خطاب الشرعية السياسية في الإسلام سعيد بنسعيد العلوي*
تمهيد
الشرعية مدار القول في السلطة السياسية، أياً كانت الجهة التي يكون منها
النظر إلى تلك السلطة وأياً كان الحكم الذي يصدر عليها، وجوباً أو سلباً.
إنها المعيار الذي يمسك به مؤرخ الفكر السياسي حين القول في حكم ملك أو
رئيس أو في تقييم فترة تاريخية من حياة أمة من الأمم. والشرعية هي الهاجس
الذي يلازم الحاكم السياسي في كل الأحوال التي يستشعر فيها من نفسه ضعفاً
ومن خصومه قوة. خطاب الشرعية مطلقاً، والشرعية السياسية هي ما به يكون
التبرير عند ذلك الحاكم وما به يكون دفاعه عن نفسه، وبالتالي فهو سلاح
يبادر إلى إشهاره كلما أدرك الحاجة إلى إفحام الخصم وإرباكه أو رغب في
إخماد حركة تمرد أو إسكات صوت احتجاج. وليست حركات الاحتجاج والمعارضة
السياسية سوى قول، ضمني حيناً وعلني أحياناً كثيرة، بأن سلطة الحاكم
المعترض عليه وأفعاله خلو من الشرعية وإعتداء عليها. والوجود السياسي في
الإسلام لم يكن شذوذاً عن هذه القاعدة، بل الحق إنه كان تأكيداً لها، لا
بل إنه، في مراحل حاسمة من ذلك الوجود، كان إجلاء لها على نحو قد لا يكون
متوافراً ولا ميسراً في أنماط أخرى غيره من الوجود السياسي في أجواء أخرى.
ظهر خطاب الشرعية السياسية في الإسلام، أول ما ظهر، عقب وفاة الرسول
عليه السلام إذ ظهر الاختلاف الأول في الإسلام حول من يكون له أن يخلف
النبي في إدارة شؤون المسلمين دينياً وسياسياً. وكتابات المؤرخين، واختلاف
آرائهم، حول ما وقع في سقيفة بني ساعدة معروف ومشهور. ثم برز خطاب الشرعية
السياسية إلى السطح مرة ثانية في تاريخ الإسلام حين أخذ الاختلاف يتعاظم
حول حكم الخليفة عثمان بن عفان حتى انتهى إلى النتيجة المأساوية التي نعلم
ليظهر الخلاف والاختلاف، مرة ثالثة في التاريخ الإسلامي، حول علي بن أبي
طالب فكانت أزمة التحكم أولاً، ثم كان اغتيال الخليفة الرابع صهر النبي
وابن عمه. وقد تلزم الإشارة كذلك إلى انتقال الحكم من معاوية بن أبي سفيان
إلى ابنه يزيد من بعده، وبالتالي إلى الاحتداد في القول في الشرعية
السياسية، وجوداً وعدماً، في حكم الأمويين. وقد يجب أن نذكر، بعد ذلك،
الثورة العباسية وما نشب حولها وفيها من اختلاف وجدل في الشرعية السياسية،
ثم ما كان، عقوداً بعد ذلك من حركات «الخروج» (= الثورة) العديدة سواء ما
شهد منها نجاحاً كان عنه تأسيس دولة أو قيام خلافة، بعيداً عن السلطة
المركزية في بغداد أو ما باء منها بالفشل، فكان حرباً داخلية أو فتناً
استعرت نارها طويلاً. وبالجملة، يمكن القول إن تاريخ الوجود السياسي في
الإسلام، منذ الخلاف الأول في سقيفة بني ساعدة إلى الأزمنة الحديثة،
مروراً بعهود عديدة، كان تاريخ صراع على السلطة بدعوى التوافر على الشرعية
التي يفتقدها الخصم. كما يجوز القول، إجمالاً، إن تاريخ الفكر السياسي في
الإسلام لم يخلو، مع اختلاف الأشكال التعبيرية التي أفرغ فيها(من علم
الكلام، والفقه، والفلسفة، والأخلاق..) أن يكون قولاً في الشرعية السياسية.
من أجل تبين خطاب الشرعية السياسية في الإسلام نرى أن نتفحص التجليات
الكبرى في ذلك الخطاب في أشكاله التعبيرية الكبرى، كما نرى أن نفرد خطاب
الشرعية في الفكر العربي الإسلامي المعاصر بوقفة خاصة لاتصاله بوجودنا
الحالي. والتجليات الكبرى التي نشير إليها ثلاث: الشرعية وعمادها في الشرع
الإسلامي، الشرعية في الخطاب الكلامي، الشرعية في الخطاب الفقهي – وحديثنا
يتوخى الإيجاز والتركيز من جانب أول، ويستهدف الدقة في العبارة والوضوح في
القول من جانب ثانٍ.
1 – الشرعية السياسية والشرع الإلهي
إذا كنا نجد في القرآن الكريم ما يعادل، أو يفوق قليلاً، عشرة في
المائة من الآيات تتصل كلها بالتشريع لأحكام العبادات والمعاملات وكانت
التشريعات واضحة دقيقة حيناً ومفتقرة إلى توضيح بل وربما إلى تكملة من
السنة النبوية، فنحن لا نجد في الكتاب ما يمكن اعتباره نظرية في الحكم
السياسي أو ما يدل على تفضيل نمط من الدولة أو الحكومة على غيره. في
القرآن الكريم آيات تحض على الحكم بالعَدْل، منها، على سبيل المثال قوله
-تعالى-: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل﴾(1) فهو يقرب بين الحكم بالعدل ورد الأمانات إلى
أهلها، مثلما يقرن في آية: أخرى بين العدل والإحسان. وفي الكتاب العزيز،
في الآية الموالية للآية المذكورة، حث على السمع والطاعة لمن يتولى أمر
الشؤون العامة من الناس ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً﴾. ولعل هذه الآية أقوى
الآيات وأشدها وضوحاً في وجوب طاعة «أولي الأمر» فهي، من جهة أولى، تقرن
تلك الطاعة بطاعة الله وطاعة الرسول. وهي، من جهة ثانية، تُقْرِن الرجوع
إلى الله وإلى الرسول حين التنازع في أمر أو قضية تتعلق بتلك الطاعة
بِكَمال الإيمان بالله. ولوضوح هذه الآية وقوتها في العبارة نجد بعض
المفسرين ينعتون تلك الآية بـ«آية الأمراء».
الأمر نفسه نجده في السنة النبوية فنحن نقرأ في الحديث النبوي: «سيليكم
بعدي وُلاة فيليكم البَرُّ بِبِرِّه، ويليكم الفاجر بفجوره فاسمعوا لهم
وأطيعوا في كل ما واف الحق، فإن أحسنوا فَلَكم ولهم، وإن أساءوا فَلَكم
وعليهم». أما طبيعة أولئك الولاة، وكذا كيفية اختيارهم، والتفصيل في
الطريقة الواجب الأخذ بها فهو ما لا نجد لها في الحديث النبوي ذكراً. نعم،
هنالك في السنة حث على الشورى، على غرار ما يخاطب الله به نبيه في القرآن
الكريم من وجوب الشورى «وشاورهم في الأمر». وفي السنة ذم كثير للظلم «دعوة
المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب»، «الظلم ظلمات يوم القيامة». وفي السنة
إشادة بالإمام العادل عظيمة فنحن نقرأ في حديث صحيح أن ثلاثاً لا ترد
دعوتهم وهم: المظلوم، والصائم حتى يفطر، والإمام العادل. فالإمام العادل،
أي ذاك الذي يصدره، فيما يصدره من حكم، عن القانون الإلهي يكون أمام الله
في حال تعادل المظلوم في توجهه إلى الله وفي استجابة الله لدعواه، كما
تعادل حال المؤمن الممارس لشعيرة دينية هي إحدى الفروض الخمسة.
يمكن الكلام في الكتاب والسنة، وبالتالي في الشرع الإسلامي، عن كليات
ومبادئ عامة يكون منها الاستمداد في التشريع السياسي. تلك الكليات اعتبرها
الفقهاء الذين يتحدثون عن «السياسة الشرعية» المعيار الذي به يكون الحكم
على سلطة سياسية بالسلب أو الإيجاب والحجة التي يصح أن تكون للحاكم مثلما
يكون لها أن تكون عليه. ذلك ما نجده عند أحد أكثر من كتبوا في السياسة
الشرعية شهرة وأكثرهم وضوحاً وتشدداً في الوقت ذاته وهو تقي الدين ابن
تيمية في كتابه الشهير “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”(2). لا
بل إن الفقيه الحنبلي الكبير يعتبر أن مدار كتابه كله هو «آية الأمراء» إذ
يقول في التعقيب على الآية بعد شرحها «وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء
الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية
الصحيحة»(3).
2 – الشرعية السياسية في الخطاب الكلامي
ربما كانت أكثر تعريفات أصول الدين أو علم الكلام تداولاً في الفكر
العربي الإسلامي الحديث والمعاصر هو التعريف الذي يورده ابن خلدون في
مقدمته الشهيرة: «علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية
والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة».
ومن حيث هو كذلك، أي من حيث إنه دفاع عن العقيدة من جهة نظر المذهب التي
يصدر المتكلم عنها، فإن كل حديث في السياسة يبدو بعيداً عن هذا العلم.
لهذا السبب نجد صاحب “المقدمة” يقول عن الإمامة أو الخلافة العظمى
وبالتالي رأس السلطة السياسية في الإسلام «أنها قضية مصلحية إجماعية ولا
تلحق بالعقائد». وللسبب نفسه نجد القاضي عبد الجبار، وهو من كبار شيوخ
المعتزلة يجعل القول في الإمامة متصلاً بباب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وإن كان يقول: «ووجه اتصاله بهذا الباب أن أكثر ما يدخل في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقوم به إلا الأئمة»(4). ومن المعلوم أن أحد
المآخذ الكبرى لأهل السنة على الشيعة الإمامية هو أن هؤلاء الأخيرين
يجعلون القول في الإمامة والإمام من مهمات الدين، بل ومن صلب العقيدة ما
دام الإمام هو المرجعية العليا في فهم أحكام الشريعة بل والعقيدة. غير أن
الملاحظ كذلك هو أن متكلمة السنة، من أشعرية وحنابلة، يُفردون للإمامة
فصلاً في مصنفاتهم في علم الكلام وإن كانوا يبدون في ذلك تحفظاً ويأتون
بعلل ليست على درجة عالية من الإقناع في نهاية الأمر. فهذا عبد الملك
الجويني، إمام الحرمين، يكتب في تمهيده للكلام عن الإمامة في الفصل الذي
يخصصه لها في أحد أكثر كتب الكلام السني شهرة «الكلام في هذا الباب ليس من
أصول الاعتقاد والخطر على من يَزِلُّ فيه يربى على الخطر على من يجعله
أصله (…) وقد صنف القاضي [= أبو بكر الباقلاني] وغيره من أئمتنا، رضي الله
عنهم، كتباً مبسوطة في الإمامة (…) وغرضنا في هذا المعتقد أن ننص على أصول
الباب…»(5). والتحفظات عينها يبديها من بعده تلميذه أبو حامد الغزالي في
حديثه عن الإمامة في كتابه “الاقتصاد في أصول الاعتقاد” ولكن ذلك لم يكن
قانعاً دون الخوض في هذه المسألة “المصلحية” في الكتاب المذكور بل إن
الغزالي يخصص لها مصنفاً واحداً على الأقل مثلما أنه يرجع إليها في فصول
وأبواب من كتب أخرى.
الحق أن الإمامة، وهي بالطبع مبحث سياسي يتصل في نهاية الأمر بالقضية
التي تعنينا في هذا البحث(قضية الشرعية السياسية)، ليست أحد القضايا التي
يعرض لها علم الكلام في الإسلام بجانب القضايا العقدية(الألوهية،
الوحدانية، النبوة، الجبر، الاختيار…) بل إنها المسألة المحورية التي ترسم
للمذهب الكلامي الطريق الذي يكون عليه أن يسلكه(6). ولا يخفى أن اختلاف
متكلمة الإسلام في فرق ومذاهب كلامية(أشعرية، ماتريدية، معتزلة، زيدية،
إمامية…) يرجع إلى الاختلاف الأصلي بينها في مسألة الإمامة وإن كان الغالب
على كتب أصول الدين هو إخفاء هذه الحقيقة أو التمويه عليها بكيفيات متنوعة.
نريد بهذه الفذلكة أن نوضح أن القول في الشرعية السياسية في الإسلام،
من حيث استمدادها من القانون الإلهي، تجد سندها الأول والأساس عند علماء
أهل الكلام. لذلك فإن وقفة قصيرة عند الكيفية التي تطرح بها مسألة الإمامة
في علم الكلام والقضايا الأساسية التي تثار في مبحث الإمامة تكون ضرورية
لموضوعنا: وقفة نتجنب فيها الخوض في الاختلافات المذهبية بين علماء الكلام
فلا نعني فيها إلا بالكليات والقضايا المحورية.
أول قضية تعرض لها المتكلمون في القول في الإمامة هي أن الإمامة أو
الخلافة العظمى (وتسمى كذلك لأنها خلافة للنبوة ولأن لفظ الخليفة، أول
تداوله في الإسلام مع تولي أبي بكر الصديق أمور المسلمين بعد وفاة النبي)
واجبة. الإمامة تجب من جهة الشرع، حتى تمضي الأحكام الشرعية، كما أنها تجب
من جهة العقل، إذ من غير المعقول، أن يترك أمر الجماعة دون رئاسة.
القضية الثانية هي الشروط الواجب توافرها في الخليفة. والمتكلمون
يجمعون على شروط أخَصُّهَا القرشية(= الانتماء إلى قُريش) والعدالة (وهذه
الأخيرة تعني في لغتنا المعاصرة الأهلية المعنوية أو الأخلاقية) والعلم
حتى يكون الخليفة قادراً على الاجتهاد أو في النوازل والأحكام.
القضية الكبرى الثالثة تتصل بالقول فيما إذا كانت الإمامة تكون عن طريق
العهد، يعهد بها السابق إلى اللاحق لعلم ينفرد به كما هو الشأن عند الشيعة
الإمامية، أم إنها تكون عن طريق الاختيار وهذا مذهب أهل السنة والمعتزلة،
أم إن الإمامة تكون، بالأحرى، لمن يخرج شاهراً سيفه في طلبها من أحفاد
عَلِيٍّ مع توافر الشروط المعتبرة فيه – وهذا مذهب الشيعة الزيدية.
القضية الرابعة هي القول فيما إذا كانت إمامة المفضول تكون جائزة مع
وجود الأفضل. وضمير المتكلمة في ذلك هو التقرير في الترتيب الذي سارت عليه
الخلافة في الإسلام منذ بيعة أبي بكر الصديق إلى قيام حكم يزيد بن معاوية
على الأقل. المطلوب والواجب أن يختار للخلافة أفضل الناس ولكن تولي
“المفضول” لا يفسد التولية.
3 – الشرعية السياسية في الخطاب الفقهي
أدرك فقه التشريع السياسي الإسلامي مداه الأقصى من التطور في منتصف
القرن الهجري الخامس، وكان ذلك النضج نتيجة تضافر عوامل سياسية وأخرى
معرفية مما لا يتسع لنا المجال للخوض فيه. لكنا نقول على وجه الإيجاز، أن
هذا العصر الذي نتحدث عنه اتسم بالضعف السياسي الشديد من جانب أول (بدلالة
التفتت والتعدد في الممالك والدول التي عرفتها بلاد الإسلام) ويتصف، من
جان ثانٍ، بازدهار علمي كبير (نتيجة تراجم عدد من المعارف الإسلامية
وتطورها، وثمرة الكم الهائل من الكتاب التي تم تعريبها) وحركة ثقافية
نشيطة. في أجواء هذه الثنائية نشأ الفقه السياسي في الإسلام أو قل إن فقه
التشريع السياسي عرف غايته البعيدة من التطور مع ظهور نصور تشريعية
تأسيسية على شاكلة كتاب “الأحكام السلطانية” للفقيه الشافعي والمفكر
الأشعري أبى الحسن الماوردي. عند هذا المفكر السياسي نقترح الوقوف وقفة
قصيرة بغية استخلاص جملة إفادات نتصل بقضية الشرعية واستمدادها السند من
الشرع الإلهي(القرآن والسنة) وبصفة أقل بروزاً من التاريخ الإسلامي خاصة
ومن التاريخ البشري عامة.
مدار «الأحكام السلطانية» هو الخلافة أو الإمامة العظمى بحسبانها، كما
يقول «أصلاً عليه استقرت قواعد الملة وانتظمت به مصالح الأمة». بيد أن
فرقاًَ شاسعاً، جوهرياً، يميز المقاربة التي رأينا علماء الكلام يأخذون
بها عن تلك التي يأخذ بها الفقيه الماوردي. إنه الفارق بين المتكلم
والفقيه. فالأول يجادل عن المذهب وينافح عن العقيدة ويُقعد لأصول الاعتقاد
فهو يرسم مذهباً في أصول الدين. والثاني همه التشريع للأحكام العملية، أي
تعيين الشروط القانونية التي بها يغدو قيام مؤسسة الخلافة ممكناً. هذه
الكيفية من النظر تجعل الفقيه المشرع السياسي بخطو خطوات عملية إلى الأمام
فهو يتحدث عن ولايات، أو نيابات عن الخليفة في مستويات التنظيم السياسي،
والإداري، والقضائي، والمالي للدولة الإسلامية. وبعبارة أخرى فإن الحديث
عن الإمامة والتشريع الفقهي لأحكامها يكون، بالضرورة، تشريعاً فقهياً
لبنية الدولة الإسلامية ووظائفها ونظمها المختلفة: الوزارة، الولايات على
الأقاليم، الولايات على الجيش والشرطة والقضاء الأعلى(= المظالم)، القضاء،
وإدارة شؤون المدينة (إمامة المساجد، الحرفيون، الآداب العامة). كما أن
ذلك التشريع الفقهي لـ«الأحكام السلطانية» يكون مع ذلك كله تشريعاً لنظام
الأرض، والضرائب، والأموال بأنواعها الثابتة والمنقولة. وبالتالي فإن
الأمر يتعلق بمنظومة شاملة في الحكم ونظرية في الدولة الإسلامية متكاملة.
نقطة الانطلاق عند الماوردي في كتاب “الأحكام السلطانية” هي الأخذ بما
ينتهي إليه علماء الكلام السنة والمعتزلة من نتائج بصدد الإمامة العظمى.
إنها «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»(7). وهي واجبة
من جهتي الشرع والعقل، والماوردي يؤيد أراء المتكلمة بآية من القرآن
وأطراف من الحديث النبوي. والإمامة تكون عن طريق الاختيار أولاً وأساساً،
وللإمامة شروط يلزم توافرها في الإمام المرشح لها، مثلما أن هنالك شروطاً
يلزم اجتماعها في الخاصة(= أهل الحل والعقد) التي يرجع إليها اختيار إمام
للأمة.
بعد هذا الإفصاح عن المذهب أو «إعلان النوايا» كما يقال في اللغة
السياسية اليوم يرتدي أبو الحسن الماوردي عباءة الفقيه المشرع ليصبح حديثه
خالياً من كل نبرة كلامية حجاجية، وكلما اعترضه، في تشريعه لأحكام الإمامة
أو الوزارة أو ما كان أدناها من المراتب، واقع لا يتوافق مع المقتضيات
الصريحة من النص الشرعي وأدرك أنه يخوض لعبة التبرير السياسي أو إكساب
الشرعية الدولية على واقع، عمد إلى الاستمداد من التاريخ والقياس على ما
يكون نبي الإسلام أو من أتى بعده قد قاموا به. وبالتالي فإن همه الأساس
يظل هو التشريع: التشريع الفقهي للمؤسسة السياسية الأولى وللولايات التي
تتفرع عنها.
أول خطوة يخطوها فقيهنا على درب التشريع هي التقرير بأن الإمامة «عقد».
والعقد يقتضي، من الناحية القانونية، اتفاقاً وتراضياً من الطرفين
المتعاقدين: «عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار». لذلك فإنه،
على سبيل المثال، لا يجوز فيه القرعة بين مرشحين يتساويان في الكفاءات.
أما إذا حدث ذلك فإنه يلزم اللجوء إلى مسطرة معقدة نسبياً يكون الحسم فيه
لصالح ما يبدو أنه «يوجبه حكم الوقت» – يعني أن البيعة تؤول في نهاية
الأمر لصالح الشخص الذي يتضح أنه الأكثر استجابة لضرورات العصر الذي يكون
فيه.
ثاني خطوة يخطوها الفقيه المشرع، وثاني قضية محورية يلزم الانتباه
إليها، هي أن «الإمامة من الحقوق العامة المشتركة بين حق الله تعالى وحقوق
الآدميين»(8). ومن البين بذاته، في منطق الفقيه المسلم، أن أسباب الشرعية
السياسية كلها تقوم في هذا الأمر: حفظ حقوق الله (وذلك معنى الشطر الأول
من تعريف الإمامة: “خلافة النبوة في دراسة الدين”) وحقوق الآدميين(وتلك
دلالة الشطر الثاني من التعريف “سياسة الدنيا” – دون أن ننسى أن حفظ حقوق
الآدميين من مقتضيات حفظ الدين أيضاً). متى تقرر هذا الأمر كان التشريع
لأحكام الإمامة تشريعاً فقهياً للآليات أو الميكانيزمات القانونية التي
يكون بها عمل «عقد الإمامة» ومقتضياته العملية.
القضية المحورية الثالثة في التشريع الفقهي لأحكام الإمامة من حيث هي
“عقد” يقوم بموجب اتفاق وتراضٍ بين طرفين كما نرى وجوب التأكيد على ذلك هي
تلك التي تتعلق بأحكام السلطة التنفيذية العليا أو الحكومة، في لغتنا
اليوم، أو تلك التي يسميها الماوردي وزارة ويميز فيها بين نوعين إثنين:
وزارة التفويض، ووزارة التنفيذ.
أما الأولى(= وزارة التفويض) فهي، كما يدل على ذلك اسمها تفويض تدبير
الأمور، أمور الدولة إلى وزير التفويض «برأيه وإمضاءها على اجتهاده».
ولعظم المسؤولية فيها فإن الماوردي يرى في تولي هذه الوزارة «إجتماع شروط
الإمامة إلا النسب وحده لأنه ممضي الآراء ومنفذ الاجتهاد»، بل يلزم عنده
توافر «شرط زائد على شروط الإمامة وهو أن يكون من أهل الكفاية».
وأما الثانية(= وزارة التنفيذ) فإن شروطها أخف، إذ لا تفويض بالسلطة
فيها وإنما تخصيص لقطاع معلوم من الإدارة العامة. والأمر الجدير
بالملاحظة، بل وربما كان يستدعي الدهشة عند البعض أيضاً، هو أن الماوردي
يقرر أنه «يجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة»، وبالتالي فإن الإسلام
ليس شرطاً في تولي وزارة التنفيذ في دولة الخلافة الإسلامية.
القضية المحورية الرابعة، وهي قضية تنقلنا إلى جوف الشرعية السياسية من
حيث اقتضاء وإضفاء الشرعية الدينية على سلطة سياسية ربما كانت تشكو ضعف
الشرعية وهشاشتها في شطر منها، فهي القضية التي تتعلق بالولاية أو الإمارة
على المدن أو، من جهة منطق العقد، عقد الإمامة، النيابة عن الخليفة في
إدارة شؤون بلد أو إقليم. والإمارة على البلاد نوعان كما يكتب الماوردي
«إمارة استكفاء بعقد عن اختيار، وإمارة استيلاء بعقد عن اضطرار»(9). فأما
الأولى(= إمارة استكفاء) فلا إشكال فيها من الناحية الشرعية، وأحكامها
تشريعات عملية فهي، من حيث مضامينها، نيابة عن الخليفة وإمضاء لحكمه من
جانب أول، وخضوع لحكم وزير التفويض وإمضاء لحكمه ما دام الخليفة يرى
ذلك(فالمسألة تؤول إلى صيغة التولية وإرادة الخليفة). وأما الثانية(=
إمارة الاستيلاء) فهي، كما يدل على ذلك اسمها وكما يعرفها الماوردي نفسه
«تعقد عن اضطرار(…) يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة إمارتها
ويفوض إليه تدبيرها وسياستها»(10) – هذه الإمارة تثير جملة إشكالات تتصل
بمسألة الشرعية، شرعية السلطة السياسية، فلا يخلو الأمر فيها، بطبيعة
الأمر من إحراج للوعي الفقهي. بيد أن هذا المستوى من التشريع يجعل الفقيه
المشرع في حال مجابهة بين مقتضيات النظر الفقهي(= الشرع) ومستلزمات الواقع
العيني. يجد المشرع الفقيه نفسه أمام اختيارين لا ثالث لهما: فإما أن يذهب
بمنطق القول الديني إلى مداه الأقصى فيعلن أن «إمارة الاستيلاء» تخلو من
كل شرعية، فهي إمارة غصب وخروج عن القانون الإلهي. وإما أن يجتهد في إكساب
ما يمكن إكسابه من الشرعية على إمارة يقول عنها الماوردي نفسه. إن الأمير
يكون «باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام
الدين ليخرج من الفساد إلى الصحة، ومن الحظر إلى الإباحة»(11). فأما
الاختيار الأول فيعني، عملياً، الحكم بخلو كم هائل من الإمارات عن
الشرعية، فضلاً عما في هذا القول بالحكم على المؤسسة السياسية العليا التي
هي، من حيث النظر، واحدة لا يجوز أن تتكثر وتتعدد، الحكم عليها بالضعف إن
لم يكن يذهب بها وجهة منطق يقود إلى الإقرار بافتقادها هي ذاتها للشرعية.
وأما الاختيار الثاني، فإنه يعني «حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام
الشرعية مما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولاً ولا فاسداً معلولاً».
من الطبيعي أن الفقرات السابقة لا تطمح لبسط نظرية الماوردي في الدولة
الإسلامية، فالمقام لا يسمح بذلك بل إنه لا يستدعيه(12)، بل إن غرضنا هو
التدليل على مواطن الاستدلال بالشرع خدمة لقضية الشرعية السياسية، تلك
التي هي جوهر خطاب الفقه السياسي السني خاصة. غير أن ما يستحق التنبيه
عليه كذلك هو أن الاستمداد من القانون الإلهي(= القرآن والسنة – وبالتالي
الشرع) كان أحد شقي ذلك الخطاب السياسي، أما شقه الثاني، في حديث الشرعية
السياسية والبحث عن سندها، فقد كان يجدد مدده في القانون البشري(أحوال
الممالك، وطبائع الملك، وأحوال العمران البشري). لهذا السبب الواضح كان من
كتب في التشريع السياسي من فقهاء الإسلام هم، على العموم، صفوة من ألفوا
في الآداب السلطانية، في ما عرف بنصائح الملوك واشتهر في الفكر السياسي في
الغرب الأوروبي بمرايا الملوك.
4 – خطاب الشرعية السياسية في الفكر الإسلامي المعاصر
عرض الفكر العربي الإسلامي المعاصر لمسألة الشرعية السياسية بكيفيات
شتى اختلفت بين الوضوح في القول وبين المواربة والاحتماء وراء الحديث عن
الغير. نذكر من ذلك ما نجده عند أصحاب الرحلة الأوروبية أمثال رفاعة
الطهطاوي، والشدياق، والصفار، والحجوي وغيرهم. فعند الرحالين العرب إلى
دول فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا إعجاب شديد، بل انبهار في الواقع،
بما لمسوه من شيوع العدل من جهة، وعدم انفراد الحاكم السياسي بالسلطة أو
«استبداده بالرأي» في لغة الفقهاء الرحالين وعدوا الأمرين، بجانب انتشار
العلوم وشيوع المعرفة، بالقراءة والكتابة، وتطور النظم الإدارية والمالية
والعسكرية، من أسباب تقدم الغرب الأوروبي وتفوقه. والحق أن في كتابات
أولئك الرحالين لَمْزٌ إلى غياب هذه الأمور كلها في بلاد الإسلام. ونذكر
أيضاً تصدي قلة من المفكرين، أخصهم عبد الرحمن الكواكبي، للحديث عن مضار
الاستبداد السياسي وفساد الأحوال بموجبه وانتهاء إلى القول المبطن بأن
واقع الاستبداد السياسي يلغي الشرعية ويقصيها. وقد يلزم في الواقع أن نعرض
لجمهرة كبيرة من مفكري الإسلام المعاصر، في المشرق والمغرب، تطرقوا
بكيفيات وصور شتى لقضايا الحرية والسلطة السياسية فقرنوا بينها وبين
التأخر عن ركب الإنسانية المتقدمة ورأوا فيها أسباباً كافية واضحة لتفسير
ذلك التأخر. غير أننا، توخياً للاقتصاد في القول من جهة أولى، وحرصاً على
الإشارة إلى ما نراه من أراء المعاصرين من مفكري الإسلام أكثر تمثيلية في
الحديث عن الشرعية السياسية وطرق استمدادها نرى الوقوف عند رأيين أو نظرين
يقفان، بالضرورة، على طرفي نقيض ويجتمعان عند السؤال عن مصادر الاستمداد
الشرعي للسلطة السياسية.
أول الرأيين يمثله العالم الأزهري والمشبع بالقانون الدستوري المعاصر
علي عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”. والقضية المحورية عنده هي
أن الخلافة ليست أصلاً من أصول، على النحو الذي يذهب إليه علماء الكلام،
إذ ليس في القرآن ولا في السنة ما يفيد وجوبها، على ما يدعيه المتكلمون
والفقهاء. ينتج عن ذلك أن ما يتم الاحتجاج به من «آية الأمراء» ﴿يا أيها
الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم…﴾ إنما هو صرف
للآية عن وجهها وابتعاد بها عن مقصد الشارع. كما ينتج عنها أن الخلافة
منصب سياسي مدني لا صلة له بالشرع «كان من مصلحة السلاطين أن يروجوا ذلك
الخطأ بين الناس حتى يتخذوا من الدين دروعاً تحمي عروشهم (…) وما زالوا
يعملون ذلك من طرق شتى(…) حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله
وعصيانهم من عصيان الله»(13). ليست الخلافة في شيء من الخطط الدينية، عكس
ما ظل المؤرخون المساندون للسلطة وكذا الفقهاء المؤيدون للدولة يلوحون به
ويحملون الناس على توهمه وإنما الخلافة، شأنها في ذلك شأن غيرها «من وظائف
الحكم ومراكز الدولة(…) خِطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها فهو لم يعرفها
ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى
أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة»(14).
ما تقضي به أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة عند الشيخ علي عبد
الرازق جملة أمور أساسية. أولها أن الاجتماع البشري يقتضي فعلاً وجود
الحكومة وأن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان عليها، أما ما
عدا ذلك من نوع الحكومة وطبيعة السلطة السياسية الواجب الأخذ بها فأمر
يرجع إلى البشر وتدبيرهم. ثانيها أن رسالة نبي الإسلام كانت رسالة دينية
محض ولم تكن رئاسة سياسية على أي نحو حملنا معنى تلك الرئاسة «زعامة النبي
عليه السلام(…) زعامة دينية جاءت عن طريق الرسالة لا غير وقد انتهت
الرسالة بموته e فانتهت الزعامة أيضاً، وما كان لأحد أن يخلفه في زعامته
كما أنه لم يكن لأحد أن يخلفه في رسالته»(15). ثالثها أن ما شهده العالم
الإسلامي بعد وفاة النبي عليه السلام، بما في ذلك حكم أبي بكر الصديق، أول
من حمل لقب الخليفة، يعني خليفة رسول الله، إنما هي «زعامة جديدة غير التي
عرفناها لرسول الله(…) وإذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبي بكر واستقام له
الأمر تبين لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية عليها كل طوابع الدولة المحدثة
إنما قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة والسيف(…) دولة عربية قامت
على أساس دعوة دينية»(16).
ما يخلص إليه القارئ، في بيان لا مزيد عليه، هو أن السلطة السياسية ليس
لها أن تستمد شرعيتها من القانون الإلهي إلا من حيث إنها مجال لإحقاق
العبادة وإمكان قيام الشعائر الدينية وبالتالي فإن الدين والسياسة مجالان
متمايزان ومنفصلان.
أما الرأي الثاني الذي نرى ضرورة الوقوف عنده في الفكر الإسلامي
المعاصر فهو، من جهة النظر، موقف يناقض الشيخ علي عبد الرازق ويعارضه
كلية. ذلك أن هذا الرأي الثاني الذي نشير إليه يرى في الخلافة الإسلامية
أسباب الشرعية كلها ويرى الإسلام ديناً ودولة، والحكم النبوي جمعاً بين
الرسالة الدينية والرسالة السياسية. دعاة هذا الرأي اليوم هم أولئك الذين
يتواضع الدارسون على نعتهم بدعاة «الإسلام السياسي» بمختلف تياراته
ومذاهبه. أما اعتقادهم فهم أنه لا يكفي القول إن الشرعية بإطلاق لم تكن في
تاريخ الإسلام إلا لحكم الخلفاء الراشدين الأربعة(أبو بكر وعمر وعثمان
وعلي)، في حين أن الشرعية اختفت عن الوجود السياسي في الإسلام منذ أول حكم
الأمويين، بل إن دعاة “الإسلام السياسي” هؤلاء يرون أن لدولة الخلافة رجعة
أو رجوعاً ثانياً – وبالتالي فإن كل الحكم السياسي الذي أعقب حكم الخلفاء
الأربعة يعرى من كل شرعية.
هذا الرجوع إلى الخلافة أو دولة الخلافة الثانية، هي ما يصفه الداعية
الإسلامي المغربي عبد السلام ياسين بالمنهاج النبوي. أما نقطة الانطلاق في
شرح ذلك المنهج(أو في توضيح معنى هذه الخلافة الثانية) فهو عند الداعية
الشيخ الحديث النبوي الذي يشير إلى إمكان تحول الخلافة إلى الملك الجبري
أو العاص. حديث نبوي يورده على النحو التالي «تكون النبوة فيكم ما شاء
الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج
النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون
خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن
يرفعها ثم تكون ملكاً عارضاً فيكون ما شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على
منهاج النبوة. ثم سكت»(17).
دولة “الخلافة الثانية”، أو دولة الشرعية الدينية إطلاقاً، ليس لها أن
تستمد من القانون الإنساني أيّاً كانت طبيعته، لا بل إنها تتعارض معه
بطبعها. إذا كان القانون الإنساني الذي يضفي على الشرعية السياسية لباسها
ويكسبها معناها في الفكر السياسي الحديث يتجلى في الديمقراطية وآلياتها
وكان، يجد دعامته في القول بالطبيعة البشرية للسلطة السياسية من جانب أول،
وفي القول بحقوق الإنسان واحترامها من جانب ثانٍ، وفي القول بإمكان الوصول
إلى السلطة وفي إمكان الاعتراض لها بموجب الضوابط القانونية المتعارف
عليها من جانب ثالث.. إذا كان كذلك فإن دعاة “الخلافة الثانية” لا يرون في
الديمقراطية وتجلياتها إلا كل ما يبعد عن الله وعن منهاج النبوة. يفترق
الطريقان فلا يلتقيان لأنهما لا يملكان ذلك: طريق الديمقراطية (=”الوعي
الديمقراطي وقاعدته حقوق الإنسان”)، وطريق المنهاج النبوي ذاك الذي تكون
فيه المعارضة «معارضة لا تحط رحالها في البسيط السياسي المنفعي الدنيوي
الذي يأخذ الحاكم بمعايير الجدوى وتحقيق المصلحة لا تتجاوز ذلك»(18)، لذلك
فإن الداعية السياسي المغربي ينتهي إلى غاية طبيعية، حتمية من جهة المنطق
الذي يأخذ به، وهي رفض الحياة السياسية المعاصرة في نظمها وتنظيماتها
وإدانة الديمقراطية في تجلياتها المختلفة من أحزاب، وتنافس على سلطة،
وإقرار لحقوق الإنسان واعتبار مراعاتها مرجعية يكون الاحتكام عليها. لا
تستمد السلطة السياسية ما يمكن أن يكون لها من الشرعية وأسبابها إلا من
مصدر واحد هو الشرع الإلهي، هو القانون الإلهي وقد حملناه على أن يقوم
للتاريخ البشري عامة، وللإسلام خاصة، بقراءة تقصي عنه بعده البشري وتنزع
عنه لباسه الذي أسدله الله -تعالى- عليه.
************************
الهوامش:
*) باحث وأكاديمي من المغرب.
([1]) سورة النساء آية: 58
(2) تقي الدين ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الكتاب العربي، مصر، الطبعة الرابعة، 1969.
(3) المرجع السابق، ص. 5.
(4) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، مكتبة وهبة، 1988، الطبعة الثانية، القاهرة، ص. 749.
(5) عبد الملك الجويني، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في الاعتقاد، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1985، ص. 435.
(6) ذلك ما سعينا إلى توضيحه في كتابنا “الخطاب الأشعري – مساهمة في
دراسة العقل العربي الإسلامي”، دار المنتخب العربي، بيروت، 1992.
(7) أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية، نشرة النعساني، القاهرة، 1909، ص. 4.
(8) المرجع السابق، ص. 8.
(9) المرجع السابق، ص. 30.
(10) المرجع السابق، ص. 33.
(11) نفس المرجع والصفحة.
(12) في بسط المسألة وكذا في التعرف على وجهة نظرنا، انظر: سعيد بنسعيد
العلوي، دولة الخلافة – دراسة في الفكر السياسي عند الماوردي، منشورات
كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1980.
(13) علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، منشورات مكتبة دار الحياة، بيروت، 1966، ص. 199-200.
(14) المرجع السابق، ص. 201.
(15) المرجع السابق، ص. 181.
(16) المرجع السابق، الصفحات 181-183.
(17) عبد السلام ياسين، العدل (الإسلاميون والحكم)، مطابع إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2000، ص. 24.
(18) المرجع السابق، ص. 122.
window.fbAsyncInit = function() {
FB.init({appId: "132016746834932", status: true, cookie: true,
xfbml: true});
};
(function() {
var e = document.createElement("script"); e.async = true;
e.src = document.location.protocol +
"https://connect.facebook.net/ar_AR/all.js";
document.getElementById("fb-root").appendChild(e);
}());
اضف للمفضلة.