لم
تقم الثورات في التاريخ، من أجل إزالة الأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية
فقط، وإنما كان هدفها أن تحقق إقامة المجتمع المدني، أساس وقاعدة
الديمقراطية الصحيحة والسليمة. ولنا من الثورة الإنجليزية (الثورة المجيدة)
(1658-1689)، والثورة الفرنسية عام 1789، والثورة الأمريكية عام 1776 ،
والثورة الروسية عام 1917 ، خير الأمثلة على ذلك.
دور المثقفينولم يكن الغوغاء، أو "ثوار الشارع" هم فقط من أشعلوا الثورات. فالثورة التي
تبدأ من الشارع، تنتهي إلى الشارع. ولكن لعب المثقفون دوراً كبيراً في كشف
مستور الدكتاتوريات، وفساد الأنظمة السياسية، وثمن الحكم الدكتاتوري
الغالي، الذي يدفعه المواطن من نفسه، ومن وأولاده، وأحفاده، وأولاد أحفاده،
وحاضره، ومستقبله، ولنا ما جرى في تونس، ومصر، وليبيا، وما يجري في اليمن،
وسوريا، خير دليل على ذلك.
ومن هنا، كان المثقفون الأحرار هم الجبهة القوية المساندة للثورات، وخط
الدفاع الأول والأطول عن الثورات. وعندما تخلى المثقفون الأحرار عن
الثورات، أصبحت الثورات مجرد انقلابات عسكرية، يستفيد منها من قام
بالانقلاب. بينما ليس شرطاً أن يستفيد الثوار من الثورات. وكثير من الثورات
استُغلت من قبل غير الثوار كالثورة الفرنسية، التي قام بها الشارع
الفرنسي، واعتلاها وقطف ثمارها الضابط نابليون بونابرت، فيما بعد.
واجب المثقفين العرب على المثقفين العرب، أن يكونوا شجعاناً مقدامين.
على المثقفين العرب، أن لا يركنوا إلى مدح القراء، فيما يقولون، وفيما يعلّقون.
على المثقفين العرب، أن لا يلتفتوا إلى شتائم الغوغاء، من الجهلة، والأغبياء، الذين لا يفكرون إلا بيومهم، وسلامتهم، ومعدتهم.
على المثقفين العرب، أن لا يمضغوا الكلام المعاد، والمعروف، والمعلوم.
على المثقفين العرب، أن لا يكون (كراكوزات) لتسلية القراء، وإضحاكهم، والترويح عنهم، بدل هذه المسلسلات التلفزيونية الغبية، المضجرة.
على المثقفين العرب، أن لا يخشوا الجوع، إذا تطلَّب الأمر أن يكشفوا المستور، ويفضحوا المُخبَّأ.
المثقفون والخيارات الصعبة
فالمثقفون في هذه الحالة،
أكثر أهمية من الجنود في أرض المعركة، فإما أن ينتصروا، وينصروا أهلهم،
ووطنهم، وإما أن يموتوا دفاعاً عن ذلك.
أما أن يتملقوا الأنظمة، ويداهنوا الحكام، ويرقصوا في الميادين كالقردة
والثعابين، فهذا لا يليق لا بالثقافة ولا بالمثقفين. وعليهم أن يكسروا
أقلامهم، وينصرفوا إلى سوق الخضار، لبيع الفجل والبصل، فذلك بهم ألطف، ولهم
أشرف.
لنكف عن الثرثرة الفارغة!99% مما يُكتب، ويقال اليوم في الإعلام العربي عن الثورة العربية، كلام مُعاد، وممجوج، لأرض محروثة حتى القاع.
والشطارة أن نحرث في الأرض البكر لزراعة الثورة، وليس في الأرض التي قلبتها (تراكتورات) الثوار، مئات المرات.
مأزق المثقفين الأحرارصحيح، أن الأرض الجديدة، ذات الثورة المحتملة مليئة بالصخور، والأشواك،
والألغام، والأسلاك الشائكة، والحراسة الشديدة، المدججة بأفتك أنواع
الأسلحة العصرية، إلا أن المثقفين في هذه الظروف الصعبة، مطالبون بأن
يتحوّلوا إلى طيور مُحلِّقة، وإلى طيور أسطورية، كطيور "الأبابيل" ترمي
السلطة الدكتاتورية الفاسدة، والسارقة، والناهبة، بحجارة من سجيل، وتجعلها
كعصف مأكول.
ولكن دور الأساطير انتهى – للأسف - في حضور العلم. ولم يبقَ من الأساطير
غير ذكراها، وقصِّها للأطفال في ليالي الشتاء الباردة، وهم تحت (الألحفة)
(جمع لِحاف) الثقيلة.
أنظمة دكتاتورية لا مثيل لهاعلى المثقفين العرب، أن يدركوا أن الأنظمة الدكتاتورية، التي يلوكون الآن
الكلام بشأنها، هي أفظع، وأقسى، وأحط أنظمة شهدها العصر الحديث في القرن
الماضي، وفي هذا القرن.
صحيح، أن التاريخ العربي، شهد نماذج رهيبة، لطغاة، وقساة الخلافة الإسلامية
(أنظر: كتاب "الطاغية"، لإمام عبد الفتاح إمام) ولكن ذلك كان من الماضي.
وصحيح، أن تاريخ الغرب، شهد نماذج فظيعة لطغاة وقساة من ملوك الحق الإلهي
(أنظر: كتاب "المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين"، لجورج قرم)، ولكن
ذلك كان في القرون الوسطى المظلمة.
أما بعد عصر الأنوار (القرن الثامن عشر) فقد رأي المواطن النور، وخشي
الحكام نور ونيران المواطنين، فاستقاموا وعدلوا، ومن لم يستقم ويعدل، كان
مصيره الثورة عليه والاختباء في الحُفر، أو أنفاق مياه المجاري ، أو دهن
يديه ووجهه بالزيت، للشفاء من حريق الثورة.
وعورة طريق المعارضة
أصبح طريق المعارضة صعب جداً في العالم العربي.
والمعارض الحر منا، سوف تتلقفه ذئاب وضباع كثيرة، لتنهش لحمه، و(تقرقش)
عظامه، لأن الأنظمة الدكتاتورية وصحبها، ينعمون بأموال، ومميزات،
وصولجانات، لا قِبلَ لحكام التاريخ الآخرين، وصحبهم بها.
وبالتالي، فإن مهمة المثقف الحر، تكاد تكون انتحارية. فالمتربصون به من
قراء وهميين، وحراس مقابر الأحياء من الممسكين بلجام الإعلام، وضباط
المخابرات في المطارات العربية، والواقفون في حلق المثقفين، يُعدون على
المثقفين الأحرار أنفاسهم، ويعلمونهم ما يجب وما لا يجب، وما يقال وما لا
يقال، وما الرذيلة والفضيلة السياسيتان، وحدود العيب في ذم الذات السياسية
العليّة.
ومن هنا، راح 99% من المثقفين يكتبون كلاماً معاداً وممجوجاً، لملء الفراغ
فقط، ولكنه لا يُفزع خمس دجاجات، ولا يهز ذنب كلب من الكلاب. وبات المثقف
أمام الثورة التي اشتعلت إما مطبلاً، وإما راقصاً في زفة الشارع، وبات أمام
الثورة التي لم تشتعل بعد، كـ (خيال المآته) لا يخيف حتى فراشات المساء!
السلام عليكم.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
إطبع
تعليقات القراء
9
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
كل التعليقات
الأفضل تصنيفًا
الأسوأ تصنيفًا
علمانيون في خدمة الاستبدادMurad-GMT 13:31:54 2011 السبت 10 ديسمبر
اغلب
المثقفين العلمانيين كانو ولا زالوا ا خدماً للاستبداد وخدموا ايضاً
امريكا واسرائيل وارشيفهم يشهد عليهم وحالياً وضعوا مواهبهم في مهاجمة
الانتخابات التي فاز بها الاسلاميون؟!!!!0 قيّم التعليق 0
إلى أحمد أبو مطررشيد-GMT 8:37:52 2011 السبت 10 ديسمبر
تقول
في تعليقك رقم 2 لشاكر النابلسي ( أؤيدك في الاستمرار والبدء بكشف المستور
لباقي الطغاة العرب)، هل ننتظر أن تكتب لنا في مقالك القادم موضوعا يتناول
واحدا من الطغاة في منطقتنا ممن لم تكتب عنهم لحد الساعة، أم أنك ستظل
تنتقل بنا في مقالاتك من بشار إلى نجاد ومنهما إلى نصرالله ثم تعود مجددا
إلى بشار، وهكذا دواليك؟ النابلسي تحاشى الرد على تعليقك، واضح أنه ضج
نهائيا منك، ومن مقالاتك الانتقائية وذات الازدواجية في المعايير. رغم
اختلافي مع النابلسي، فإن موقفه هذا يسجل لصالحه. إنه بموقفه هذا يقول إن
نقدنا المستمر لأنظمة قمعية معينة وسكوتنا عن أخرى بسبب الرقابة المفروضة
علينا، يؤدي إلى تزكية الأنظمة المسكوت عن قهرها للإنسان العربي. النابلسي
يقول إننا ككتاب نجاري بعض الأنظمة ما دمنا لا نملك الوسائل التي نفضحها
بها رغم أنها هي أيضا تضطهدنا وتضعنا في ذيل الأمم. إنه يدعونا للتفكير
والعمل من أجل الخروج من هذا الوضع غير السليم الذي نوجد فيه. الرجل تقدم
خطوة كبيرة إلى الأمام في كشفه لزيف الواقع العربي، بخلافك أنت يا أحمد
الذي تلعب لعبة طرف من النظام الرسمي العربي وتستطيبها منتشيا بتعليقات بعض
القراء البسطاء الذين تدغدغ عواطفهم بعبارات نارية فينهالون عليك مدحا
وإطراء..0 قيّم التعليق 0
مقال رائع وله حاجة في أيامنا !!عمار تميم-GMT 5:56:45 2011 السبت 10 ديسمبر
كل
الشكر والتقدير لك أستاذنا العزيز على هذا المقال الذي بنظري أكثر من رائع
ويمثل حاجة شديدة في أيامنا مع رؤية واضحة لما نقرأه ونشهده يومياً في
العديد من المواقع الإعلامية والإلكترونية تقع كلها تحت التوصيف الذي ذكرته
في هذا المقال الرائع ، سبق أن علقت أستاذنا العزيز أن مشكلة المثقفين جزء
من وهن الأمة وضعفها قد لايكون الجزء الأكبر ولكنهم - أي المثقفون -
بأفكارهم يرددون أفكار ليست لهم ولايقدمون حلولاً أو رؤى للواقع وقراءة
للمستقبل المنشود ، مرة أخرى الشكر الجزيل على هذا المقال الرائع .0 قيّم التعليق 0
إلى أحمد أبو مطرالهدهد الشامي-GMT 23:35:03 2011 الجمعة 9 ديسمبر
عندنا مثل بسورية بيقول: اللي فيه شوكة بتنغزه....0 قيّم التعليق 0
للتوضيح فقطمحمد لافي-GMT 20:19:38 2011 الجمعة 9 ديسمبر
السيد
النابلسي ماذا تقصد بمصطلح (مثقف) في عالمنا العربي؟ هل تقصد الكتاب كغيرك
من الكتاب؟ هل أصبحت الثقافة حكرا على من سنحت لهم الفرصة للكتابة ونشر
افكارهم عبر الفضائيات و الانترنت و الجرائد؟ هل تدعي بأن وقود ثورات
الربيع العربي حصيلة آراء و افكار (المثقفين) التي تراكمت منذ زمن طويل؟هل
إختصرت كلمة الثقافة ومفهومها بالتعاطي مع السياسة؟ أي هل أصبحت السياسة و
التحدث فيها حكرا على المثقفين ؟ برأيي فإننا ونحن نعيش في القرن الحادي و
العشرين فإن من حق المواطن (العربي) البسيط -أي مواطن- التحدث و التعاطي مع
السياسة أتدري لماذا؟ لأننا في منطقتنا العربية نتنفس سياسة ونأكل سياسة
ونشرب سياسة ونلبس سياسة....لأن همومنا الوطنية و القومية مشتعلة وتمس جميع
شرائح مجتمعاتنا(الخباز,الحلاق،التاجر،الصحفي،،،الخ)أتمنى من كل قلبي أن
يأتي يوم نثق فيه بأصحاب السياسة لدينا لنترك السياسة لأهلها كما هو الحال
لدى الشعب الأمريكي و الاسرائيلي للأسف الشديد0 قيّم التعليق 0
أحمد أبو مطرالشافي-GMT 12:01:25 2011 الجمعة 9 ديسمبر
أدركت
أنك واحد من المقصودين بمقال شاكر النابلسي. الانطباع الذي تكون لدي وأنا
أقرأ مقال النابلسي أنك ربما الوحيد المقصود به. أنا أتكلم عن الاستنتاج
الذي خرجت به دون أن يعني ذلك أنني ألزم الكاتب به. لقد استنتجت أن
النابلسي ضجر من نفسه ومن مقالاته ومن مقالات أبو مطر التي تعيد كتابة نفس
الأشياء حول ذات الدول دون الاقتراب من أخرى، فعبر عن ضجره من ذلك في هذا
المقال. هذا أقل ما يمكن للرجل أن يفعله، إنه لا يوهم القراء ببطولات فارغة
من خلال طحنه لأنظمة معينة وسكوته عن أخرى. إنه بطريقة من الطرق يعتذر من
قرائه لأنه لا يستطيع أن يصارحهم بكل ما يريد قوله لأنه خاضع لسلطة
الرقيب..0 قيّم التعليق 0
الست واحد منهممحمد-GMT 9:20:10 2011 الجمعة 9 ديسمبر
الست انت احد المثقفين الذين يطلبون للأنظمة الشمولية مقالاتك متوافرة على شبك الانترنت0 قيّم التعليق 0
يا صديقي الشاكرالقارىء أحمد أبو مطر-GMT 8:49:07 2011 الجمعة 9 ديسمبر
صديقي
الدكتور شاكر النابلسي حفظه الله وأطال عمره وأسنان قلمه..أؤيدك في كل
أفكار مقالاتك، وفقط لي سؤال بريء، وهو حول قولك:(
99% مما يُكتب، ويقال اليوم في الإعلام العربي عن الثورة العربية، كلام
مُعاد، وممجوج، لأرض محروثة حتى القاع).هل أفهم من قولك أن نوقف كتاباتنا
عن ماضي الطغاة الذين سقطوا؟.أنا أرى أنّ الاستمرار في كشف فسادهم وطغيانهم
وقتلهم، فيه تحريض للشعوب التي لم تبدأ ثوراتها بعد،فما هو رأيك وأنت تعرف
أنّ العديد من الكتاب والمثقفين العرب، بدأوا من سنوات طويلة الكتابة عن
بعض هؤلاء الطغاة قبل سقوطهم، وكان هذا تحريضا للشعوب كما قلت في
مقالتك..أؤيدك في الاستمرار والبدء بكشف المستور لباقي الطغاة
العرب..والسلام لك وعليك، راجيا أن يصل سلامي دافئا كما أريد، لأنني أرسله
من وسط ثلوج أوسلو وبردها، خاصة نحن بدو بير السبع النرويجيين، نستعد
لاحتفالات الكريسماس مع زوجاتنا النرويجيات الشقراوات، هداهن الله لطريق
الإيمان..وكل أيامك والشعوب العربية بخير ودافئة بدون طغاة ومستبدين ،نهبوا
البلاد والعباد.0 قيّم التعليق 0
شكراً للدكتور شاكر النابلسي مع الف تحية .أبـو عـلـي-GMT 8:48:43 2011 الجمعة 9 ديسمبر
الدكتور
شاكر النابلسي كعادته اللطيفة يُتحف القاريء الكريم في مختلف مقالاته
بصراحته المعهودة وبوعيه الكبير وثقافته الواسعة اللامحدودة ، وينير
الطريق بوعيه وثقافته الثورية الهادئة للمثقفين وغير المثقفين . وفي نفس
الوقت يشدّ من عضد المثقفين الذين تهمهم مصالح شعوبهم قبل مصالحهم
الشخصية والخاصة بهم ، ومع أنهم قِلّة إلا أنهم موجودون في مختلف الساحات
ولهم صولات وجولات في كل زمانٍ ومكان وفي شتى مواقع الحراك . ولكن
الكارثة المرئية أحيانا والغير مرئيّة أحياناً أخرى أن البعض من المثقفين
العرب يعملون جاهدون على الأختباء وراء الكلمات والجمل الطنانة والرنانة
التي تُوهم البعض في كتاباتهم بأنهم مثقفون ثوريون على عكس حقيقتهم التي
تقول انهم انتهازيون ونفعييون ومتسلقون ووصوليون غايتهم الوصول الى مصادر
المال والجاه والثروة والسلطة . وهذا ما شاهدناه بالحس الملموس من بعضهم
في ثورات الربيع العربي وخاصة في ثورات الشباب في كل من مصر وتونس والى حد
ما في اليمن وليبيا وسوريا ومن مرتزقة لبنان أيضاً. شكراً للدكتور شاكر
ويعطيك الف عافية .