باندهاش
وذهول تابع ملايين البشر عبر شاشات التلفاز المرأة العربية المنقبة أو غير
المنقبة، وهي تخرج في بلدان عربية عدة، لتقف ليس خلف الرجل ولا إلى جانبه،
بل لتقف أمامه في التصدّي بكلّ إباء وإصرار لوحشية الاستبداد والتهميش،
ولتعتصم معه في الساحات والميادين تتلقّى مثله دون تردّد ولا خوف،
الإهانات والضرب المبرح، أو الاعتقال، أو حتى الرصاص الحيّ. وهي المرأة
ذاتها التي ألفوا فيها الاستكانة والخنوع لسلطة الرجل ولسلطة المجتمع
ولسلطة النظام.
ومن المفارقات المثيرة أنّ بواكير الربيع العربيّ جاء عبر البوّابة
التونسية، وأنّ المرأة التونسية كانت تتمتّع بوضع اجتماعيّ وقانونيّ
وسياسيّ متقدّم على مثيلاتها في المنطقة العربية ككلّ، منذ صدور قانون
الأحوال الشخصية عام 1956، الذي أكّد، وصان، المساواة التامة بين المرأة
والرجل في الحقوق والواجبات عبر نصوص قانونية ملزمة. حيث لاحظنا الدور
الخلاق لمساهمة المرأة في إنجاح هذه الثورة.
لكن التصريح الذي نقلته وكالات الأنباء عن زعيم حركة النهضة الإسلامية
فور فوز حزبه بانتخابات المجلس التأسيسي، والمتعلق برغبته في تعديل نصين
اثنين فقط، هما منع تعدّد الزوجات، والنص المتعلق بالتبني، لا يمكن
اعتباره إلا تراجعاً عن تلك المكاسب التي كانت تحظى بها المرأة التونسية،
وأنه ربما جاء نتيجة لضغوط التيارات الإسلامية المتشددة، خاصة وأنه كان قد
سبق للزعيم الغنوشي ذاته أن أعلن قبل الانتخابات عبر وسائل الإعلام، عن
التزام الحركة بعدم المساس بقانون الأحوال الشخصية التونسي وتحديداً ما
يتعلق بمكتسبات المرأة التونسية. فهل سينتهي الأمر عند هذه الرغبة في
التعديل، أم أننا أمام محاولة لاستيلاد هيمنة وتسلط جديدين بلبوس إسلامي
هذه المرة وعبر بوابة الانتخابات الديمقراطية؟
هذا ما حاولت الدكتورة آمال قرامي الأستاذة في الجامعة التونسية
والمتخصصة بدراسات الجندر والدراسات الإسلامية الإشارة إليه عندما قالت:"
لا يتعلق القلق بحزب النهضة فحسب، بل بأحزاب أخرى منها من نالت الترخيص
ومنها من لم تنله بعد، كحزب التحرير وتيارات سلفية أخرى. ولفتت الانتباه
إلى أمرين، أولهما تناقض تصريحات الزعماء الإسلاميين بين ما يدلون به إلى
الصحافة وما ينطقون به في المساجد أو في المجالس الخاصة، وثانيهما، انفصال
خطاب القادة عن القاعدة، فالشباب يريد عودة النساء إلى البيت وتحجيب
النساء بالقوة وإلباسها النقاب متأثراً بالفضائيات المتطرفة.."
وكما الحال في تونس كذلك هو في مصر، حيث خرجت المرأة المصرية إلى
الشارع بكامل عنفوانها إلى جانب الشباب الثائر وجموع المهمشين، فسكنت
الميدان معهم وتعرضت معهم أيضاً، للضرب المبرح والتنكيل والإهانة والعسف
والاعتقال والقتل أحياناً. بل وأكثر من ذلك، إذ تعرضت هي دون الرجال،
لانتهاك فظّ لإنسانيتها ولذاتها ولكرامتها، من خلال تعريضها لفحص العذرية
فور اعتقالها، لكنّ ذلك كله لم يلغِ إحساسها بأهمّيتها وأهمّية دورها في
تلك اللحظة التاريخية، ولم يحدّ أيضاً، من فخر الرجل المصري واعتزازه بها.
هذا ما أكّدته الدكتورة عزّة كامل، الناشطة في مجال حقوق المرأة إذ تقول"
لأول مرة منذ عقود طويلة، تعامل النساء على أنهن كاملات الأهلية لا فرق
بينهن وبين الرجال، لا فرق بين محجبة، ومنتقبة، وغير محجبة، مسلمة، أو
مسيحية". لكن فوز الإسلاميين في الانتخابات التشريعية يعيد الكثير من
المصريين إلى دائرة الخوف من المستقبل، خاصة وأن خيبة أمل المرأة المصرية
في الربيع المصري، استبقت تلك الانتخابات، وكانت مقاربة لخيبة جزء مهم من
الشارع المصري، وأكثر إيلاماً، إذ كشفت لها الأيام التي تلت الثورة عن
خيبة أملها في الطيف الأكبر من مجتمعها الذكوري، والذي ما لبث أن عاد
وتغاضى عن مطالبها بالمساواة الكاملة، متجاهلاً الدور المؤجج لها في
الثورة المصرية، فوقف متفرجاً في 8 مارس /آذار الماضي، عندما تجمعت النساء
مع بعض الرجال المؤيدين للحركة النسائية أمام نقابة الصحفيين حاملات
لافتات تعبر عن مطلبهم المتفق عليها، وتوجهن جميعا إلى ميدان التحرير
ليلتحمن بمسيرات أخرى من مناطق مختلفة، إلا أن البلطجية وبعض السلفيين
كانوا بانتظارهم وحالوا دون تقدمهم، بل وقاموا بأعمال استفزازية ضد
المتظاهرات كالتحرش بهن وتوجيه العبارات البذيئة لهن.
ولم يكن حال المرأة الليبية بأحسن من مثيلاتها في مصر وتونس، فرغم ما
قدمته من تضحيات كأمّ وأخت وزوجة، وما عانته خلال أشهر الحرب من تهجير
وتجويع وقنص واغتصاب، بالإضافة إلى ما تعرّضت له من انتهاكات جسيمة لذاتها
ولكرامتها الإنسانية من قبل أزلام القذافي ورجالاته، إلا أنه وفور انتصار
الثورة بادر السيد عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي إلى الإعلان بأن
المجلس سيلغي الكثير من القوانين التي كانت سائدة في عهد القذافي، ومنها
ما يتعلق بتعدد الزوجات.
ولأنّ ظروف المنطقة العربية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية
والسياسية متشابهة، وإن بنسب متفاوتة، فإن أحوال المرأة العربية أيضاً
متقاربة مع فروقات نسبية بين دولة وأخرى، الأمر الذي يمكن معه القول، أن
المرأة العربية في البلدان الساخنة التي تعيش الآن خضمّ الحراك الثوري،
كسورية واليمن والبحرين وغيرهم، رغم ما أظهرته هذه المرأة من حضور
استثنائي ومساهمة فعالة ومؤثّرة على جميع الصُعد والمستويات، وما أبدته من
شجاعة وقدرة على المواجهة في حرب غير متكافئة، خلال الأشهر الطويلة
الماضية، إلا أن حالها بعد الثورة لن يكون أفضل من حال مثيلاتها في
البلدان التي حققت ربيعها العربي، وأن تميزها في الحراك الثوري سينتهي
بنهاية هذا الحراك، وستعود كما عادت المرأة في تونس ومصر وليبيا إلى ما
كانت عليه قبل الثورة، وبالتالي سنشهد حالة نكوص للحركة النسائية العربية.
قد يتبادر إلى أذهان البعض أن حالة النكوص هذه سببها المعوقات الفكرية
والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وسيطرة الجهل والأمية، وخاصة في أوساط
المرأة العربية، هي معوقات حقيقية ومتأصلة في مجتمعاتنا، لا يمكن تجاهلها
أو تجاهل الآثار السلبية لها.
وقد يعزو البعض الآخر السبب إلى افتقار المنظمات النسائية العربية
الرسمية عموماً للمؤمنات جدياً بقضايا المرأة والمدافعات عنها، رغم كل
محاولات تلك المنظمات لتجميل واقع المرأة في هذه الدول، كاستجابة منها لما
تمارسه المنظمات العالمية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة من ضغوط على الأنظمة
والأحزاب السياسية. بحيث سادت مجتمعاتنا العربية منظمات نسائية غير فاعلة
وغير مؤثرة، بل وبلا مصداقية في كثير من الحالات. الأمر الذي يحول دون أي
تغيير في المجتمع من شأنه خلق واقع جديد يضمن للمرأة المساواة وعدم
التمييز.
هذه الأسباب مجتمعة تشي بالكثير من الصحة، لكنها ليست السبب الأساس في
نكوص المرأة العربية. إذ إن السبب الجوهري يكمن في الأنظمة العربية التي
سادت بعد الاستقلال. إذ المعروف أن الدول العربية بغالبيتها كانت قد أنجزت
تحررها الوطني، وشكلت حكوماتها الوطنية، ودستورها الوطني منذ أواسط القرن
الماضي، وقد أخذت على عاتقها معالجة تلك المعوقات المجتمعية، تطوير المرأة
والمجتمع والانطلاق به ليكون جزءاً من العالم المتقدم والحضاري. لكننا
وبعد مضي نصف قرن أو يزيد، نستطيع القول أن هذه الأنظمة لم تقم بإنجاز
مهامها الوطنية، بل على العكس تماماً، فقد جهدت في تمكين عائلة أو فرد من
الاستئثار بالسلطة والتحكّم مع شريحة صغيرة بمقدرات البلاد وثرواتها،
تاركة شعوبها في فقر مدقع، ومسخّرة حتى القوانين المحلية لتحصين نفسها
وصون مصالحها وامتيازاتها، بل وأكثر من ذلك، فأن أغلب هذه الأنظمة لجأت
إلى فرض القوانين الاستثنائية (حالة الطوارئ)، معطلة بذلك الدستور
والقوانين الدستورية لصالح مزيد من القمع والترهيب على شعوبها، غير عابئة
بتطلعات هذه الشعوب إلى التحرر والتقدم.
في هذا المجتمع المشحون بالتمييز والإقصاء، وبالترهيب والملاحقة، نمت
وتفشت حالات الاحتقان لدى عموم الشعب، والذي عبّر عن ذاته بظهور حالات
التطرف والتشدد، خاصة لدى بعض التيارات الإسلامية الساعية إلى تحقيق
التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مستفيدة من البيئة الإسلامية في
المجتمع العربي كحاضنة اجتماعية لها.
في هذه الفضاءات، وعندما سنحت اللحظة التاريخية، كان من الطبيعي أن
تخرج الفئات المهمشة من رجال ونساء وأطفال وشيوخ إلى الشوارع والساحات،
للتعبير عن رفضها لهذا الواقع والمطالبة بدولة حديثة تقوم على أساس
المواطنة في ظل دولة الدستور وسيادة القانون، دولة يتمتع جميع المواطنين
فيها بالحقوق الكاملة بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس أو المعتقد،
فلا تمييز أو إقصاء أو تهميش لأي فرد كان. وكما هو معروف فقد نجحت هذه
الثورات في أكثر من دولة عربية، دون أن يعني هذا نجاح الشعوب في تحقيق
ربيعها العربي بما يتضمنه أساساً من حقوق المواطنة لجميع الأفراد، حيث
لاحظنا أن المدخل الديمقراطي باتجاه المستقبل قادنا إلى سيطرة التيارات
الإسلامية مع تباينات بين الاعتدال والأصولية، لكنها عموماً وأمام سطوة
النص الديني المقدس ستكون مضطرة لإعادة تهميش تلك الفئات وخاصة النساء
منهم.
من هنا يمكننا القول: أن نجاح الثائرين في إسقاط الأنظمة السياسية، لا
يعني بالضرورة الوصول إلى دولة المواطنة والمساواة المنشودة، فالطريق
إليها لا يزال طويلاً وصعباً، لأن التيار الإسلامي المعتدل في تونس وفي
المغرب، والإسلاميين الأكثر تشدداً في ليبيا ومصر وغيرها من البلدان
العربية التي ينتظر إسلاميوها حصاد ثمار الثورات العربية، لن يتمكنوا من
تجاوز سقف النصوص القائمة أساساً على التمييز، فهناك تمييز بين الأديان
باعتبار الدين الإسلامي هو أكرم الأديان، وهناك تمييز بين المرأة والرجل
باعتبار المرأة تابعة للرجل وعليها إطاعته. هذا الاتجاه ورغم فوزه بشكل
ديمقراطي إلا أنه سيبقى محكوم بالأيديولوجيا وإرث الحركات الإسلامية وخطر
الانشقاقات التكفيرية والأكثر أصولية داخلها، وكل ذلك سيحول بالضرورة
وتحقيق دولة المواطنة، لذلك ستبقى تلك الديمقراطية التي أوصلت الإسلاميين
للسلطة محكومة بإرث تلك الأنظمة التي حكمت باسم الوطنية سابقاً، فخرّبت
الأوطان وشوهت الأفكار والمعتقدات.
من هنا نقول إنّ الانتقال بتلك المجتمعات المخرّبة بالفساد والتهميش
إلى أفق ديمقراطية حقيقية، يفترض مرحلة انتقالية مليئة بالمخاضات
والمفاجآت التي قد لا تكون كلها ايجابية، لكننا بمزيد من العمل المؤمن
والجادّ والشاقّ يمكن لنا أن نبقى محصنين بالأمل لتحقيق تلك الديمقراطية
التي تشكل معبراً للدولة المدنية التي تحترم التعددية ومبادئ حقوق
الإنسان، ويقوم دستورها على أساس المواطنة والمساواة التامة بين جميع
رعاياها، عندها فقط يمكننا القول إن حلم المرأة العربية بالتحرر والمساواة
التامة قد تحقق.