تحية طيبة ...
لن تقتصر دراستنا فى هذه الساحة على فكرة الأسطورة ومنشأها وتأثيرها على كثير من معتقدات الأديان الحديثة .
بل يكون جميلا وممتعا أن نتناول ماهى الحاجات النفسية التى دفعت الإنسان إلى الأعتقاد والتماهى مع هذه الفكرة .
لدينا مقال مترجم للعالم جان – فرانسوا دورتيي ...يكون هو بداية الدرب فى الخوض فى أصل الحاجة إلى الأعتقاد .
منذ أعوام قليلة شرع بعض الباحثين في التفتيش داخل خبايا الدماغ للكشف عن العمليات الذهنية القديمة التي تدفعنا إلى الاعتقاد في وجود الآلهة.
يجري المشهد بجامعة نيوكستل بقاعة صغيرة وضع فيها الشاي و القهوة تحت التصرف الحر لكل راغب في تناول تلك المشروبات، ووضعت بنيقة صغيرة كتب عليها ثمن الشاي و يساوي 30 سنتا و ثمن القهوة ويساوي 50 سنتا. و قامت الباحثة "ماليسا باتيسون" بالاختبار البسيط التالي : وضعت فوق تلك البنيقة صورة تمثل عينين كبيرتين مفتوحتين. و كانت النتيجة أن متناولي الشاي يشعرون بأنهم مراقبون و يتركون مبلغا ماليا يفوق مرتين و نصف المبلغ الذي يقع جمعه عندما تكون الصورة تمثل باقة من الزهور. كانت الخلاصة بالنسبة لـ"باتيسون" بسيطة وهي أنه توجد نزعة قوية تجعلنا نتصرف بأكثر أخلاقية عندما نشعر بأننا مراقبون. و بالرغم من أن الأشخاص يعرفون أن هاتين العينين هما من حبر ومن ورق فإن آلية ذهنية قد انطلقت بشكل ما داخلهم و أدّت إلى أنهم أصبحوا يشعرون بعدم الراحة في صورة ذهابهم من دون دفع.
تربط "باتيسون" هذه النتيجة مع ظاهرة من الظواهر الدينية و تعلن أن الأديان تسعى إلى فرض قواعد سلوكها الحسن انطلاقا من عملية من هذا القبيل : (انتبه ! إنك مراقب من فوق !) إنه مفعول "بابا نويل" إذا صح القول.
انبثاق علم اللاهوت العصبي
تقام منذ بضع سنين دراسات تهدف إلى البرهنة على أن الدماغ البشري "مبرمج كي يعتقد"، وهكذا برز علم اللاهوت العصبي في أواسط التسعينيات. "اندريو ناوبارغ" من جامعة بنسيلفني يعدّ أحد رواد هذا الميدان(1) و قد جالت بخلده فكرة أن يصور بالأشعة على الماسح الضوئي (scanner) دماغ أشخاص بصدد ممارسة التأمل الربّاني. و تثبت مجموعة الصور الدماغية أن النشوة الباطنية مرتبطة بانخفاض نشاط منطقة محددة من اللحاء الجداري (cortex pariétal)، غير أن هذه المنطقة هي بالضبط الرقعة الدماغية المسؤولة عن الاهتداء في المجال الفضائي، وتعطيلها أو تثبيطها يؤدي إلى شعور باللاتميّز بين الذات و الغير. ولا شكّ إن بين هذه المعطيات وادعاء العثور على "مركز الدين في الدماغ" على غرار وجود مركز المتعة ومركز النطق خطوة وقع اجتيازها بسرعة. فالأمور ليست بهذه البساطة، أوّلا لأن تجارب مماثلة قد أجريت على راهبات كرمليات و هن بصدد التعبّد. فعارضت نتائجها نتائج التجارب السابقة، وهنا يؤكد "ماريو بورقار" من جامعة مونريال (2) أن "التجربة الصوفية تستنفر مناطق متعددة في الدماغ لا مركزا واحدا"، وإضافة إلى ذلك، أن تكون هناك مناطق دماغية منشطة عند حصول التجارب الصوفية فهذا لا يعني في شيء أن الدماغ كان مبرمجا للاعتقاد. فإذا ما عزفنا مثلا على آلة السكسوفون أو إذا ما قرأنا ألبوما لـ"تان تان" فإن مراكز دماغية سوف تنشط في مكان ما داخل المخ، ولكن هذا لا يعني مطلقا أن العزف على السكسوفون أو أن قراءة شريط مصور كانا مبرمجين أو أنه توجد مراكز مخصصة لهذه الأنشطة ، هذا علاوة على أن المتصوفين يمثلون قسما هامشيا ضمن المؤمنين. فحتى إذا ما تطابقت الغشية الصوفية مع حالة خاصة من الوعي، فإن هذا لا يكفي لتفسير الاعتقادات العادية.
يرى عالم الانتربولوجيا "دافيد سلوان ويلسن" أننا يجب نبحث عن الجذور السيكولوجية للدين في اتجاه آخر. إن نزعة البشر- التي لا يمكن كبحها - نحو التكتل حول ألوهيات، تستجيب إلى سلوك منتخب للتطور بغرض تحقيق هدف تكيّفي. ففي مؤلفه) Darwin' s Cathedral)(3) يعتبر هذا العالم الدين كآلية "انتقاء المجموعة"* أي كسلوك تم إفرازه خلال عملية التطور من أجل تفضيل التعاون بين الأفراد و جعل المجموعة أكثر قدرة على البقاء. فمن خلال مقارنة بين عديد الأديان في العالم – من الكلفينية إلى اليهودية ومن مسيحية البدايات إلى الديانات التقليدية ببالي – استنتج أنه كلما شجعت المجموعات البشرية ( و بالتأكيد المجموعات أكثر من النظم الدينية) القيم المشتركة و الأخوّة و السلوكيات الأخلاقية، كانت فرص بقاء المجموعة أوفر. وهكذا يكون السلوك الديني إذن آلية لضمان بقاء الجماعة مثلما هو الحال بالنسبة للسلوكيات القرابية أو للدفاع عن الأرض. غير أن نظرية "د.س. ولسون" لا تفسر لماذا يجب المرور عبر معتقدات وطقوس على قدر ما من الغرابة – مثل وجود الكائنات اللامرئية و أساطير عجيبة و عادات وعبادات وصلوات جماعية – لإنتاج التضامن داخل المجموعة. فبقطع النظر على كل اعتبار نجد أن هناك سلوكيات "أخلاقية" قد برمجت لدى أصناف من الحيوان عن طريق آليات بسيطة ومباشرة مثل التعلق وغريزة الأمومة والإيثار على النفس والخوف والتراتب.
ولكي نفهم كيف انساق البشر إلى الاعتقاد في وجود كائنات غير مرئية أصبحوا يكنون لها تعلقا (وينذرون لها عبادة )، يقدم لنا علماء النفس التطوريون ( المنتسبون إلى نظرية التطور والنشوء ) فرضية مغايرة. فحسب عالم النفس "بول بلووم" يشكل الاعتقاد في وجود "الأرواح" ظاهرة شاملة تظهر مبكرا جدا زمن الطفولة. و ليس هذا الاعتقاد إلا فرعا طارئا أو عرضيا من ميكانيزم بسيط ألا وهو أننا نستشعر أنفسنا ككائنات متمتعة بعقل أي بإرادة ورغبات و أفكار وذلك بصورة مستقلة عن جسمنا. و نحن نسند هذه الخصائص بكل تلقائية إلى الآخرين أيضا. (4) إذن كان من الطبيعي أن نسحب هذه الخصائص ليس فقط على البشر الآخرين بل كذلك على الحيوانات و على القوى اللامرئية. إن تخيل الشمس والرعد والنجوم ككائنات حية تتمتع بإرادة ذاتية هو معتقد عفوي أو تلقائي للأطفال. و يعتمد " دبوراه كلمان" على هذه المعاينة لـ"بلوم" ( والتي سبق أن قام بها "جان بياجي" من خلال نظريته عن الإحيائية الطفولية") لكي يؤكد أن الأطفال هم تلقائيا "ألوهيين" .(5)
يمكن ، إذن، أن نفسر المعتقدات الدينية كنتاج ثانوي لعملية ذهنية عادية.(6) وعلى النحو ذاته وعندما يقع لنا مكروه ( كمرض أو إخفاق ) يتدخل هذا الميكانيزم السببي ليجعلنا ننسب ما جرى لنا إلى إرادة خارجية. و كذلك يشكل التوجه إلى هذه العلة اللامرئية لنطلب منها الصفح أو المعونة عند المعاناة جنوحا تلقائيا. فنحن نطابق العلة الخارقة على العلة الطبيعية. وعند هذه النقطة يلتقي علم النفس التطوري مجددا بفرضية قدمها "سيغموند فرويد".ففي مؤلفه "مستقبل توهم" يعزو مخترع علم النفس الحاجة إلى الاعتقاد إلى نكوص نفسي للراشد نحو انفعالات الطفولة. فخضوع البشر إلى الرب يضاهي سلوك الطفل الصغير تجاه والديه، فهو أمام محن الحياة يشعر بأنه بلا ذخيرة وهو يستنجد بصورة الأب المثالية باعتبار أنها ستجلب له الدعم و الحنان.
وقد حل علم اللآهوت العصبي أو علم النفس التطوري محل سلسلة طويلة من الفرضيات حول "الحاجة إلى الاعتقاد". فمنذ القرن التاسع عشر وقع تفسير المعتقدات على التوالي بانبهار أو خوف البشر أمام قوة الطبيعة و بالقلق النفسي أمام الموت و بأمل العيش في عالم أحسن كسلوان نتجاوز به آلام الحياة.(7)
و قد سبق لعالم النفس الأمريكي " وليام جيمس" أن أكد أننا حسب رأيه لا نستطيع أن نحصر الشعور الديني في تجربة واحدة. و قد اعتمد في كتابه ( تنوع التجارب الدينية - 1902) على العديد من شهادات المؤمنين كي يبين أن العلاقة مع الرب ليست متطابقة بالنسبة للجميع. فالصوفي الذي يسعى إلى المطلق يربط علاقة مع المقدس تختلف عن تلك التي يربطها ذلك الذي يبحث عن مؤاساة أخلاقية أو ذلك الذي يطالب بقيم و نماذج للسلوك، وهؤلاء يختلفون أيضا عن ذلك المتعصب الذي يرتبط اعتقاده بمذهب أو عقيدة دينية.
جاذبية الديني
إننا نجد في أديان اليوم طيفا كاملا من السلوكيات. فـ"أديان الشفاء" – من مذهب الكنيسة الإنجيلية إلى البويتي (Bwiti ) – تشهد اليوم عودة قوية.(8) فداخل السجون يوفر اعتناق الإسلام لأفراد انساقوا إلى الانحراف إطارا أخلاقيا(9)، وتوفر البوذية الغربية هيكلا للتفكير و التأمل للعديد من الأفراد الباحثين عن الرضى والتفتح الشخصي. أما بالنسبة إلى آخرين أيضا، يمكـّن الدين من ربط صلات بالمجموعة. وهو ما يمثل أيضا أحد أسباب نجاح الشعائر المعاصرة المستهوية للجماهير. وأخيرا، نجد آخرين ينخرطون في تنبؤية سياسية/دينية واضعين كل آمالهم في التغيير المجتمعي. وربما يكمن سر هذا النجاح في أن الجاذبية الدينية لا تقتصر فقط على "شعور ديني" خالص من العسير تحديد ملامحه بل إنها تتعداه لتشمل كامل سلسلة الانفعالات و التمثلات الذهنية التي تستطيع أن تستحوذ على الكثير من العقول ذات الانتظارات المتعددة.
بيت القصيد
انتقاء المجموعة : يوجد جدل داخل الداروينية لمعرفة ما إذا كان الانتقاء الطبيعي يترك آثاره على الأفراد ( بانتقاء سماتهم المفيدة ) أو على الجماعة. إن فكرة "انتقاء المجموعة"، بالرغم من أنه وقع رفضها من قبل عدد كبير من أهل الاختصاص منذ الستينيات، وجدت من يدافع عنها مجددا و يعتبر هؤلاء المدافعين أن ميزة ما يمكن لها أن تتطور إذا ما أفادت المجموعة ككل أكثر من إفادتها للفرد المنعزل.