تحية طيبة ...
لم يخالجنى الشك لحظة أن الأديان هى مشاريع سياسية وجدت أن عباءة المقدس هى الأصلح لتمرير أجندتها السياسية ...أو بمعنى أكثر دقة إبتدعت المقدس لتمرير مشروع إجتماعى سياسى يتطلع إلى الوجود والتواجد .
ولم أتصور أن الأديان تكون خارج إطار هوية إجتماعية تجمع أفرادها تحت لواء مشروع سياسى وإجتماعى له بنيته الواضحة المعالم والرؤى ...فلا تكون الطقوس والشرائع إلا مكملة للديكور العام ومحددة فى الوقت ذاته ملمح الشخصية المراد تميزها وتفردها .
هناك نماذج شديدة الوضوح بل شديدة الفجاجة فى طرحها لنفسها كمشروع سياسى يبغى التواجد والتمدد ,ولا يغيب هذا الأمر إلا من إكتحلت عيناه بكحل الإيمان .
لعل النموذج التوراتى والإسلامى على وجه الخصوص لهما من النماذج التى تعلن عن نفسها بقوة ولن يرهق الدارس للتراث الميثولوجى لهما كم الدلالات القوية التى تطرح نفسها لتبين أن الهدف هو إرساء قواعد مشروع سياسى إجتماعى لجماعة بشرية أرادت أن يكون لها مكان تحت الشمس .
سنهتم فى هذه الدراسة بالتراث الميثولوجى التوراتى على أن نعرج إلى دراسة التراث الإسلامى فى مبحث أخر .
سأتكأ فى دراستى تلك على ثلاث مصادر للبحث ..
- كتاب " الشخصيات الأسطورية فى العهد القديم ..د. جميل خرطبيل
- كتاب " مدخل إلى فهم دور الميثولوجيا التوراتية ...د . سيد القمنى .
- كتاب " اليهودية بين النظرية والتطبيق " ...د .على خليل .
سأبدأ بتناول أجزاء من دراسة د. سيد القمنى على أن أدعمها بأجزاء من الدراستين الأخريتين .
حوالي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، وقت كانت مصر قد تحولت إلى دولة عظمى على الكوكب الأرضي، منذ ما يزيد على خمسة عشر قرنا من الزمان... ووقت كانت فيه بلاد العراق القديم قد انتقلت من نظام الدولة المدينية المتعددة إلى دولة مركزية كبرى،... تتالت على الحكم فيها عدة دول تركت بصماتها الحضارية في وادي الرافدين، من السومريين إلى الأكاديين إلى البابليين إلى الأشوريين، ووقت بدأ الكنعانيون في فلسطين يتحولون عن نظام المشتركات المعبدية إلى نظام الدول المدينية على شكل ممالك صغيرة متجاورة، بينما شرع فرعهم الشمالي على الساحل اللبناني، والمعروف بالفينيقي، يشرع أشرعته على البحر ليغزو عالمه المجهول ويقيم مستعمرات متفرقة على سواحله حتى الأطلسي غرباً.
في هذا الوقت من الزمن، وفدت إلى بادية الشام موجات بدوية متبررة من البوادي البعيدة ، تتدافع متلاطمة على صفحة المنطقة فيما عرف بالقبائل الآرامية... وحين كانت الموجات الآرامية لم تزل في طور التدفق ترسل قرون استشعارها من بادية الشام، تتحسس ما حولها في بلاد الخصب، برز من رغاء بطونهم وأفخاذهم تلك القبيلة التي حطت رحلها، عطشى جوعى، شرقي فلسطين، وحلي لها تعدد الأسماء، فعرفها التاريخ باسم العبريين، وبني إسرائيل، وشعب الله المختار، يدفعهم الطمع إلى الجموح في الطموح، للاستيلاء على مناطق الخصب الشاسعة من حولهم.
وعلى العادة البدوية، تصوروا أن بالإمكان الإغارة كراً وفراً، وفق التقاليد البدوية العتيدة، وأخلاقيات السلب والنهب، لكنهم وجدوا أنفسهم هذه المرة إزاء نوع جديد من النظم لم يألفوه، أمام دول وممالك وحضارات كبرى، ذات جيوش منظمة وحكومات مركزية، تتحرك كل أطرافها للعمل بمجرد أن يجذب الملك طرف الخيط داخل قصره... مما جعل الجوعى القادمين يتوقفون للتفكير ملياً في الوسائل المناسبة لاختراق هذه الأسوار المنيعة، والأنظمة الصارمة... فاستكانوا على حدود الممالك المجاورة، وتعاملوا كمحطات إنذار مبكر لهذه الممالك إزاء أي تحركات متبررة حولها من بني جنسهم، مقابل ما تفيض به عليهم هذه الممالك من خيرات.
ومع الاحتكاك بهذه الحضارات المنتظمة في سلك المركزية، اهتدى القادمون وأدركوا، مبكرين أن صروح الحضارة لا تخرج فجأة من الأرض بلا منابت أو جذور (وهم لا يملكون أياً من مقوماتها)، فقيام الكيانات المركزية يحتاج تماسكا لا يتيسر للنظام الاجتماعي البدوي بفرقته، ويحتاج إلى تكاتف لجهود العمل البشري المتسق في خطط منظمة يصعب على الطبع البدوي، في تفرقه، استلهامه أو حتى استيهامه، إضافة إلى ما هو أهم من كل هذا، وأول مقومات الكيان المتماسك، وهو الأرض.
ومن ثم كان لابد من أرض أولاً، إلا أن الاستيلاء على أرض متكاملة البنيان الحضاري، جاهزة التسليم، أمر غير ميسور تقف دونه هممهم، لذلك توجه هممهم نحو خطة طويلة النفس، تعتمد على التسلل الهادئ والبطيء من أضعف الثغرات الممكنة في المنطقة... ولم يكن هناك أمثل من مجموعة الممالك الكنعانية المتفرقة لتحقيق الغرض، فمصر دون الجموح ولو في الخيال، وبابل وأشور ممالك تفرض هيبتها باقتدار، وبالفعل بدأ التسرب البطيء والهادئ إلى الممالك الكنعانية ليستقروا فيها كمواطنين من الدرجة الثانية، وكعصابات مأجورة على الحدود أحياناً .
وحين بدأت الأرض تتماسك من تحتهم وتلتئم وتتكون، وفق الخطة اللئيمة لقيام الكيان... والكيان ليس فقط أرضاً تجود بشبع البطون، وتؤوي الجسد المنهك من ارتحاله وراء الكلأ، إنما هو أيضاً تراث وراسب لخبرات قديمة وعلاقات أقدم بالأرض وطبعها وطبيعتها، وناتج جدل زمني طويل بين الإنسان وبين هذه الأرض، فهو أيضاً تاريخ، ووعي بهذا التاريخ.
ومن هنا أخذ هؤلاء في تمثل تراث المنطقة، والتراث الكنعاني بشكل خاص، وهضموه بجودة عالية، ثم بدأوا أعادة صياغته بشكل جديد، بما يخدم مصالحهم الآنية أوانها، والمستقبلية أيضاً، بوعي نفاذ لهذا التاريخ ودوره، مستثمرين في ذلك العُمْلَةَ صادقة الرنين، أقصدُ "الدَّين".
وبالدَّين كانت بداية تاريخهم، الذي لم يكن تاريخهم أصلاً، وبالدين كانت بداية تواجدهم كشعب يحمل تراثاً عريقاً "يكن له الغرب أعظم تقدير" على حد تعبير لويد جورج، وبالدين كانت بداية لغتهم بعد أن تحولوا عن آراميتهم الأصلية إلى اللغة الكنعانية، امعاناً في المصداقية مع الوعي بتمثل التراث والتلاحم بالتاريخ، وهو ما اعترف به الكتاب المقدس، حيث أوضح، بلا التواء، برغم التواءاته ومنحنياته الخطيرة، أن اللغة العبرية هي "شفة كنعان"، أو لسان كنعان (أشعياء 19 – 18)، وبالدين وتفهمهم لدوره، وإمكانياته التي لا تنفد، كانت بدايتهم كأصل للتدّين، فاحتكروا النبوات جميعاً في نسلهم وأصلابهم، وليس هناك شهادة لهم بال***ق الأكيد سوى التسليم لهم بهذا الاحتكار.
و بالرغم أنهم بدأوا من ديانات المنطقة – كما سنرى –، لكن بعد أن أدخلوا عليها دبلجة وبرمجة ذكية، فتحولت إلى دين يجمع من المتنافرات هجيناً عجيباً، يزداد عجبه عندما نجد العقول تقبله أحسن القبول، ليصبح صاحب السيادة على عقل المنطقة بلا منازع.!!
وقديماً، وحديثاً، وربما لأمد مقبل، كان الدّين هو الأسلوب الأكثر فعالية وعملية، وقد تمكن العبريون من التضلع في فنونه، واستثمروه وفق برامج جدوى عالية الكفاءة والجودة، مع انتهاز لماحٍ لكل ما يطرأ في المنطقة من تغيرات على مختلف الأصعدة، لنشر القناعات المطلوبة بين أهلها.
ومن هنا نفهم لماذا كانوا في عجلة من أمرهم لوضع كتاب مقدس ، جمعوا له حشداً من كل ما وقع تحت أيديهم من ميثولوجيا المنطقة وتراثها، مع التدخل بما يلزم وقتما لزم الأمر، فكان هذا الكتاب مأثرتهم الوحيدة، لكنه كان الأوحد الثابت، بعد اندثار الحضارات الأصلية، وانقطاع أهلها عن تاريخها، بينما كانت للمقدس العبري منهلاً ومنبعاً، بحيث أثبت صلابة لا تبارى، لا نجد لها سببا سوى الوعي بالتاريخ والتواصل معه.