بعد
التخلص من كل من لديه قدرة على ٳعاقة وصوله للسلطة، قبع حافظ منتظراً
الفرصة المناسبة للقفز على السلطة وهي ستأتيه عام 1970 بعد أن قرر “زملاؤه”
التدخل في اﻷردن لمساعدة الفدائيين الفلسطينيين ضد قوات الملك حسين. كان
بمقدور اﻷسد وزير الدفاع أن يرفض تحريك القوات السورية و لكنه وافق بعد “أن
نأى بنفسه عن هذا القرار…” . اﻷسد استمر في لعبته المزدوجة حتى النهاية،
فقد قبل بٳرسال الجيش لكن دون توريط قطعات كافية في المعركة و دون
استراتيجية عسكرية واضحة.
بالنسبة للملحق العسكري الباكستاني في عمان،
والذي سيصبح رئيساً لباكستان، الجنرال “ضياء الحق”، سحق الهجوم السوري كان
أشبه بلعبة أطفال. الرجل عسكري محترف و يتقن مهنته، ليس كالهواة في دمشق
بمن فيهم وزير الدفاع الذي يتقن التآمر ولكنه لا يفقه شيئاً في الشؤون
العسكرية.
حين عهد الملك “حسين” للجنرال “ضياء الحق” بقيادة الدفاعات
اﻷردنية ضد القوات السورية الغازية، وضع تحت تصرفه بين ما وضع السلاح الجوي
اﻷردني الضعيف، مع ٳمكانية الاستعانة بالصديق اﻹسرائيلي أو بالحليف
اﻷمريكي ٳن لزم اﻷمر. لكن الرجل اكتفى بنصب كمين بسيط، وقعت فيه القوات
السورية بغباء و تم “تحييدها”. عادت القوات السورية تجر أذيال الخيبة بعدما
أرسلها اﻷسد ٳلى التهلكة دون عتاد كاف ودون غطاء جوي.
حافظ اﻷسد أدرك
مبكراً أن المقاومة الفلسطينية المسلحة قادرة على ٳزعاج ٳسرائيل ولكنها
عاجزة عن حسم الصراع. قبل كل شئ كان اﻷسد يخشى من وجود عناصر مسلحة لا
تأتمر مباشرة بأمره و قد تختار الوقوف ٳلى جانب خصومه من البعث اليساري في
ساعة الحشرة.
اﻷسد نظر بعين الرضى ٳلى سحق المقاومة الفلسطينية من قبل
صديقه الملك حسين، وأدرك أن عليه التحرك بعدها سريعاً قبل أن يلملم
الفلسطينيون صفوفهم ويعيدوا تشكيل قوة ضاربة، لكن على اﻷرض السورية هذه
المرة. أصدقاؤه البعثيون وجدوا في المقاومة الفلسطينية حليفاً قد يساعدهم
على الضغط على ٳسرائيل ويساهم في تحرير الجولان ويمكن له أن يحميهم من بطش
الأسد. هذا ما لم يكن حافظ يريده، وهو ما دفعه للٳسراع في القفز على
السلطة.
حين حزم “صلاح جديد” أمره و طرد “حافظ اﻷسد” من حزب البعث،
أعطى الضوء اﻷخضر للأسد كي يحسم اﻷمر وكانت الحركة التصحيحية، انقلاب قصر
أبيض دون ضجيج أو أدنى مقاومة.
اﻷسد الذي كان قد اعتاد على ممارسة سلطة
مطلقة من وراء الستار دون أن يتحمل وزر قراراته، وجد نفسه فجأة تحت اﻷضواء
التي لن يتركها حتى وفاته. أصبح اﻷسد “يلعب على المكشوف” وصار عليه أن
يطور سياساته الخاصة، داخلياً و خارجياً.
داخلياً اكتفى اﻷسد ب”تصحيح”
قرارات اتخذها زملاؤه بموافقته، دون أن يلغيها! بدأ اﻷسد في تطبيق سياسة
تهدف ٳلى جعل شخصه مركز الثقل الوحيد ومحور الحياة في الدولة السورية. ككل
نرجسي منحرف، كانت كل مشكلة تعترض اﻷسد أو الدولة السورية، مناسبة لاجتراح
حلول تعتمد حصراً على شخص الرئيس أو قراراته و “مكرماته”.
مثلاً، اﻷسد
أوقف مصادرة أراضي الملاكين، لكن بعدما كانت هذه السياسة قد استنفذت
أهدافها. في مسألة السكن و لحل مشكلة نقص المساكن، قرر اﻷسد منع ٳخلاء
المستأجرين بدل تحريك عجلة البناء والاستثمار السكني. بهذه الطريقة ضمن
اﻷسد ولاء المستأجرين، وهم كثر ويشكلون قاعدته السياسية، دون أن يحل أزمة
السكن، وهكذا دواليك.
خارجياً، أدرك اﻷسد حدود لعبة القوى العظمى ومدى
استقلالية القرار اﻹسرائيلي عن القرار اﻷمريكي. حافظ اﻷسد فهم سريعاً أن
ٳسرائيل لا تريد لا السلام ولا الاندماج في المنطقة. كان واضحاً للأسد أن
استقراره في السلطة رهن بالقرار اﻹسرائيلي وبقدرته على الانسجام مع المشروع
الٳسرائيلي في المنطقة.
إسرائيل تريد أن تبقى جزيرة من الاستقرار و
الرخاء، معزولة عن محيطها، بشكل يحافظ على نقاء العنصر اليهودي و تماسكه،
دون أن تتعرض لمضايقات ودون أن تدفع ثمن احتلالها للأراضي العربية. هذه
الأهداف لا تتعارض أبداً مع مصالح الأسد الضيقة.
الحقيقة أن العلاقات السورية – اﻹسرائيلية لم تبدأ مع اﻷسد بل قبله بكثير، أول من راسل اﻹسرائيليين عارضاً خدماته كان حسني الزعيم.
لم يصدق “دافيد بن غوريون” عينيه حين وصلته رسالة من “حسني الزعيم” الذي
كان قد وصل بعد أول انقلاب عسكري في العالم العربي إلى سدة السلطة في دمشق.
“الزعيم” عرض في ربيع عام 1949 على أول رئيس وزراء لإسرائيل “تفاهماً” بين
الدولة السورية بقيادته و بين دولة إسرائيل يتقاسم الاثنان بمقتضاه السلطة
و النفوذ في كل منطقة الشرق الأوسط. عرضَ “حسني الزعيم” بين ما عرض، توطين
300,000 لاجئ فلسطيني في الجزيرة مقابل مبالغ مالية ضخمة.
حين تأكد
“بن غوريون” من أن الرسالة ليست خدعة وأنها تنم عن رغبة حقيقية لدى هذا
الرئيس الانقلابي للتعاون مع إسرائيل، تشاور مع مساعديه وقرروا أن الوقت
غير مناسب لهكذا صفقات خاصة وأن فرص الرجل في البقاء محدودة. رفض “بن
غوريون” بدبلوماسية عرض “حسني الزعيم” بحجة “أن إسرائيل تفضل التركيز على
بناء دولة اليهود و ليس على اقتسام النفوذ مع أي كان”. “بن غوريون” كان
عارفاً بضعف الانقلابي السوري وبأن هذا الأخير كان محتاجاً لدعم الدولة
العبرية لتقوية موقفه في اتصالاته مع الأمريكيين. فعلاً، قام “سامي
الحناوي” بتخليص سوريا من “حسني الزعيم” في آب من نفس العام، قبل أن يعدمه
هو و رئيس وزرائه بتهمة الخيانة.
حافظ الأسد حاز على ضمانات أقوى بكثير
من “حسني الزعيم”. بعد أن “أهدى” الجولان خاوياً على عروشه لإسرائيل، و
سيطر تماماً على كل مفاصل السلطة في سوريا منذ آذار 1969، وظف الأسد فترة
“الكمون” هذه لنسج الولاءات والاتصال “بمن يلزم” لتأمين وصوله للسلطة في
سوريا بسلاسة و من ثم تحقيق “حلم” حسني الزعيم.
المشكلة أن التفاهم
والاتصال المباشر مع إسرائيل غير وارد، فتجربة “الزعيم” و إعدامه بتهمة
الخيانة ممكن لها أن تتكرر مع الأسد، فقلائل، من الطائفة العلوية وغيرها،
هم من سيقبلون بالتعامل المباشر مع العدو. يجب إذاً استخدام وسائل ملتوية
للاتصال بإسرائيل في نفس الوقت الذي يجاهر به صاحبنا بالعداء لها !
الأسد كان بحاجة لنجاحات خارج “صنعة” التآمر ليبني عليها أسطورته. الأسد
أراد السير على خطا مثله الأعلى في الغوغائية، جمال عبد الناصر، الذي بنى
اسطورته على “انتصاره” على أعدائه أثناء العدوان الثلاثي، في حين أن هذه
الحرب كانت كارثية على مصر. “عبد الناصر” تعرض لهزيمة نكراء في حرب حزيران،
حين واجه إسرائيل بعدما أشبعها تهديدات جوفاء.
الأسد كان في حاجة ماسة
“لانتصار” شكلي على إسرائيل يبني على أساسه أسطورته و يوطد دعائم حكمه.
الأسد كان واثقاً من عجز جيشه الممزق عن تحقيق أي انتصار ولو جزئي على
إسرائيل، حتى لو رغب، لأسباب موضوعية تتجاوز إمكانيات القطر السوري و
إمكانيات حكم البعث الفئوي و الغوغائي. تحقيق توازن عسكري جزئي مع إسرائيل
كان يقتضي الانخراط عملياً في حلف وارسو وهو ما لم يكن لا مسموحاً و لا
مقبولاً من الدول الكبرى.
ما دام الانتصار مستحيلاً بالنسبة له وفي
ظروفه، فلماذا لا يعيد “انتصار” عبد الناصر في 1956 و لماذا لا يفتح حرباً
محدودة مع العدو الإسرائيلي لا تكلف هذا الأخير شيئاً يذكر، لكنها سوف تكرس
أسطورة الأسد، بطل العروبة، حامي حمى الديار و القادر على رد العدوان
الإسرائيلي؟
لكي تكتمل الصورة، لماذا لا يكون الأسد المبادر إلى الهجوم
؟ هذا سيتكفل بمحو عار هزيمة 1967 و قد تكون له حسنات أخرى سيكتشفها الأسد
فيما بعد.
لكن، ماذا إذا قامت إسرائيل “بشرشحته” و ببهدلة جيشه العاجز
مرة أخرى ؟ ألا يجازف الأسد بفقد السلطة إن هو تهور وفعل ما لا يجوز فعله
أو تمادى في تصرفاته ؟ لا بد له إذاً من الاتصال مباشرة “بالعدو”
الإسرائيلي والتفاهم معه دون المرور بالدول الكبرى. صديقه، الملك الأردني،
الحسين بن طلال له علاقات واسعة مع هذا العدو فلم لا يستفيد الأسد من صلات
الملك الإسرائيلية ؟ ألم يقدم الأسد، بطريقة غير مباشرة، للملك حسين رأس
المقاومة الفلسطينية رغماً عن أنف “صلاح جديد” و زمرته ؟
إسرائيل ذاتها تعرف قيمة الأسد وخدماته منذ بلاغ سقوط الجولان و الانسحاب الكيفي، و عليها أن ترد الجميل يوماً ما.
في نفس الوقت، كان “ثورجي” آخر في القاهرة قد توصل لنفس الاستنتاج، ولكن
لتحقيق أهداف أخرى. أنور السادات وجد نفسه في مركب واحد مع صديقه اللدود
حافظ الأسد، حرب تشرين أصبحت لازمة للنظامين في دمشق والقاهرة.
أحمد الشامي. http://www.elaphblog.com/shamblog