صورة
فكرة العدم، والفراغ المطلق، وغياب كل شيء، واللاشيء المطلق، هي فكرة مدمّرة بذاتها: ما إن نتصوّرها، حتى نحيد عنها أو نحوّلها. حالما تخطر لنا، تتكوّن وتتجسّد. لأن تصوّر العدم يعني أن يُنسب اليه، بطريقة خفيّة وأكيدة في الوقت ذاته، بعض صفات أو إمكانات بواسطتها يصبح على الفور "شيئاً ما"، ويتحوّل مادة خاصة لا يمكنه من حيث المبدأ أن يكونها. عندما يستولي الفكر على العدم، يدفعه في اتجاه علم الوجود بدل أن ينزع عنه أدنى صفة تشبه الوجود… وفي هذه العملية المع****ة، يخونه.
يحدث ذلك كما لو أن من غير الممكن أن نتفكّر غياب شيء إلا من طريق تصوّر شيء آخر. في نظرنا تأتي كلمة إلغاء أولاً بمعنى الإبدال: يصبح الغياب حضوراً، ويمتلئ الفراغ، ويلبس عدم الوجود وجوداً ويرتدي الصفر قيمة عددية على الأقل حتى الرقم واحد.
عبثاً تحاول كلمة "عدم" أن تكون قديمة ومألوفة، غير أنها لا تعيد قطّ إلا الى النقطة الأكثر ظلمة في تصوّراتنا. إنها مفارقة العدم: عندما نصنع منه شيئاً ما بدل لا شيء، نجعله عدماً.
بنية الروايات الأسطورية
تكفي هذه الصعوبات من دون شك لتفسير السبب الذي من أجله تتخيّل معظم الأساطير التي تصف حالة العالم الأولى وكأنها كانت سابقاً مملوءة بشيء ما، وليست كفيض العدم المحض. فيها يبدأ العالم دائما بما يسمّى "ما قبل العالم" حيث كانت تترجرج المادّة والمدى والزمن، وكأن الوجود لا يمكنه أن يُفسّر إلا بالوجود وربما بالوجود الكلّي. بالنسبة الى المصريّين كان "ما قبل العالم" هذا محيطاً أوّل، كان دوّامةً ضخمةً ليس لها قوانين ولا تعرف الثبات: "خلال ليل البدايات الطويل، لم يكن يوجد شيء بعد، لا الحياة ولا الموت، لا الغضب ولا المعركة. وحدها كانت تخرّ مياه "النون" المظلمة، مياه المحيط الأوّل". بالنسبة الى شعوب بلاد ما بين النهرين، كان "ما قبل العالم" يعني أيضاً محيطاً صاخباً يمزج المياه العذبة والمياه المالحة "عندما لم تكن السماوات في الأعلى قد اتخذت بعد شكلاً، ولا الأرض في الأسفل قد اتخذت اسماً، وحدهما محيط المياه العذبة (أبسو) ومحيط المياه المالحة (تيامات) كانا يمزجان أمواجهما الضخمة في عناق بلا نهاية". في الكتاب المقدّس، بدأ الخالق عمله عندما نظّم بالكلمة، كوناً حيث كان كل شيء حتى ذلك الوقت خليطاً: الأرض، والمياه، والنور، والظلمات. "في البدء، خلق الله السماء والأرض. كانت الأرض خالية خاوية، وكانت الظلمة تغطّي المحيط الأوّل، وكان روح الله يرفرف على سطح المياه". قال الله: "فليكن نور! وكان النور". عند الصينيين، يكبر الخالق خلال آلاف السنين داخل بيضة، ثم يكسر الصدفة بضربة فأس، "ويبدأ فوراً بالعمل كي يفصل، بكل قواه، ما بين العناصر المتشابكة، وينظّم فوضى البدايات".
ماذا بعد؟ تختلف أساليب الخلق من تقليد الى آخر، لكننا نجد أيضاً بينها نقاطاً مشتركة: هناك خلق بالكلمة، ومن خلال معركة بين كائنات فائقة الطبيعة، ومن طريق غوص في قعر المحيط الاوّل، أو أيضاً من خلال تفكيك كائن قديم. إذاً تبدأ ولادة العالم في الغالب من خلال تنظيم لنوع من "مادة" أزلية، لكن موجودة سابقاً.
المشكلة التي تهمّنا هنا تكمن في تحديد ما إذا كانت العلوم قادرة ام لا على العمل بطريقة أفضل من الأساطير عندما يتعلّق الأمر بمسألة البداية: هل العلوم في حاجة، من أجل بناء ذاتها، لوجود سابق؟ هل يلزمها أن تنطلق دوماً من "هناك"، أو يمكنها التوصل الى بداية هي ابتداء حقيقي، الى نوع من بداية البدايات؟
الكل يعرف اليوم أن ثورة خفيّة قد حدثت خلال القرن الماضي، حيث أقرّت المواد العلمية كلها أن المواضيع التي تدرسها لم تكن دائماً كما هي عليه في وقتنا الحاضر. لم تكن الأرض موجودة دائماً ولم تكن الحياة فيها موجودة دائماً. ليست النجوم ثابتة: إنها تتكوّن، وتتطوّر، وتتغيّر؛ وللذرّات تاريخ: لم يكن الكون الأوّل يحتوي بعد إلا على جزيئات أوليّة هائجة بصخب. برهن العلماء أن عمر الكون يبلغ على الأقل 7، 13 مليار سنة، وبالإضافة الى ذلك تمكّنوا بمساعدة الفيزيائيين الفلكيين والفيزيائيين الى إعادة تركيب تاريخ حقبة الـ 7، 13 مليار سنة الأخيرة من عمره: في مرحلته الأولى البعيدة، كان الكون أكثر كثافة وأعلى حرارة مما هو عليه اليوم. منذ ذلك الوقت لم يزل يتمدّد، ويذوب، ويبرد بوتيرة تمّ الكشف حديثاً عن تسارعها. لقد ولّد تجمّع جزيئات أوليّة (الغلويون والكوارك) البروتونات والنترونات وهي أول الأنظمة المركّبة التي ظهرت في مسيرة تاريخ الكون. ثم تجمّعت هذه اللبنات وشكّلت النوى الذريّة الأولى التي اقترنت بالإلكترونات لتشكّل الذرّات بالمعنى الحصري للكلمة. لملمت القوّة الجاذبة هذه المادة المبعثرة لتكوّن منها النجوم التي بدأ نورها يغمر الكون شيئاً فشيئاً، وولّدت التفاعلات النوويّة التي تجري في جوفها معظم النوى الذريّة، وتولّدت نوى الكاربون المهمّة جداً للحياة من انصهار نوى أكثر خفّة الخ…
تعتبر قصّة الكون التي وضعها العلماء فريدة، وغير مسبوقة، ومنفصلة عن كل ما جاء في العلوم التقليديّة التي تبحث في بداية الكون. لكن امتداداً لهذا السرد الذي يأتي بعكس الزمن، نعتقد أحياناً أن العلوم ستتمكّن قريباً من معرفة أصل الكون، أي المصدر الحركيّ لكل ما هو موجود اختباريّاً. ولن نسلّم إلا سطحيّاً بأن هذه المسألة تحتفظ باعتبارات ميتافيزيقية.
ألا يجب على الرغم من ذلك توخّي الحذر لسببين على الأقل؟ أولاً لأنه عندما نطرح موضوع أصل الكون بطريقة جديّة، وعندما نبحثه بطريقة جذريّة، ونتساءل حقيقةً عن العبور من العدم الى الوجود، نصطدم بلا شك بمفارقات لا يمكن حتماً تخطّيها: يأتي وقت نضطرّ معه الى مواجهة كيان أو شيء يمكننا أن نقول عنه: "هذا الشيء ليس بشيء وعليه أن يصبح شيئاً ما"، ويبقى محرّك هذا التحوّل الذي يبدّل اللاشيء بشيء آخر غير اللاشيء، غير قابل للإدراك. السبب الثاني يكمن في أنه عندما نستمع الى العلماء يحاضرون عن أصل هذا الشيء أو ذاك، نكتشف أنه لا يتمّ أبداً طرح مسألة التكوّن في معناها الحصريّ. يتكلّمون خصوصاً – وفي الحقيقة فقط – عن علوم أنساب، وتحوّلات، وتشكّل مكوّنات أوليّة في أنظمة أكثر تعقيداً. يفسّرون مثلاً أن الذرّات هي بنات النجوم، وهذه بدورها بنات سحاب من غبار تتولّد مادتها من أطوار الكون الأكثر سخونة والأكثر قدماً، التي بدورها… بعبارة أخرى، عندما يقولون إنهم يبحثون عن الأصل، فإنهم لا يتكلّمون إلا عما ينتج من هذا الأصل. لا يوردون إلا تحوّلات من حالة الى أخرى، ومسارات تسمح بفهم ظهور شيء جديد وبداية تاريخه. من هنا، كل بداية تظهر ليست في الواقع سوى مرحلة، سوى بداية فرعيّة، بداية مسبوقة ببداية أخرى، بحيث أن مفهوم البدايات الذي هم في صدده يتطلّب ربما أن ننظر اليه بمنظور نسبي، لأننا لا نتعرّف الى الينابيع إلا عندما نقرنها، في منشأها، بالصخور التي تتفجّر منها.
من هنا يُطرح السؤال الآتي: هل علماء الكون محكومون بأن "يفوّتوا" دائماً المقدّمة؟ أو هل يتوصّلون في يوم من الأيام الى إسماع إشارة الانطلاق الحقيقيّة، والنقفة الأولى؟ لكن، هل نحن متأكدون تماماً أن الكون كان له بالفعل "بداية"؟
الكون: بيت تطوّري
خلال العقود الأخيرة، تبيّن للعلماء أن الأشياء أو الكائنات التي يدرسونها لم تكن دائماً كما هي عليه اليوم، والمراحل المهمّة في عملية الإدراك هذه معروفة: نظرية الانتقائية الطبيعية لداروين عام 1859، ثم اكتشاف تمدّد الكون عام 1930، وأخيراً نموذج الانفجار الكونيّ عام 1950. أصبحنا نعرف أن الكون ليس فقط منزلاً تطوّريّاً (حجمه وحرارته تغيّرا بشكل ملحوظ) بل ان معظم الأشياء المنظّمة التي توجد فيه كان لها تاريخ وسيستمر.
لعب التحسّن الحديث والسريع الذي لحق بتقنيّات التأريخ (تحديد الزمن) دوراً مهمّاً. بفضل هذه التقنيات تدعّمت الفكرة القائلة بأن كل شيء حاضر له عمر، وأصبح السؤال حول البداية أمراً ملحّاً؛ حيث لم نكن نرى إلا الدائم والثابت، كشف التأريخ عن ولادات وأيضاً عن انقراضات نهائيّة، وحدّد أزمنتها بواسطة أرقام لا تقبل الجدل: تكوّنت الأرض منذ 4.45 مليارات سنة، وظهرت الحياة عليها منذ أكثر من 3.5 مليارات سنة، كما انقرضت الديناصورات منذ 65 مليون سنة تقريباً…
إعادة بناء قصّة الكون الكبرى:
عمل مشترَك الاختصاصات مشتركة
لإعادة بناء قصّة الكون الكبرى التي تمتدّ على طول 7،13 مليارات سنة على الأقل، كل الاختصاصات العلميّة مدعوّة للمشاركة في هذا العمل: يؤكّد علم الأحياء التطوّري أن جميع الأجناس الحيّة تحوّلت من خلال التبدّل الطبيعي والانتقائية الطبيعية؛ ويثبت علم المتحجّرات وعلم الإنسان أن الأجناس الحيوانية والإنسانية ظهرت من أنساب وولادات متعاقبة؛ أما في ما يتعلّق بالكيمياء، والفيزياء، وفيزياء الفلك، فإن مجموعة استنتاجاتها حول هذا الموضوع تسمح بالقول إن الأجسام الجامدة، الأرضية أو الكونية، تأتي نتيجةً لمسارات غالباً ما تكون طويلة جداً. توصّل علم الكون المعاصر حتى الى وصف مرحلة الكون الأولى: تلغي المادة أولاً مضادّ المادّة، ثم ينفصل النور عن المادّة جاعلاً الكون شفّافاً لنوره الذاتي، وجاعلاً المادة حرّة في تنظيم ذاتها؛ هكذا تولد المجرّات، والنجوم، وكل الأشكال التي تسكن السماء ليلاً (تنتج الكواكب مثلاً من عمليّة جذب، أي من تراكم المادة التي تحملها النيازك). عند ذلك تظهر روابط وراثية: النجوم هي أمهات الذرّات، وأسلافها سراب من غبار تأتي مادّتها من مراحل الكون الأعلى حرارة والأكثر قدماً.
تكوّن العناصر الكيميائية الأولى
يستند نموذج الانفجار الكبير الى أنه في القديم البعيد (7،13 مليارات سنة)، كان الكون أكثر كثافة وأعلى حرارة مما هو عليه اليوم، ومنذ ذلك الوقت لم يزل يتمدّد ويبرد بوتيرة متسارعة بصورة دائمة. يأخذ هذا النموذج في الاعتبار آخر النتائج التي توصّلت اليها فيزياء الجزيئات: فيفسّر مثلاً كيف أن جزيئات أوليّة مسمّاة "كوارك" وموجودة في الكون الأوّل تمكّنت من التجمّع لتشكّل البروتونات والنوترونات، ويفسّر أيضاً كيف تجمّعت هذه الأخيرة خلال الثلاث دقائق الأولى من عمر الكون كي تشكّل أولى نوى الذرّات، ونوى الهيدروجين، والدوتيريوم، والهيليوم. بعدها توقّف إنتاج العناصر الكيميائية خلال مليار سنة، إذ أصبحت الكثافة والحرارة ضعيفتين جداً الى درجة تعذّر معها حصول تفاعلات كيميائية. لم تتوقّف الأمور عند هذا الحدّ لأنه، في وقت متأخر جداً، تكوّنت أولى النجوم وساعدت في إنتاج عناصر كيميائية أكثر كثافة.
ولادة النجوم…
إذا تمكّنت المجرّات من التطوّر فذلك يعود الى عدم تجانس أوليّ: انهارت سحب غازية ضخمة من الهيدروجين والهيليوم تحت تأثير وزنها الذاتيّ، ثم انقسمت مئات مليارات السحب الغازية ذات الأحجام الصغيرة تراوح كتلتها ما بين العشر ومئات المرّات كتلة الشمس. بفعل الجاذبية، تهاوت هذه السحب الثانوية بدورها، وبدأت الحرارة في جوفها ترتفع حتى وصلت الى عشرات ملايين الدرجات مما سمح بانطلاقة تفاعلات الانصهار النووي. هكذا "اشتعلت" الكرات الغازية الواحدة تلو الأخرى مشكّلةً النجوم الأولى التي أنتجت العناصر الكيميائية الأكثر ثقلاً من الهيليوم.
في النجم، يُستهلك الهيدروجين في مرحلة أولى، ويتحوّل هيليوماً، وعندما يختفي نهائيّاً، ينقبض قلب النجم وترتفع حرارته من جديد لتصل الى مئات ملايين الدرجات. عند ذلك، تتجمّع نوى الهيليوم التي تولّدت من انصهار الهيدروجين، في حزم من ثلاث نوى لتؤلّف نوى الكربون. في نهاية هذه الحقبة، ينقبض قلب النجم من جديد بسبب غياب إشعاع كاف لمقاومة الجاذبيّة. عندما تصل الحرارة الى 500 مليون درجة، يمكن الكربون أن يبدأ بالاحتراق. يتولّد عند ذلك النيون، والأوكسيجين، والسيليسيوم، والفوسفور، والكبريت.
سيتكرّر مسلسل الأحداث نفسه مرّات عدة: عندما تنضب مادة الاحتراق، يهوي قلب النجم ويصبح أكثر كثافة وأعلى حرارة. ثم تشتعل مادّة جديدة قابلة للاحتراق أثقل من سابقتها وتولّد عناصر جديدة وأكثر ثقلاً. هكذا يتابع النجم تطوّره الى أن يظهر الحديد أكثر عناصر النوى ثباتاً الذي لا يتحد مع نوى أخرى إلا إذا تمّ إمداده بالطاقة. وبما أن الطاقة الضروريّة لاشتعال الحديد ليست متوافرة في النجم، تتوقّف عندها التفاعلات النووية ويموت النجم بطريقة مرتبطة بكتلته.
… وانطفاؤها
عندما تكون الشمس قد استهلكت كل وقودها النوويّ بعد حوالى خمسة مليارات سنة، ستتوسّع مناطقها الخارجيّة لتصل الى الكواكب المحيطة بها وتبتلعها، إلا إذا لم تكن قد قُذفت قبلاً في مدى ما بين النجوم. سيتبدّد هذا الغاز على شكل سديم جميل، وما يتبقّى من النواة الشمسية يصبح نجماً أبيض قياسه شبيه بقياس الأرض، ويتميّز بتركيبة خاصة: نواة من الكربون مع قليل من الأوكسيجين والآزوت، محاطة بطبقة من الهيليوم وبمنطقة صغيرة سطحيّة من الهيدروجين.
إذا كان هناك نجم ***ق كتلته ستّ الى ثماني مرّات كتلة الشمس، فهو يموت ميتة حمراء: إنه ينفجر حقيقةً ويصبح ما يسمّونه بالنجم المتألّق. خلال الانفجار، ترتفع حرارة المادّة الى حدود قصوى تبلغ مليارات درجة، مما يؤدّي الى تكوّن سريع لعناصر كيميائية جديدة كلها أكثر ثقلاً من الحديد تُقذف في الحال في الغاز الموجود في مدى ما بين النجوم.
تمّت إذاً عمليّة توليف معظم العناصر الكيميائية التي تكوّن الكون الحالي، والمادّة التي تحيط بنا كما تلك التي تتألّف منها أجسادنا، في بواتق نجمية (باستثناء العناصر الأكثر خفّة التي تكوّنت في بداية تطوّر الكون).
تبدو لنا هذه النتائج الى جانب نتائج أخرى خاصة بتطوّر الكون، مدوّخة وأساسيّة، وهي التي دفعت بالفيزياء ومعظم الاختصاصات العلميّة الى الدخول نهائيّاً في البعد التاريخيّ.
بداية الكون: مسألة بلا حلّ
تعتبر قصّة الكون التي وضعها العلماء فريدة، وغير مسبوقة، ومنفصلة عن كل ما جاء في العلوم التقليديّة التي تبحث في بداية الكون. من كان في إمكانه روايتها قبلهم؟ لا يستطيع أحد إنكار أن ما كشفته لنا الطريقة العلمية يتسم بثورية حقيقية.
لكن على الرغم من أن وصف مختلف مراحل الكون كان مدهشاً إلا أنه لا يشتمل على "اللحظة صفر" ولا على شيء سبقها أو يمكن أن يكون سبباً لها. إن الإفصاح عن تعاقب التحوّلات التي رافقت تطوّر الكون لا يعني الكشف عن عمليّة تكوّنه بأكملهاً. فضلاً عن ذلك لم يعد "عمر الكون" الذي ذكره العلماء يمتدّ منذ خلقه، بل فقط منذ الحقبة الأكثر قدماً التي وصلت معادلاتهم اليها.
يجب الإقرار إذاً أن العلوم لا تدرك البتة إلا بدايات نسبية، أي آليات الظهور وأطره الأولى. بالنسبة الى الكون، تورد العلوم دائماً "شيئاً من عند الاله" مؤلّفاً من عناصر سابقة تكون في تصرّفها كي تتمكّن من معالجة مسألة بدايته، ويمكن هذه العناصر أن تكون الفراغ الكمّي، أو انفجار ثقب أسود أوّل، أو أي شيء آخر. فالمهم هو الإشارة الى أن المسألة تتعلّق دائماً بشيء ما وليس باللاشيء، وفي هذه الحال، لا تعود البداية بداية من عدم، بل، استناداً الى ما تقدّم، تصبح النهاية.
وللتقدّم خطوة إضافية، لا يوجد سبيل آخر غير ذكر "شيء من عند الاله" جديد، ثم "شيء" آخر، وهلمّ جرّا، من دون أن يتمّ التوصل الى معرفة "الشيء" الأوّل الذي هو مصدر الأشياء كلّها.
لهذه الأسباب لم تزل العلوم تتعثّر أمام مفهوم أصل الكون المأخوذ في معناه المطلق وهو العبور من العدم (لا شيء، لا شيء موجود البتة) الى الوجود (شيء موجود). يعود ذلك الى أن العلوم في حاجة، من أجل بناء ذاتها، الى وجود سابق، الى نقطة انطلاق واضحة مكوّنة من مبادىء، وقوانين، أو من أشياء. غير أن البداية المطلقة ليست جزءاً من الوجود السابق بما أنها تعني ظهور شيء في غياب كل شيء آخر: لا شيء موجوداً، لا شيء قط، ثمّ فجأةً يحدث شيء. كيف يمكن العلوم أن تدرك مثل هذه الخصوصية؟ لا أحد يعرف، لذا يبقى موضوع بداية الكون مسألة يستحيل حلّها. وحتى لو أتت نظريات فيزيائية مستقبلية تساعدنا في الجواب، فإننا سنتساءل فوراً الى ما لا نهاية: ماذا عن أصل القوانين التي تحتوي عليها هذه النظريّات؟ وعن مصدر أصل هذه القوانين؟ إنه سؤال هازئ بنفسه. ذلك هو السؤال عن البدايات وهو سؤال بلا نهاية.
منقول من موقع الأوان.. الناقل بدوره للموضوع عن ملحق النهار الثقافي
تعقيب سريع
من أروع المواضيع التي قرأتها, لوضوحها وبساطتها بذات الوقت, ولنتذكر دوماً أنّه يوجد أسئلة : لا طعم لها ولا لون ولا رائحة!! والأهمّ أنها تُحرج المتسائل { من اصحاب المناظرات والعنتريات في المنتديات } قبل أن تُحرج من يحاول الإجابة .. كما قالت الكاتبة: إنه سؤال هازئ بنفسه !! تحياتي وشكراً للاهتمام بالاطلاع :lol2: :-x
0
الحاصل في العالم العربي الآنْ .. ثورات تقتلع كل طغيانْ!