ومن الإيمان ما قتل!
لم تُسلب من المسيحيين العراقيين مواطنتهم فحسب بل تمّت تصفية الآلاف منهم
وتهجيرهم . والذين لم يغادروا أو لم تطالهم يد الجهاد بعد، يطلب منهم رجال
دينهم الاحتفال بأعيادهم في الكتمان خوفا من إثارة مشاعر جيرانهم
المسلمين. لقد تمّ الاعتداء على عشرات دور العبادة وأزهقت عشرات من أرواح
الموحّدين من غير المسلمين.
في السودان، ولئن يتمتّع أهل الجنوب نظريا بنعمة الانفلات من أحكام
الشريعة المفروضة على إخوانهم في الشمال، فإنّ العنف الجهادي ّيلاحقهم حتى
الديار، لا لشيء سوى أنهم مسيحيون أو إحيائيون. وتتّهم عديد الشهادات
النظام السوداني في تدبير أو مباركة كثير من الاعتداءات التي يذهب ضحيتها
مواطنون سودانيون غير مُحمّديين.
وفي مصر يتعرّض الأقباط يوميا لاعتداءات جسدية ومعنوية ومعابدهم ومتاجرهم
وزرعهم إلى الحرق والهدم، إلى حدّ أنّ بعضهم أصبح يصف الأمر بأنّه ''مجزرة
ثقافية" فعلية. أمّا تقرير حقوق الإنسان 2009الصادربالقاهرة ذاتها فتصف
صفحته الــ118 الوضع هكذا : "وفي ظلّ تنامى معالم 'الدولة الدينية'، وذلك
من خلال توظيف الدين بكثافة أكبر في إدارة دولاب الدولة، صار ممكنا أن يضاف
لمهمات وزارة الداخلية مطاردة الأقباط الذين يصلّون في منازلهم نظرا لعدم
السماح لهم بإقامة كنائس للتعبد فيها. وتعقّب المفطرين علنا في نهار شهر
"رمضان"! وأن يستخدم قانون الطوارئ لتعقّب ما يسمّى بــ 'منكري السنة
النبوية'! وملاحقة مئات من معتنقي المذهب الشيعي تحت مظلة من التحريض
الإعلامي ضدّ الشيعة. وأن ينعكس ذلك في النهاية في البرلمان، حيث يطالب
نواب في الحزب الوطني الحاكم، بإصدار تشريعات تجرّم 'البهائية'! وتعاقب
المفطرين علنا في شهر رمضان!
ويكتب معدّو التقرير "في هذا السياق، تتفاقم مظاهر العنف الطائفي بين
المسلمين والأقباط، ويتّسع نطاقها الجغرافي، لتشمل عشر محافظات، كما تعرض
البهائيون لاعتداءات بدنية غير مسبوقة من مسلمين". ولا يتوانى التقرير في
إدانة تواطؤ أجهزة البوليس المصرية ذاتها بل وقيامها بالاعتداءات (ص134)
ولا يجد كبير فرق بين الشرطة الدينية في المملكة العربية السعودية والشرطة
المصرية التي تلقي القبض على المواطنين، لا لشيء سوى أنهم يتناولون طعاما
أو شرابا أو يدخنون علنا في نهار رمضان!
في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، الدولة المدنية رسميا والتي
يحمي دستورها حرية المعتقد ولا يجرّم قانونها الإفطار في رمضان، يطارد
المفطرون كالمجرمين ويحاكمون بتهمة 'التعريض بالإسلام و مبادئه' التي تكلّف
المتّهم من 3 إلى 5 سنوات سجنا حسب المادة 144-2-2 من قانون العقوبات!
فتَحت غطاء "الدفاع عن ثوابت الأمة الدينية' تمكنت جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين (علم إيه!) وغيرها من التجمعات المتكاثرة والجارية في ركبها -
والتي تدعو وتعمل سرّا وعلانية لإقامة الدولة الإسلامية - من فرض ثقافة
أصولية معادية للدولة المدنية العلمانية التي تتعايش فيها كل العقائد، وهي
تحقق اليوم بأموال الشعب ما عجزت عن تحقيقه جبهة الإنقاذ بقوّة السلاح إذ
أقنعت السلطة بأسلمة مظاهر الحياة العامة ومطاردة من يشتبه في تنّصّرهم ومن
يعتقد أنهم يمارسون التبشير المسيحي.. (أنظر مقال"اللامسلمون في الجزائر: المسجد أو السجن؟" المنشور في الأوان)
ولئن كان الدستور الجزائري ينص على حرية العقيدة، فمادّته الثانية
المؤكّدة على أنّ الإسلام دين الدولة، تنسف كل شيء وتقصي من لم يكن مسلما!
والأكثر من ذلك فأمام تحوّل كمشة من الجزائريين إلى المسيحية، أمضى رئيس
الجمهورية الجزائرية عبد العزيز بوتفليقة ذاته مرسوما سنة 2006 يجرّم كل
إنسان يحثّ أو يرغم أو يستعمل وسائل تهدف إلى تحويل المسلم إلى دين آخر غير
الإسلام. ويهدّد المرسوم أيّ شخص يروّج لمعتقدات غير الإسلام بعقوبة سجن
تتراوح من شهرين إلى ستة أشهر نافذة كما يلزم الأقلّيات الدينية بممارسة
شعائرها في أماكن محدّدة ترخّص لها السلطة مسبّقا. نقرأ ما يلي في التقرير
المذكور سابقا : "وقد شهدت منطقة بريان بولاية 'غرداية ' جنوب الجزائر خلال
أبريل ومايو 2009، اشتباكات فيما بين الأقلية الأمازيغية ممن يعتنقون
المذهب الإباضي مع سائر المواطنين الذين يعتنقون المذهب المالكي، وأفضت
الاشتباكات إلى مصرع أربعة أشخاص وجرح عشرات آخرين، و تخريب بعض المنشآت
الحكومية. وقد اندلعت هذه الاشتباكات على خلفية مطالبة مجموعة من مواطني
"غرداية "، رئيس الجمهورية بالاعتراف بالمذهب الإباضي". ومن جهة أخرى قامت
السلطات بالقبض على بعض المسلمين المفطرين في رمضان دون سند من القانون
الجزائري (ص156) وهو ما يحدث في المغرب أيضا إذ تصدّت قوى البوليس بالقوة
للاحتجاجات على قانون يعاقب المجاهرين بالإفطار في رمضان وقد تم القبض على
أربعة أشخاص ومنع آخرين من السفر في سبتمبر 2009 كانوا قد خططوا عن طريق
شبكة الفايس بوك للخروج في نزهة خلوية لإحدى الغابات كنوع من الإحتجاج على
هذا القانون الجنائي المعاقب للمفطرين المسلمين بالحبس من شهر إلى ستة
أشهر(169).
وفي تونس التي كانت جنّة المفطرين العرب بدأ الجوّ يترمضن شيئا فشيئا
ويفقد حياديته وأصبح ينظر إلى الفاطر فيها بعين مشمئزّة لا ترى فيه سوى
المروق والكفر. من العلنية يكاد الإفطار أن يتحوّل إلى سلوك شبه سرّيّ،
بعدما أصبحت المقاهي والمطاعم تطلق النقاب على واجهاتها خوفا من الإساءة
إلى عموم الصائمين! (انظر التحقيق الرائع في الأوان :
"الفاطرون' في رمضان هل ينقرضون؟"
للكاتب حسن بن عثمان ) وبخصوص مملكة البحرين نقرأ في التقرير عنوانا دالا
لا يستدعي تعليقا هو : 'البحرين ، تمييز منهجيّ ضدّ الشيعة لتكريس حكم
الأقلية السنية'.
وفي الكويت هيمن الاتجاه الأصولي على وزارة التربية، وبذلك أصبح من النادر
أن نجد بين مدرسي الكويت ومدرساته المعارين من الدول العربية مدرّسين
ومدرّسات مسيحيين كما كان الحال في السابق.
هل ما زالت دولة واحدة مدنيّــة في المنطقة العربية؟ تلك بلدان على سبيل
المثال لا الحصر، أمثلة ضربناها للإشارة بسرعة إلى الردّة الحقوقية الظاهرة
للعيان ولا يعني أنّ الدول غير المذكورة هي في وضع أحسن، فلا وجود للحرية
الدينية أصلا في السعودية غير المذكورة، فالإسلام هو دين الدولة السعودية
وعلى كل المواطنين أن يكونوا من المسلمين. وعموما لا تخلو مكتبة في العالم
العربي من كتب تنتقد النصارى وتصف دينهم بالمحرّف وتدعو صراحة إلى
أسلمتهم.. وتفرض دراسة الإسلام على جميع الطلبة في المدارس بصرف النظر عما
إذا كانوا مسلمين..
تشير دلائل متعددة في كثير من الدول العربية إلى تزاوج محتمل بين الدولة
البوليسية والدينية. ففي شبه البرلمانات العربية قوى دينية رجعية لا تملّ
ولا تكلّ من المطالبة بتطبيق الشريعة كاملة ضاربة عرض الحائط بأدنى حقوق
المواطنين غير المؤمنين بالشريعة التي يعمل أصحابها على أسلمة المسيحيين،
ولكن في المقابل يمنعون على المسيحيين ليس حقّ الهداية إلى طريق عيسى بن
مريم، بل حتى إلى إظهار إيمانهم بالتثليث إذ لا تقرع أجراس الكنائس خوفا من
أن تشكّل استفزازا للمسلمين في ديارهم!
عن أبي هريرة قال النبي "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله،
فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني دماءه وماله .." (صحيح البخاري 2983)
هكذا يخطب الأئمة في المساجد ولا تكاد تمرّ صلاة جمعة أو مناسبة دينية دون
أن يسمع مرتادو المساجد خطبا نارية مناوئة للمسيحيين واليهود وغير
المؤمنين. هكذا يتعلّم الناس معاداة العقائد الأخرى في المساجد. لو أجرينا
استفتاء بين الشعب المصري أو الجزائري أو غيرهما حول سؤال واحد: هل توافق
على منع بناء الكنائس في بلدك؟ فأكثر من تسعين في المائة سيوافقون على منع
بناء الكنائس."
وكثيرا ما يتهم في دول السنة كل من تشيّع أو حاول التشيّع ويسجن بتهمة
'اعتناق أفكار متطرفة مخالفة لصحيح الإسلام' أو 'ازدراء الدين الإسلامي'،
وتشهر في وجهه بطاقة الحسبة المعنوية أو القضائية. وسيعاني أهل السنة نفس
الإقصاء لو أصبحوا أقلية كما في إيران .. وفي حالة توازن ديمغرافي تشتعل
الحرب المذهبية حتما إذا لم يمرّ المجتمع إلى مرحلة الدولة المدنية وهو ما
بدأ يقتنع به العراقيون شيعة وسنة بعدما حرقتهم نار التدين السياسي
والتمذهب.
لماذا وما العمل؟ التبجّح بتسامح الإسلام شيء والواقع الذي يعيشه غير المسلمين في أرض
الإسلام شيء آخر تماما كما رأينا، إذ لا أحد يستطيع اليوم ستر الإقصاء الذي
يتعرض له أتباع السيد عيسى بن مريم في كثير من الدول التي تنتهج الطريقة
المحمدية. لم يبق للمسيحيين في الأغلب الأعم سوى خيارين لا ثالث لهما: قبول
الذمة السرية صاغرين أو الهجرة خارج الديار مضطرين". "قاتلوا الذين لا
يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين
الحق ممن أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (سورة التوبة29)
هكذا تقول كتب التربية الدينية!
يمكن ربط هذه الردّة الحضارية بتنازلات السلطات القائمة للحركات الدينية
الراديكالية، في محاولة لتحجيمها والاستئثار بقواعدها الجماهيرية طمعا في
أيقاف زحفها نحو السلطة. في ظل هذه الأنظمة الباحثة عن شرعية مفقودة والتي
تواجه تحدّي الأصولية الإسلامية، يزداد التوظيف الرسمي للدين ومغازلة
الثقافة الدينية الأكثر تخلّفا بل أدمج الخطاب الأصولي ضمن الخطاب الرسمي
للدولة.
أمام هذا الوضع الغريب عن العالم المعاصر لا حل لتحقيق حرية الإنسان سوى
فصل الدين عن الدولة (أعتذر للذين لا يستسيغون هذه العبارة) وهو الشرط
الوحيد الذي يضمن حيادها ولتكفّ عن فرض الإسلام بالقوّة. ولا مهمة حقيقية
للمثقف العربي في الوقت الراهن غير المطالبة بإلغاء مادة : 'دين الدولة
الإسلام' من شبه دساتير البلاد العربية، لأنها بكل بساطة عنصرية ومضادة
لحقوق الإنسان وتمييز رسمي على أساس الدين.
لا ينبغي أن يؤخذ ما يبدو طبيعيا على أنه كذلك، كما يقول بريخت.