من
يدري أبدا ما ستأتي به المفاجآت في بلد هو قادر حتما على كلّ شيء منذ عشرة
أشهر؟ يوم الجمعة المنصرم، في قاعة مخصّصة لحفلات الزفاف في منطقة سياحيّة
بتونس، عقدت النّهضة، وهي حزب إسلاميّ، أوّل مؤتمر صحفيّ لها بعد
الانتصار. كنّا منذ جانفي نعرف تونس الثّورة : مغنّيي الرّاب السّاخرين،
المدوّنين الظّرفاء، فايسبوك للجميع. لكن، منذ النّظرة الأولى، نكتشف تونس
الجديدة. جميع المناضلات محجّبات (ما عدا واحدة)، جميع الرّجال بستراتهم
الدّاكنة وملامح الصّوم على وجوههم يبدون وكأنّهم في حداد، أمّا أعضاء
المكتب السّياسيّ المتلاصقون على المنبر ببدلاتهم الكاملة فيطأطئون رؤوسهم
للاستماع إلى الدّيباجة الّتي لا تنتهي في كلّ اجتماعات الحركة : ترتيل
القرآن. إنّها صدمة.
ولكن، بطريقة مّا، يأتي آخر بمجرّد أن تبدأ الخطابات. أوّل من تدخّل
رجل قصير رماديّ الشّعر هو الشّهير راشد الغنّوشي، رئيس الحزب. لنصغ إلى
الكلمات الّتي تنثال كالمطر من فمه : "حرّيّة، حقوق النّساء، وفاق،
ديمقراطيّة." منذ سنة بالكاد، عندما كان في منفاه الطّويل، كانوا يقولون
عنه إنّه متشدّد، متزمّت، شرس. وكانت الصّحافة الغربيّة تذهب إلى حدّ وصفه
بأنّه الخمينيّ الصّغير للمغرب العربيّ. جاءت الثّورة وبعدها الانتخابات
فألفيناه في هيئة ديمقراطيّ مسيحيّ على الطّريقة القرآنيّة.
بعد "الرّبيع العربيّ" حلّ الخريف الإسلاميّ. من تونس إلى مصر مرورا
بليبيا تُعتبًر الأحزاب الدّينيّة أوّل مستفيد من سقوط الدّكتاتوريات.
كانوا يُستخدَمون كفزّاعة. بعد نتائج صناديق الاقتراع، ترى هل سينفتحون أم
سيستحوذون بمفردهم على السّلطة؟ هل سيؤول احتفال الشّعوب إلى كابوس؟
كلّ شيء يكمن هنا. في أيّ اتّجاه تسير تونس؟ في اتّجاه ما كنّا نراه :
الحجاب، الصّلاة، حكومة المتديّنين؟ أم في اتّجاه ما كنّا نستمع إليه :
ثقوا بنا، نحن ديمقراطيون؟ من يملك الجواب؟ في الصّحافة استفسارات. في
الحانات يستمرّون في الشّرب لينسوا أنّهم سينتهون إلى القلق على قارورة
نبيذهم الصّغيرة. المناضلون الإسلاميون متأهّبون، الخصوم الحداثيون
مكتئبون، المتنفّذون ينتظرون رؤية الرّيح في أيّ اتّجاه تسير، والجميع في
كلّ مكان يتساءلون : ماذا هم فاعلون؟ هل يحقّ لنا أن نخاف؟ أم أنّهم سيفون
بوعودهم بصهر تديّنهم في بوتقة الحرّيّة، ببناء نظام جديد، "إسلائكيّة"
وفقا للتّسمية الجميلة لكاتب افتتاحيات صحفيّة في جريدة الصّحافة؟ إنّ
إنجاز تحقيق صحفيّ في تونس هذه الأيّام الّتي تلي الاقتراع التّاريخيّ
ليوم 23 أكتوبر 2011 هو بمثابة التّجوّل في غابة من نقاط الاستفهام. وعوضا
عن أن نزرع أخرى، حريّ بنا لمحاولة فهم ما يدور هنا أن نضع بعض الحقائق.
الأولى بديهيّة وهي بصدد التّعداد رسميّا : نتائج الاقتراع. لأوّل
مرّة في تاريخهم صوّت التّونسيون بحرّيّة أثناء انتخابات أقرّ جميع
المراقبين بأنّها نزيهة وشفّافة. لقد أبانوا عن اختيار واضح وكثيف. لا فقط
من خلال نسبة الـ 42% من الأصوات المعطاة إلى الحزب الإسلاميّ بل أيضا من
خلال النّتائج اللاّحقة. إجمالا، الأحزاب الوحيدة الّتي خرجت من مأزق
اللّعبة ببراعة هي تلك الّتي لم تستبعد أبدا تحالفا مّا مع الإسلاميين.
أمّا تلك الّتي بنت كلّ شيء على شيطنتهم فقد انهارت.
عديدة هي الأسباب الّتي تفسّر قوّة الظّاهرة. فمثلما يحدث بعد كلّ
ثورة، بعد كلّ فترات الاضطراب في جميع أنحاء العالم، تمّ التّصويت للحزب
الّذي يطمئن، لحزب النّظام والأمن. وبعد أقلّ من سنة على نهاية
الدّكتاتوريّة تمّ التّصويت أيضا لفائدة حزب أولئك الّذين اضطهدتهم أكثر
من غيرهم. لا يفهم الأوروبّيّون هذه الحقيقة على الرّغم من أنّها جوهريّة
ومن أنّ حكوماتهم قد خلقتها جزئيّا بمساندتها الغبيّة لأسوء الأنظمة. إنّ
الإسلاميّ هنا، في العقل الجمعيّ، ليس شرّيرا ملتحيا، إنّه قبل كلّ شيء
بطل في مقاومة الطّاغية. ليسوا بطبيعة الحال وحدهم من قادوها وهذا لا يسمح
لهم بأن يفعلوا ما يشاؤون، لكنّ الأكيد هو أنّهم هم من دفع الثّمن أكبر من
غيرهم. لقد وجد حمّادي الجبالي، رئيس الحكومة القادم المحتمل، الوقت
الكافي للتّفكير في برنامج حكومته : ذلك أنّه قد قضّى سبعة عشر سنة في
سجون بن علي منها عشر في السّجن الانفراديّ.
تمّ التّصويت "للهويّة"، وهي المسألة المفتاح للحملة الانتخابيّة. "ما
هي هويّة تونس؟". طيلة أشهر، لا حديث في التّلفاز وفي الرّاديو ومن نقاش
إلى آخر إلاّ عن هذا. لقد أظهرت ثورة جانفي واحدة، هي "جيل الفايسبوك"،
هويّة بلد حديث، مأهول بهؤلاء الطّلبة الشّجعان والسّاخرين الّذين أطاحوا
بالنّظام حالمين بالحرّيّة على الطّريقة الغربيّة. لكن تمّ نسيان هويّة
الـ 99% الباقية، العربيّة في عمقها، المسلمة بشكل عميق. حاول بعض
المفكّرين، البرجوازيين اللّيبراليين، الفرانكفونيين في أغلب الأحيان، مثل
"القطب الحداثيّ"، أن يقترحوا على البلاد بديلا : فإمّا أن تكون تونس
إسلاميّة وإمّا أن تكون لائكيّة. كان مقصدهم رائعا. لكنّهم فهموا بصفة
متأخّرة نوعا مّا أنّه قد تحوّل إلى فخّ قاتل. فباستدعائهم في النّقاش
لكلمة وحيدة هي "اللاّئكيّة" كانوا يظنّون أنّهم يرفعون من شأن قيم يمكن
لجميع النّاس تفهّمها، مثل التّفتّح والتّسامح واستبعاد الدّين توقيرا له
حتّى لا يقع توظيفه. لكنّ النّاس سمعوا "الإلحاديّة الغربيّة" وحزب
الكفرة، وأعداء الدّين. ولم يكن أمام جماعة النّهضة بمعيّة دعاتها الورعين
إلاّ أن ينحنوا لالتقاط المعطى. وها هم في اللّحظة الّتي أكتب فيها بصدد
الانتهاء من المساومة لتشكيل الحكومة.
ماذا سيفعلون بها؟ من وجهة نظر الجميع، حتّى معارضيها الأكثر شراسة،
لا شيء مثيرا، على الأقلّ في مرحلة أولى. تونستان ليست غدا. إنّ المهمّة
الأولى للمجلس الّذي تمّ مؤخّرا انتخابه هو وضع دستور للبلاد. : "سيسعون
إلى القيام بذلك بأكثر ما يمكن من التّوافق، يقول دبلوماسيّ، ليس من
مصلحتهم البتّة أن يعلنوا الحرب بهذا الشّأن". لا مكان للاّئكيّة بطبيعة
الحال، وقد أتينا على تفسير ذلك. ولكن لا مكان للتّيوقراطيّة أيضا على
الطّريقة الإيرانيّة. وبصفة أخصّ، لو صدّقنا ما يقال اليوم، لا قطع
فجائيّا مع المكاسب. حتّى المناضلات النّسويات اللّواتي التقينا بهنّ لا
يشكّكن في الوعود باحترام حقوق النّساء، كما أنّ مجلّة الأحوال الشّخصيّة
المشهورة، الموروثة عن بورقيبة (أي منع تعدّد الزّوجات، وحقّ الطّلاق
المدنيّ، الخ.) متجذّرة كثيرا في الهويّة التّونسيّة بحيث لا يمكن إعادة
النّظر فيها.
ستكون اللّعبة بالأحرى خفيّة. سيتعلّق الأمر قبل كلّ شيء، على غرار
الدّروس البعيدة المستفادة من الإخوان المسلمين، بتعزيز إعادة أسلمة
المجتمع من القاع. وهذا التّوجّه يسير طبيعيّا منذ فترة طويلة. فالمجتمع
التّونسيّ، شأنه شأن العالم العربيّ كلّه، هو مجتمع أكثر تديّنا للغاية
عمّا كان عليه قبل ثلاثين سنة. يقول زياد كريشان رئيس تحرير جريدة
"المغرب" اليوميّة : "عندما كنت طالبا في السّبعينات، كان يُنظَر إلى
المصلّي عل أنّه شخص غريب ويتعرّض إلى السّخرية. أمّا اليوم، فحتّى لاعب
كرة القدم لم يعد بإمكانه أن يمتنع عن حمد اللّه عندما يسجّل هدفا". ستدفع
النّهضة هذا المسار. وستختلف التّقنيات. ستتوخّى العمل السّياسيّ في العمق
لنشر أفكارها. يقال إنّ الحزب بدلا عن مطالبته بوزارات سياديّة مثل
الدّاخليّة والخارجيّة يطمح إلى نيل حقائب أخرى مثل التّعليم والثّقافة.
والأسباب مفهومة.
بالإضافة إلى ذلك، هناك اللّعبة الصّغيرة الشّديدة الإتقان الّتي
يتألّق فيها الإسلاميون : استعمالهم للمتطرّفين منهم. تفسّر لنا حنان
زبّيس، وهي صحفيّة شابّة ومحلّلة أنيقة في الأسبوعيّة "حقائق"، المناورة
الّتي نجحت من قبل في العديد من المرّات. آخرها كانت مع البثّ الذّائع
الصّيت في التّلفزة لشريط "بيرسيبوليس". لقد وقع تجديف مهول – فكّروا في
الأمر : تمرَّر صورة متحرّكة تجسّد اللّه الكريم، إنّه شيء محرّم. تنطلق
مظاهرات فوريّة وعنيفة يقوم بها السّلفيون الّذين يمثّلون اليمين الدّينيّ
المتطرّف. صدمة في البلاد. يأتي ردّ النّهضة على مرحلتين. الأوّل ينمّ عن
حزب جدير بالاحترام ومطمئن : العنف غير مقبول. الثّاني يضيف كلمة "ولكن"
ويقدّم البيدق التّالي : "هل كان الاستفزاز منذ البداية، المهين جدّا
للبلاد، أمرا ضروريّا حقّا؟" وهيّا بنا! بعد قضيّتين أو ثلاث من هذا
النّوع، دون اعتماد قانون خاصّ، سيسبح المجتمع في بيئة ملائمة لتحقيق حلم
متشدّدينا : سيادة النّظام الأخلاقيّ.
تونس، أو بالأحرى تونس الأخرى، تونس الحداثيين، النّساء، اللاّئكيين،
هل تقبل بالأمر الواقع؟ سيكون من الخطأ أن تذعن للهزيمة. فلا شيء قد حُسم
بعد. أوّلا، لو يتمسّك السّيّد الغنّوشي وأتباعه بوعودهم بالحرّيّة الّتي
لا يكفّون عن تقديمها، فهذا يفترض أنّهم يقبلون بشرف بجميع القوى المضادّة
الأساسيّة في كلّ نظام ديمقراطيّ : استقلال القضاء، حرّيّة الصّحافة،
وبطبيعة الحال وضع سلطتهم على المحكّ أثناء المواعيد الانتخابيّة القريبة
جدّا – باعتبار أنّ المجلس التّأسيسيّ حيث هم لن يدوم إلاّ سنة واحدة.
وهناك أيضا فعليّا اللّعبة البرلمانيّة. ذلك أنّ نسبة الـ 42% تجبر الحزب
على القيام بتحالفات. وقد وافق حزبان على المبدأ وهما حزب مصطفى بن جعفر
وحزب منصف المرزوقي. كلّ منهما طبيب، ومناضل حقوقيّ قديم ومعارض لا مأخذ
عليه لبن علي وديمقراطيّ باقتناع. سيراهنان على أنّ الإسلاميين قد
تغيّروا، وأنّ البلاد في حاجة إلى وحدة وطنيّة وأنّهما سيظلاّن في كلّ
الأحوال متمسّكين شرسين بمبادئ الحرّيّة الّتي يدافعان عنها. يمكن للمرْء
أن يتصوّر أنّ حسابهما خاطئ وأنّه سيُحتال عليهما وأنّ تمشّيهما سيؤول إلى
الفشل. ولكن اعتبارا لشخصيتهما ولتاريخهما، من المستحيل الحكم عليه بأنّه
غير صادق.
يبقى حجر الزّاوية لمجمل الصّورة، أي الامتحان الاقتصاديّ. إنّ النموّ
صفر، وعدد العاطلين بلغ ثمانمائة ألفا، والانتظارات ضخمة وهامش المناورة
ضعيف. وهذا ممّا لا شكّ فيه سيحثّ على أكبر قدر من الحذر وعلى عدم محاولة
القيام بكلّ ما من شأنه أن يصدم الغرب، هذا الشّريك الّذي لا مناص منه.
انظروا ما حدث بعد التّصريحات الأولى الّتي سبقت الانتخابات لكلّ من
سركوزي وجيباي : "سنكون ساهرين على ضمان حقوق الإنسان." من الجهة
الفرنسيّة، تلك التّصريحات لم تصدم أحدا. ويكون وصفا قاصرا القول إنّها قد
تركت تأثيرا سيّئا في نفوس زعماء النّهضة. فمن وجهة نظرهم، من سيقبل
بتلقّي دروس في حقوق الإنسان من أناس دعّموا الدّكتاتوريّة حتّى آخر لحظة؟
ولكن ماذا كان جوابهم رسميّا؟ لا شيء. لماذا إغضاب قارّة يُعتمَد على
التجارة معها بنسبة80% ؟ ليس هذا وقتا مناسبا. فحتّى التّعاليم الدّينيّة
بإمكانها أن تنتظر حين تكون قطاعات حيويّة على المحكّ. طمأن الغنّوشي
مؤخّرا العاملين في مجال السّياحة بقوله إنّه لا مجال لمنع الكحول أو
ملابس السّباحة. بإمكان السّياح أن يأتوا مطمئنّين، ستظلّ الشّطوط رائعة،
ولن يكون هناك طالبان واحد يهدّد حياتهم في الحمّامات أو في جربة. ما عدا
ذلك، يتمثّل المشروع على المدى الطّويل في إعادة فتح الاقتصاد على البلدان
الصّديقة المنتمية إلى العالم الإسلاميّ. من هي؟ كيف؟ هذا جنون، هذا بعيد.
وفي انتظار ذلك، تعلَّق كلّ الآمال على جار قريب جدّا هو ليبيا. بلد
بأكمله ينتظر إعادة البناء، بلد يطفح بالبترودولار ويديره أناس لم تتوان
تونس لحظة عن مساعدتهم. هل سيكون هذا كافيا لإعادة تحريك عجلة البلاد؟ بعد
ذلك، لن يبقى سوى السّلاح النّهائيّ لأسياد تونس الجدد، الصّلاة. يقول لنا
كاتب افتتاحيات ماكر وهو يضحك : "إنّهم يعتقدون أنّ اللّه معهم. سنرى من
نتائجهم إن كان الأمر كذلك أم لا."