الطهرانيّة المريبة هي تلك التي كسّر من أجلها محامون مصريون قيودهم
ليتمكّنوا من إقصاء شهرزاد و سجنها في محجر المصابين بالجذام.
ومحجر الجذام العربي الإسلامي كان يمكن أن يشكّل كنزا معرفيّا لـ"ميشال
فوكو" في حفريّاته وبحوثه حول المراقبة والعقاب. وهو محجر مليء بالكتابات
"المنجوسة" بدءا من كتب ابن رشد وانتهاء بأغنية مرسال خليفة عن قصيد لمحمود
درويش : "أنا يوسف يا أبي" وقد اتهم صاحبها بتلحين القرآن.
غير أنّ أصحاب الكمّامات الذين وسّموا مجموعتهم بـ"رابطة محامين بلا قيود"
وقدّموا قضيّة حسبة ضدّ كتاب "ألف ليلة وليلة" طالبوا بموجبها بمصادرته
وحبس ناشريه بتهمة "خدش الحياء العامّ" وترويج "عبارات جنسية داعية إلى
الفجور والفسق"( 1)، لن يفلحوا في إخراس شهرزاد وإن نجحوا في قضيّتهم.
فـ"الليالي العربيّة"، كما سمّاها الأوربيون الذين تبّنوها منذ أكثر من
قرنين، هو العمل العربيّ الوحيد الذي وصل إلى مرتبة العالمية فلم يعد ملكا
للثقافة العربية بل ملكا مشاعا للإنسانيّة، وفيها من يحرصون أكثر منّا على
الحفاظ عليه خاصّة أنّ روائيّا بحجم شكسبير اقتبس منه لكتابة مسرحيّته
"العبرة بالنهاية".
وفي مصر ذاتها تعرّض كتاب "الليالي" إلى القمع أكثر من مرّة. فقد سبق وأن
شهد الكتاب حملة مشابهة في الثمانينات وأقيمت من أجله محرقة، ولكنّه قام من
رماده بعد أن أعادت هيئة قصور الثقافة بمصر طباعته. ونفدت النسخ فور عرضها
في الأسواق، وهو ما أثار حفيظة حرّاس الأخلاق في مصر. والكتاب ممنوع في
نسخته الأصليّة التي صدرت سنة 1935 عن مطبعة بولاق المصرية، وهو ممنوع في
عديد الدول العربية وممنوع بكلّ أشكاله في السعودية.
فما بال العرب والمسلمين لا يحرصون على شيء قدر حرصهم على النقاء
الأخلاقي؟ هل لأنهم يفتقدون هذا النقاء في مختلف أوجه حياتهم من سياسة
واقتصاد وعلم، ناهيك عن تدنيس أراضيهم بفعل الاحتلال المستمرّ؟
وما بالهم يحرصون كلّ هذا الحرص على جرجرة الناس إلى الجنّة بالسلاسل؟ هل
تنغّص عليهم إلى هذا الحدّ فكرة خضوع أبناء عشيرتهم إلى عذاب النار وهم
يستمتعون وحدهم بنعيم الجنة، وهم الذين لا يتردّدون في ذبح شقيقاتهم وحتى
أمّهاتهم بتهمة الحبّ؟
فمنذ طبعتها الأولى شُذّبت "ألف ليلة و ليلة" وهُذّبت وخُفّض حجمها لكي
تتلاءم مع طهرانيّة العرب المفرطة وحيائهم الملائكي. وقد وصل الهوس
بالرذيلة أو بالفضيلة لدى الساعين إلى إرساء دولة إسلاميّة نقيّة حدّ تدشين
سلطتهم بتحطيم المنحوتات الأثريّة مثل ما فعلت جماعة طالبان بتماثيل بوذا،
والجبهة الإسلاميّة للإنقاذ في الجزائر بستر التماثيل بأسمال بالية قبل
هدم ما تراه خادشا للحياء فيها، ومنظّمة حماس التي ارتأت حال وصولها إلى
السلطة مقاومة الأدب "الخادش للحياء". فمنعت كتابا للأطفال عنوانه "قول يا
طير" وهو عبارة عن تسجيل لحكايات كانت ترويها الجدّات الفلسطينيات
لأحفادهنّ. وقد وصف الاتّحاد العام للكتاب الفلسطينيين هذا القرار
"بالسابقة الخطيرة التي تنمّ عن جهل فاضح لقيمة التراث (…) الذي لا يتردّد
الاحتلال في سرقته". (2) فهو إذن قرار يدعّم الممارسات الصهيونيّة. هكذا
يكون حال الذي يخضع الأدب والإبداع إلى رؤيته الدينيّة. ألم يطالب النائب
"الإخواني" المصري جمال حشمت المبدعين بأن "يضعوا القرآن أمامهم وهم
يبدعون" ؟ ونظرا لصعوبة تطبيق هذا الطلب الذي يفرض زرع محكمة تفتيش في عقل
كلّ كاتب، قرّرت الحكومة المصريّة سنة 2004، منح تفويض إلى مجمع البحوث
الإسلامية التابع للأزهر لممارسة الضبطية القضائية. وأصبح للأزهر رسميّا
الحقّ في أن يصادر فوراً أيّ كتاب يرى فيه تعدّياً على «المعلوم من الدين
بالضرورة».
ومنذ ذلك الوقت نقرأ في إحدى التعليمات المنشورة في الموقع الإلكتروني
لمعرض القاهرة للكتاب ما يلي : "إلى السادة العارضين : نحيط علم سيادتكم
بأنّ إدارة المعارض لا تمارس أيّ نوع من الرقابة على المعروضات إلا أنه لا
بدّ من مراعاة المبادئ التي يفرضها القانون والأخلاق (… ) في حالة رغبتكم
في عرض أو بيع أيّ كتب أو مطبوعات دينية تتعلق بالعقيدة الإسلامية، يرجى
موافاتنا ببيان تفصيلي عن هذه الكتب والمطبوعات لعرضها على الأزهر الشريف
لأخذ موافقته عليها مسبقا". (3)
أي أنّ الملّفات المستراب في أمرها تمرّ على المفتي مثلما تحال ملفّات أحكام الإعدام عليه.
أما التلفزيون المصري الرسمي فهو يقوم منذ سنوات بممارسة الرقابة على
أفلام ومسرحيات من الخمسينات والستينات بدعوى أنّ إنتاج تلك الفترة كان
متحرّرا من الرقابة وأنّه يبثّ أفكارا ومشاهد لا يرتضيها الذوق العامّ،
والحقيقة أنّ العيب ليس في انفلات الرقابة في منتصف القرن الماضي بل
في الذوق العامّ الجديد الذي صنّع لإرضاء المعايير المتشدّدة للمتطرفين.
إنّ حدث التشنيع بأثر أدبيّ أمرٌ تقليديٌّ يدخل ضمن الصراع الدائم بين
أحكام القيمة وأحكام الواقع، أي بين المعايير وطبيعة الأشياء. وهو يحصل في
كلّ الأزمنة والمجتمعات، غير أنّ مجتمعاتنا اليوم تعتقد أكثر من أيّ وقت
مضى بأنّها تملك الحقيقة وتعمل جاهدة أكثر من أيّ وقت مضى لبلوغ الكمال، أي
المطلق، وهو ما لا يمكن إدراكه. ولا وجود للمطلق أصلا خاصّة في مجال
الأخلاق. فلننظر في السلوك الأكثر وحشيّة الذي اتفقت كلّ الثقافات على
إدانته وهو القتل عمدا وببرودة دم. كلّ ما استطاعت الإنسانية فعله لمقاومة
هذا الشرّ المطلق هو تفويض المؤسّسة الحاكمة للأخذ بثأر القتيل، أي القيام
بنفس السلوك عمدا وبسابق إضمار وبرودة دم والإعلان عن تنفيذه مسبقا، أي أنّ
المجتمع قابل شرّا مطلقا بشرّ مطلق، ولكنّه حرص على إلباسه حلّة الشرعيّة
بتنفيذه على يد شخصيّة اعتباريّة مجرّدة أعطاها الحقّ في احتكار وسائل
العنف، إنها في النهاية عملية تحويل فعل مذموم في المطلق إلى فعل محمود، أي
أنّ أكثر ما يمكن أن نعتبره مطلقا يظلّ في الحقيقة نسبيّا. إنّه النفاق
البريء مجسّدا.
ثمّ إنّ مسألة اعتبار إنتاج أدبيّ لا أخلاقيّا فيه نظر بالنسبة لتوصيف
القيمة الأخلاقية التي تمّ بموجبها إصدار الحكم. فهل يمكن أصلا إدراج
الإبداع في المجال الأخلاقي؟ الإبداع عمل لا يمكن وصفه بأنه أخلاقيّ أو لا
أخلاقيّ، الإبداع يدخل في منطقة محايدة أخلاقيا amoral لذلك اعتبر أدباء
مصر الدعوى ضدّ ألف ليلة وليلة تربّصا بالإبداع.
هكذا لا يتردّد بعض الناس في المطالبة بقوانين تحرم فئات من الناس من
حقوقها باسم الأخلاق، وهو عمل لا أخلاقيّ، ناهيك عن تشكيله لدعوة صريحة
لقتل العقل، ذلك أنّ الإبداع الأدبيّ لا يقلّ في صرامته المنهجية عن العلم،
وهو نتاج العقل وليس للشعور فيه دخل كبير وإن لعب التخيّل فيه دورا هامّا.
والتخيّل ليس الهذيان إنّما هو القوّة التي تتصرّف في الصور المحسوسة
والمعاني، بالتركيب والتحليل والتفصيل والتقسيم وكلّها عمليّات عقلية
بامتياز. وما يتصوّره البعض خيالا مريضا وهذيانا، وهي التهم الموجّهة لأغلب
الأعمال الأدبية المحكوم عليها بالحجر في المنطقة العربية، هو خيال خاضع
للعقل والتجربة الحسّية في آن، تماما مثل العلم الذي جاءت أبهر نتائجه من
قفزات غير منتظرة لعب فيها الخيال دورا أساسيا.
إذن فكل قتل للأدب هو قتل للعقل.
فلننظر كيف أوّلت موظفة في جهاز رقابة حكوميّ عربيّ، وهو عادة جهاز متخصّص
في تحميل النصوص الإبداعية ما يزخر به وجدان الرقيب من كبت. فقد حمّلت بيت
شعر عربيّا معروفا معاني جنسية منع الكتاب بسببها. ويقول البيت المجرّم:
كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول (4)
إنّه تأويل يستحقّ أن يدرج في الوثائق التاريخية لمحاكم التفتيش الكنسيّة.
ففضيلة من هذا النوع ليست سوى رذيلة متنكّرة كما يقول "لاروشفوكو" أو طهرانيّة مريبة.