أحرجت
سلمية ثورات الربيع العربي نمطية تفكير النظم الحاكمة، وأظهرت طابعها
العدواني في ممارسة السلطة، وقصورها السياسي في التعاطي مع أزماتها
الداخلية، اعتمادا على القوة العمياء للدولة، والاستخدام المفرط للعنف،
الذي يقدم في كل يوم برهانا على عجزه في بناء التاريخ والمجتمعات، وتقديم
الحلول الناجعة لإرادة الشعوب.
لا شك أن مقابلة
عنف الاستبداد، كآلية لمركزية السلطة، بحراك شعبي واجتماعي، كاعتراض على
بنيان الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، يشكل علامة فارقة للحظة
الراهنة بتحولاتها حيث سلمية الاحتجاج يأتي كرد فعل عقلاني على لاعقلانية
العنف الممارس بأشكال متعددة كامتياز ثابت وشرعي منذ عقود.
ومع
إصرار الحراك الشعبي على مطالبه، في كل من سورية واليمن، يبدو جليا، أن
العنف ليس بالوسيلة المثلى للحل، بل بات جزءا من المشكلة، يسهم وبشكل
مباشر، في تعقيد الأوضاع، وتأجيج النوازع التدميرية والانتماءات الضيقة في
بنى مجتمعات، شهدت تحولات عنفية وحركات انقلابية، تعمدت بدماء أبنائها في
السابق. ومع اقتراب هذا الحراك من مرحلته الحاسمة، بات من الواجب إظهار
تخبط سلطة العنف، والمخاطر الجمة التي يمكن أن يمنى بها الحراك الشعبي في
حال الانصياع للأصوات الانفعالية، المطالبة بالعنف، والمتناسية إنجازات
الحراك السلمي، باكتسابها لقيم مضافة أكدت على مدنية مجتمعاتنا وابتعادها
عن نمطية الحراك الثوري القديم، المعتمد على العنف كنهج وأسلوب ممارسة،
للاستحواذ على السلطة. فالحركات الإيديولوجية التي عرفتها منطقتنا، تعرف
نفسها كحركات انقلابية، أي أن فائض العوامل الثورية ترتبط بشكل عضوي بفائض
العنف وممارسته. لذا لم يكن من المستغرب أن تستهوي الجماهير الحراك السلمي
كانعكاس لسأم المزاج العام من تغير أنظمة الحكم عن طريق الانقلابات
العسكرية.
يشغل العنف جانبا هاما في وعينا
الثقافي والاجتماعي، كرسه المفهوم العنفي للدولة، المبجل بصيغ عقائدية،
تمتزج فيها مفاهيم الخلاص الأيديولوجي مع الوعد والوعيد الديني، وفق ثقافة
إقطاعية، تحاول دائما الإخلال بحدود السيطرة والتملك، وترى في ممارسة
العنف حقا مقدسا، للحفاظ على المعتقدات والمصالح وحدود الحياة والدفاع
عنها. وبتلك الرؤية تعرف القوى النشطة في مجتمعاتنا بمدى قدرتها على
الاستحواذ والهيمنة، واحتفاظها بسلطة العنف. وهو ما انطلى على بنية تفكير
المعارضات التقليدية، ذات المنبت الشمولي. بارتهانها إلى الرغبة العارمة
في الاستحواذ على سلطة العنف، لتمرير أيديولوجيتها المقدسة على الأفراد
والكيانات وفق أفكار مسبقة الصنع.
برغم من كل
سنوات الفقر السياسي، وإقصاء الروح الوطنية وتغيبها، وإنتاج النظم الحاكمة
وأجهزتها للاستعصاء الذهني والعطالة الفكرية، تظهر سلمية الاحتجاج كقوة
تتجاوز منظومة الخوف والترهيب، وإجراءات العسف والإقصاء. لتكتسب قيم
أخلاقية، تضاف إلى مكتسباتها السياسية وقيمها المتحضرة، فالسلمية في
جوهرها، احترام لحياة الآخرين، على تنوع منابتهم ومصالحهم، بعكس العنف
الذي يؤدي إلى زيادة الاصطفاف داخل المجتمع لمصلحة طرفي النزاع، والذي
يؤدي إلى انقسامه عموديا بعد تمترس كل طرف وراء خوفه ومعتقداته.
خطورة
العنف تكمن في القدرة الهائلة في تمزيق الأواصر وتعميق الشروخ، وعسكرة
المجتمع، وضخه بفائض من الحقد والضغينة، نازعة عن الكائن البشري المختلف
حرمته الإنسانية. فمبادلة العنف بالعنف هو الطريق الأقصر إلى شحن الغرائز
والانفعالات، وتأجيج ردود الأفعال الثأرية، وتهديد السلم الأهلي. وهو ما
دأبت عليها السلطات، كونها الخيار الوحيد الذي يبقيها على سدة الحكم. لذا
تحاول بكل إمكاناتها إلى دفع الاحتجاجات إلى دوامة العنف، لتتمكن من عزلها
وتبرير أشنع أنواع القهر والتنكيل ضدها، ومن ثم هزيمتها وإضعاف شرعية
مطالبها.
يتطلب اللاعنف إستراتيجية أخلاقية
رفيعة، ليس في وجه آلة القتل وحدها، بل في وجه بعض الآراء المنادية بضرورة
مواجهة عنف الأنظمة، بعنف مضاد، كتعبير لما كرسته هذه الأنظمة في ذهنية
الإنسان المقهور، وارتباط مفاهيم الثقافة الرجولية، بأوجه العنف، متوهمة
أن قوة السلطة تكمن في استخدام العنف، وأن أي تغيير يستوجب إجراء ممارسات
عنفية وشرسة من أجل امتلاك زمام إدارة الصراع، وإحقاق "الحق والعدالة".
وذلك باستخدام أسلوب الطغاة في تنصيب نفسها إرادة فوق القانون، ومبدأ
الحياة وتباينها.
تؤكد الكثير من الوقائع، إنه حتى
لو نجحت الحركات العنفية في استلام السلطة، إلا أنه ليس من السهولة التخلص
من مركزية القوة واحتكارها في طرف محدد، حيث يتحول المجتمع إلى
مجتمع عسكري ينتشر فيه ثقافة الميلشيات التي تضعف وتغيب دور المؤسسات
المدنية، العنصر الحيوي في إنشاء المجتمعات الديمقراطية.
يحفل
التاريخ المعاصر بالكثير من التجارب اللاعنفية التي أضعفت النظم
الديكتاتورية وكشفت إمكانية انهيارها خلال فترات زمنية قصيرة نسبيا، ففي
عام 1989 شهد ما يزيد على مليار ونصف من البشر ثورات لاعنفية مختلفة، حققت
نجاحات كبيرة في مختلف أنحاء العالم، انتهت بسقوط جدار برلين ومن ثم سقوط
الاتحاد السوفيتي عام 1991 . وإذا جمعنا كل الدول التي تأثرت بأحداث
وحركات لاعنفية إلى بعضها خلال العقود المنصرمة، فأن الرقم سيزيد عن ثلاثة
مليارات نسمة، وهذه النسبة تقدر بنصف عدد سكان الكرة الأرضية، مما يدحض
المقولات المتكررة التي تزعم أن اللاعنف لا يستطيع تغير الأنظمة وواقع
الشعوب.
رغم كل المآسي التي تتكبدها حركة
الاحتجاج السلمي، إلا أنه لا بدّ من التأكيد، أنّ إرادة السلمية تمنح
الضعفاء القوة، وتفقد سلطة القوة لرهبتها وتزيد من الزخم الجماهيري
للاحتجاجات، بعكس استخدام العنف والسلاح، الذي ينفر منه الناس، أخلاقيا
وعمليا. فالعنف مهما تكن له من حسنات إلا أنه في النهاية هو شكل من أشكال
الانتحار، يقوّض قوة العمل السياسي والنضالي.