا النمط يوحي بأن الأليل التكيفي adaptive allele ظهر وبدأ بالانتشار بعد فترة قصيرة جدا من خروج البشر من إفريقيا ولكن عندما كانوا لايزالون في منطقة الشرق الأوسط – أي منذ نحو 60 ألف عام - ومن ثم تم نقل الأليل إلى مختلف أنحاء العالم مع هجرة البشر شمالا وشرقا. أما النمطان الآخران فهما أكثر تقيدا بالمنطقة الجغرافية، ويتضمنان: الكسوح الغرب آسيوأوروبية West Eurasian sweeps، حيث ينتشر الأليل المُفضل بمعدل عال في جميع المجتمعات في أوروبا والشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا، دون انتشاره في مكان آخر؛ وهناك كسوح آسيا الشرقية East Asian sweeps، التي يكون فيها الأليل المفضل أكثر شيوعا في سكان آسيا الشرقية، والأمريكيين الأصليين، والميلانيزيين Melanesians والغينيين الجدد Papuans. ومن المحتمل أن يمثل هذان النمطان الكسوح الانتقائية التي حدثت بعد فترة قصيرة من انفصال الغرب آسيوأوروبيين عن الآسيويين الشرقيين واتخاذ كل منهما مسارا منفصلا. (وعلى وجه الدقة، ليس معلوما الوقت الذي حدث فيه ذلك، ولكنه ربما يعود إلى نحو 20 ألف إلى 30 ألف عام.)
وتُظهر لنا هذه الأنماط الكسحية ما هو مثير جدا للاهتمام ألا وهو: أن حركات التنقل التي قامت بها الجماعات القديمة قد أثرت بشكل كبير في توزيع الأليلات المفضلة على مستوى العالم، وأن تأثير الانتقاء الطبيعي في التعديل الدقيق لهذا التوزيع كاستجابة للضغوط البيئية المعاصرة، كان ضئيلا. وعلى سبيل المثال، فإن تنوعا للجين المسمى SLC24A5 يؤدي دورا بالغ الأهمية في تكوين لون البشرة الفاتح. ونظرا لارتباط هذه الصفة بانخفاض الكمية المتاحة من ضوء الشمس، فإننا نتوقع أن تكرار هذا التنوع في الأفراد قد يزداد مع البعد عن خط الاستواء وأن توزعه سيتشابه فيما بين سكان شمال آسيا وشمال أوروبا. وعوضا عن ذلك نرى كسحا انتقائيا في الغرب الآسيوأوروبي؛ فهذا التنوع للجين والدنا المرافق له تطفلا hitchhiking DNA ينتشر في سكان المنطقة الممتدة من باكستان وحتى فرنسا، ولكنه يغيب بشكل أساسي في شرق آسيا – ويحدث ذلك حتى عند خطوط العرض الشمالية. وهذا التوزيع يـدل على ظهور هذا التنوع النافع في أجداد الجمـاعـات الغرب الآسيوأوروبية – وذلك بعد تشعبهم عن أجداد آسيا الشرقية – وهم من قاموا بحـمله إلى تلـك المنطقـة. وهـذا يعني أن الانتقاء الطبيعي أدى إلى انتشار الأليل SLC24A5 في مرحلة مبكرة، ولكن التنقلات التاريخية للجماعات القديمة كان لها دور في تحديد الجماعات التي ظلت حاملة له وتلك التي لا تحمله حاليا. (هناك جينات أخرى مسؤولة عن لون البشرة الفاتح في سكان آسيا الشرقية.)
إن مراجعة علامات الانتقاء الطبيعي في هذه البيانات وغيرها تُظهر لنا نمطا آخر يدعو إلى الفضول. فمعظم الأليلات التي تتباين بقوة في انتشارها فيما بين الجماعات – مثل الأليلات التي تنتشر لدى جميع الآسيويين تقريبا دون الأفارقـة – لا تُظهر علامات قوية للانتقال الجيني الترافقي في ضوء ما نتوقعه لو عمل الانتقاء الطبيعي على نشر كبير وسريع لهذه الأليلات الجديدة. وبدلا من ذلك، تبدو هذه الأليلات وكأنها قد انتشرت بشكل تدريجي خلال الستين ألف سنة الماضية منذ خروج نوعنا البشري من إفريقيا.
وفي ضوء هذه الملاحظات أشترك مع زملائي في الاعتقاد الآن بأن الكسوح الانتقائية المذكورة في الكتب المدرسية الجامعية – حيث يقود الانتقاء الطبيعي تثبيتا سريعا لطفرات جديدة نافعة – حدثٌ نادرٌ إلى حد ما، وذلك منذ أن بدأت هجرة الإنسان العاقل. وما نظنه هو أن مفعول الانتقاء الطبيعي على أليلات معينة ضعيف عموما، مما يؤدي إلى تدعيمها بمعدل بطيء جدا. ونتيجةً لذلك، فإن أغلب الأليلات التي تتعرض لضغط انتقائي لا يمكنها أن تصل إلى معدلات انتشار عالية إلا في حالة استمرار تعرضها لذات الضغط لعشرات آلاف السنين.
سمة واحدة والعديد من الجينات(******)
قد تبدو استنتاجاتنا متناقضة: فلو أن الأليل النافع يحتاج إلى خمسين ألف، وليس خمسة آلاف سنة، لكي ينتشر في جماعة، فكيف استطاع البشر التكيف سريعا مع ما استجد عليهم من ظروف بيئية؟ ومع أن أفضل ما فهمناه من حالات التكيف قد حدثت نتيجة لتغيرات في جين واحد، إلا أن أغلب حالات التكيف ربّما لا تظهر بهذه الطريقة بل تنتج من تنوع جيني ذي تأثير معتدل ناجم عن المئات أو الآلاف من الجينات المعنية من الجينوم – أي يمكن القول إنها متعددة الجينات polygenic. وهناك سلسلة من الأوراق البحثية التي نشرت عام 2008، على سبيل المثال، قامت بتحديد أكثر من خمسين جينا مختلفا ذات تأثير في سمة الطول في الإنسان. ومن المؤكد أن هناك العديد من الجينات الأخرى الإضافية التي لاتزال موضع بحث. ويعمل كل جين من الخمسين المذكورة على زيادة متوسط الطول بمقدار 3 إلى 5 مم فقط.
وعندمـا يستهدف الانتقاء الطبيعي سمة الطول في الإنسان – كما حدث في جماعات الأقزام pygmy التي تعيش في بيئة الغابات المطيرة في إفريقيا وجنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، والتي ربما يؤدي فيها صِغَر حجم الجسم دورا في التكيف مع انخفاض كمية المواد المغذية المتاحة في تلك الأوساط – فإنه قد يعمل بشكل أساسي على تعطيل انتشار مئات من الأليلات المختلفة. ولو أن نسخة الجين التي تؤدي إلى القِصَر صارت أكثر شيوعا بمقدار 10% فقط، فإن أغلب أفراد الجماعة سوف يكون لديهم سريعا أليلات أكثر تسبب القصر، مما سيؤدي إلى جماعة أقصر طولا وسطيا. ولكن، حتى ولو كانت السمة العامة تقع تحت سيطرة انتقاء طبيعي قوي، فإن تأثير هذا الانتقاء في كل جين له علاقة بسمة الطول، سوف يظل ضعيفا. ونتيجةً لضعف تأثير الانتقاء في أي جين أحادي، فإن هذا يعني أن حالات التكيف الناتجة من العديد من الجينات polygenic adaptations لن تظهر في دراسات الجينوم كعلامات تقليدية لانتقاء طبيعي. وبناءً على ذلك، من الممكن أن يكون جينوم البشر قد مَرّ مؤخرا بتغيرات تكيفية أكثر مما استطاع العلماء تعرّفه حتى الآن عبر دراستهم للجينوم بالطرق المعهودة.
هل مازلنا نتطور؟(*******)
فيما يخص التساؤل حول ما إذا كان البشر مازالوا يتطورون، فمن الصعب علينا اعتبارا أن الانتقاء الطبيعي هو المسؤول عن تشكيل جماعات اليوم. إلا أنه من السهل علينا أن نتخيل سماتٍ من المحتمل أن تتأثر به. فالأمراض المعدية مثل الملاريا والإيدز مازالت تعمل كقوى انتقاء طبيعي في العالم النامي. ومن المحتمل أن تكون مجموعة تنوعات الجينات التي تمدنا بحماية نسبية ضد هذه الأمراض واقعة تحت تأثير انتقاء طبيعي قوي، وذلك لأن الأفراد ذوي هذه التنوعات يرجح أن يقاوموا ويعيشوا أطول ويكون لهم عدد أكبر من الأطفال مقارنةً بالآخرين الذين ليس لديهم هذه التنوعات. فعلى سبيل المثال، هناك تنوع لأحد الجينات يعمل على حماية من يحمله من الإصابة بالملاريا في صورتها النشيطة vivax form وقد أصبح سائدا لدى العديد من الجماعات في منطقة جنوب الصحراء الكبرى sub-Saharan بإفريقيا. وفي الوقت نفسه، يمكن للتنوعات الجينية التي تحمي من الإيدز أن تنتشر بين سكان هذه المنطقة خلال مئات من السنين لو تمكن الڤيروس من الاستمرار بإصابة الأفراد ثم توقف فعله بواسطة هذه التنوعات من الجينات. ولكن نظرا لكون ڤيروس الإيدز لديه قدرة على التطور أسرع من البشر، سيكون من المرجح أن نتغلب عليه بالتقانة (مثل استخدام اللقاحات) أكثر من الانتقاء الطبيعي.
وهناك عدد قليل نسبيا من وفيات الأفراد فيما بين الولادة والبلوغ في العالم المتقدم، لذا فإن بعض أشد قوى الانتقاء غالبا ما تكون تلك التي تعمل على الجينات التي تؤثر في عدد الأولاد الذي ينجبه كل شخص. ومن حيث المبدأ، فإن أي جانب مرتبط بالخصوبة أو بالسلوك الإنجابي يتأثر بالتباين الجيني يمكن أن يكون هدفا للانتقاء الطبيعي. وفي عام 2009 نشر [من جامعة يال] وزملاؤه بحثا في مجلة الأكاديمية القومية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية(7)، حددوا فيه ست سمات مختلفة في النساء مرتبطة بزيادة معدل إنجاب أطفال ذوي أعمار أطول يتم توريثها جميعا بدرجة عالية إلى متوسطة. حيث وجد الفريق البحثي القائم بالدراسة أن النساء اللواتي ينجبن عددا أكبر من الأطفال يملن إلى أن يكنّ أقصر قامة وأكثر سمنةً مقارنة بمتوسطات طول القامة والسمنة في النساء، كذلك فإنهن يصلن إلى مرحلة انقطاع الطمث menopause عند عمر أكبر. وانطلاقا من ذلك لو حدث ثبات في الظروف البيئية، فمن المرجح أن تصبح هذه السمات أكثر شيوعا مع مرور الزمن كنتيجة لحدوث الانتقاء الطبيعي: ففي هذه الدراسة يقدر الباحثون أن متوسط العمر عند مرحلة انقطاع الطمث سوف يزداد بنحو عام واحد خلال عشرة أجيال، أي خلال مئتي عام. (لو تأملنا في الأمر بشكل أوسع، لَبَات من المقنع أن نصل إلى أن التباين الجيني المؤثر في السلوك الجنسي – أو استخدام وسائل منع الحمل – يمكن أن يكون عرضةً لانتقاء طبيعي قوي، مع أنه لايزال من غير الواضح مدى قوة تأثير الجينات في مثل هذه السلوكيات المعقدة).
ومع ذلك، فإن معدل التغير في أغلب سماتنا أبطأ بكثير من معدل التغير في ثقافتنا وفيما نستخدمه من تقانة، وكذلك، بالطبع، فيما يحدث من تغير في البيئة التي على مستوى العالم. وتتطلب التغيرات التكيفية الكبيرة ظروفا مستقرة تمتد إلى آلاف السنين. ومما لاشك فيه أن البيئة التي سيحيا فيها الإنسان بعد مرور خمسة آلاف عام من الآن ستكون مختلفة تماما. ولكن في حال عدم حدوث تغيرات على نطاق واسع في هندسة الجينوم، فمن المرجح أن يبقى الناس عموما كما هم الآن.