بقلم: أبو ياسر السوري-
بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي ، تأسستِ الجامعةُ العربية ، وكان
الغَرَضُ الظاهرُ من تأسيسها تحقيقَ طموحات الشعوب العربية ، في الوحدة
والحرية والحياة الكريمة ، والدفاعَ عنها من كل ما يتهددها من أخطار محلية
أو خارجية … وقد مر على تأسيسها 67 سنة ولم تتحقق طموحات شعوبها في الوحدة
والحرية والكرامة .. وباختصار : لم يكن لهذه الجامعة التعيسة أي موقف
تُحمَدُ عليه .
-
ثم جاء الربيع العربي ، ومرتْ رياحُه الثورية بالجماهيرية الليبية ، وأول
ما قام الحراك قام في بنغازي ، فجن جنون القذافي ، وسير إليها قوة من
الدبابات وراجمات الصواريخ وعربات الجند ، وأعلن أنه سيقصفها بالطيران
الحربي ، ويمحو أثرها من الوجود .. واتجهت هذه القوات نحو بنغازي ، وبدا
للدول العربية أن القذافي سينفذ تهديده ، ويهدم تلك المدينة على رؤوس
ساكنيها ، فتحركت الجامعة العربية على وجه السرعة القصوى ، وبكل عزم وتصميم
، وأدى حراكها إلى تدخل سريع من الناتو ، الذي قام بتدمير هذه القوات ،
والحيلولة بينها وبين ما تريد …
ولأول مرة ، ومنذ بضع وستين عاما ، يشعر العربُ أن جامعتهم قامت بعمل مشرف ،
حيث أطاحت بحكم زعيم عربي ، هو ( القذافي ) ومنعتْه من الإقدام على قتل
شعبه . وهذه سابقة لم يعرف لها مثيل في تاريخ الجامعة العربية .
-
فما الذي دها هذه الجامعة حيال الشأن السوري ؟ فجعلها تغمض أعينها ، وتصم
آذانها ، وتواصل صمتها عما يجري في سوريا أكثر من خمسة أشهر ؟؟ فلم يكن
الحراك السوري مسلحا ، فتعذر هذه الجامعة بعدم تدخلها بشأن دولة عضو فيها ،
تضرب على يد مشاغبين لديها ..! ولم يطالب الثوار بشيء يمس بكرامة الدولة
وهيبتها ، فتوافق الجامعة على تأديب الخارجين عليها .!! لم يكن هنالك سوى
المطالبة بالحرية والكرامة وإنهاء الفساد والاستبداد … فلماذا يقمع الشعب
بكل هذه الوحشية ؟ لماذا تستنفر له الفرق العسكرية بكامل عتادها وسلاحها ؟
لماذا يقصف بالدبابات والمدفعية والطائرات ؟ لماذا تهدم عليه المنازل ،
وتحرق محاله التجارية ؟ لماذا تغتصب فيه الحرائر ؟ لماذا يمثل بقتلاه ؟
لماذا يجهز على جرحاه ؟ لماذا يعتقل رجاله وأطفاله ونساؤه ، ويتعرضون لأقسى
أنواع العذاب ؟ لماذا يدعس على وجوههم ورؤوسهم ، ويبالُ عليهم في الساحات
العامة ، ويصفي بعضهم جسديا ، ثم يرد إلى أهله وقد مثل به ، بقلع العيون ،
وبقر البطون ، وقطع الأعضاء التناسلية ، وذبح المعتقل من الوريد إلى الوريد
.. ؟
-
لقد ارتكب الأسد جرائم ضجت لهولها شعوب الأرض كلها ، ما عدا الجامعة
العربية ، التي تمسكت بصمت سكان القبور . ولكأني بها ندمت على ما فعلت
بالقذافي ، فقررت أن تطلق يد الأسد ليفعل بشعبه ما يريد .؟ ولعل دول
الجامعة العربية لم تعد مقتنعة بالوقوف مع الشعوب ضد حكامها الظلمة
المستبدين . لذلك قررت أن لا تتدخل لإنهاء الصراع في سوريا ، وإنما لإدارته
، ولو أرادت يومها إنهاء الصراع حقاً لسلكتْ نفس النهج الذي سلكته في
ليبيا ، ولأسقطت الأسدَ كما أسقطتِ القذافيَّ من قبل . ولكنها لم تفعل ،
ولم ترغب في هذا السيناريو مرة ثانية . وإنما كانت ترغب في السيناريو
اليمني .. وفات الجامعة العربية أن الأسد لم يترك للصلح موضعا ، فقد كان
عدد الضحايا السوريين آنذاك ، قد تجاوز 4800 شهيد ، وكان عدد المشردين قد
بلغ المائة ألف . وعدد المفقودين عشرة آلاف ، وعدد المعتقلين أكثر من
ثمانين ألفا .
ومع ذلك ، ظلت الجامعة وأمينها العربي يدفعون في اتجاه السيناريو اليمني ،
حتى استصدروا مبادرتهم المعروفة ، ثم عدلوا عنها إلى بروتوكول ، وإرسال
مراقبين ، ثم عدلوا عن ذلك كله وقاموا برفع الملف إلى مجلس الأمن … ثم كان
الفيتو المزدوج من روسيا والصين .. ثم رفع الملف إلى الجمعية العمومية ، ثم
إلى مجلس الأمن ، وعطل هنالك أيضا … واستغرقت هذه التحركات شهورا ، وكان
القتل أثناءها قائما على قدم وساق ، بل كانت تشتد وتيرته عند كل حراك جديد ،
ويتضاعف عدد القتلى يوما بعد يوم .
وكان الشعب السوري يطلب النجدة من الأسرة الدولية ، وأمين الجامعة يقف له
بالمرصاد ، فيصر على إطلاق التصريح المتتالية بأن الجامعة العربية لا تسمح
بأي تدخل عسكري في الشأن السوري . كما يصر على ضرورة الحل السلمي والحوار
بين القيادة والشعب .. وهذا الطرح الذي يتبناه نبيل العربي والجامعة من
ورائه ، لم يعد يومها مقبولا لدى السوريين ، لأن الخرق قد اتسع على الراقع .
ولأن الحوار تحت فوهات المدافع والدبابات والمروحيات يعني الاستسلام ،
ولأن الاستسلام يعني أن ينسى الشعب كل ضحاياه ، وكل إهاناته ، ثم يطلب
المغفرة من بشار الأسد .. وبهذا كان العربي يطلب المستحيل من السوريين وهو
لا يدري ، وكان عليه أن يفهم : أن الشعب حسم أمره ، فقال ( الموت ولا
المذلة ) .
-
لقد أساءت الجامعةُ العربية إلينا إساءة لن يغفرها السوريون ، فحين تراخى
العربُ في حل قضيتنا، تبعهم المجتمع الدولي فكفَّ يده عن مساعدتنا ،
وأعلنتْ أمريكا وقواتُ الناتو أنهم لن يتدخلوا عسكريا في الشأن السوري إلا
بناء على قرار من الجامعة العربية .. وهذا ما أغرى النظام بارتكاب المجازر
فينا ، فصار يقتل في كل يوم أضعاف ما كان يقتل من قبل . ونتج عن هذا الموقف
الذي وقفته الجامعة العربية منا ، أن دمرت سوريا تدميرا لن تقوم لها قائمة
بعده إلا بعد عشرات السنين .
يقولون : إن تدخل الناتو في ليبيا كلفها ، خمسين ألف شهيد ، وكلفها دمار
الدولة ، والجامعة لا تريد تدمير سوريا ، ولا توافق أن يقتل منها خمسون
ألفا بتدخل الناتو ..!؟ ونحن نقول لهؤلاء المتواطئين مع الشيطان ضدنا : لقد
تجاوز عدد الضحايا في سوريا على مائة ألف شهيد حتى الآن ، وأنا مسؤول عن
هذا العدد ، ولسوف تكشف الأيام صدق ما أقول . ثم إن بشار الأسد قد وقع عقدا
مع إسرائيل أن يدمر سوريا قبل رحيله عنها .. وهذا ما يقوم به الآن . فقد
هدم درعا وحمص وحماة وجبل الزاوية وإدلب وجسر الشغور ، وريف دمشق ، وريف
حلب ، ودير الزور .. ولم يترك مدينة ولا قرية إلا هدم فيها بيوتا وأحرق
فيها بشرا ومزارع وحيوانات . وضرب البنية التحتية كلها ، وسرق أموال الدولة
وهربها إلى الخارج ، وسرق الذهب من البنك المركزي ، وأودعه في روسيا …
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل هنالك خراب أكبر من هذا الخراب ..!؟؟
-
يا أيتها الجامعة العربية ، إننا برآء منك وممن تمثلين ، ولن يشرف السوريين
أن ينتسبوا إليك بعد اليوم … ويا أيتها المنظمات الدولية ، كفاكم كذبا
ونفاقا ، فأنتم تدعون المحافظة على حقوق الإنسان ، وأنتم أعدى أعداء
الإنسان . لقد أصبحت منظماتكم الأممية ، وسائل لاستعباد الأمم والشعوب .
وإنه لا يشرفنا ولا يشرف أحدا من أحرار العالم ، أن ينتسب إلى أيٍّ منكنَّ
بعد اليوم .. وكما سَقَطَتْ عُصْبَةُ الأممِ من قبلُ ستَسقُطُون . وكما
لعنتها الشعوبُ ستُلْعَنُون .