أغرى
سقوط سلطة بن علي العديد بأنّ تونس أصبحت مجالاٌ خصبا لنشر الأفكار
والمعتقدات؛ وهي فعلاً كذلك باعتبار شعبها صاحب تاريخ طويل في الانفتاح
على غيره، وهو بصدد البحث عن سبل جديدة لتدعيم مكاسبه. كما أصبحت حداثة
تونس الإدارية والتشريعية والاجتماعية التي لا مجال لنكرانها محطّ اهتمام
غير التونسيين. ولهذا وذاك، أصبحت تونس في رأي البعض إمّا تهديدا أو
مكسباً أو غنيمة. ونسي الجميع حقّ الشعوب في تقرير مصيرها وتناسوا قضايا
بلدانهم، أو بلدان أخرى مثل السعودية أو البحرين (ولا ندري لم سكتوا
عنها)، وشرّعوا لأنفسهم حقّ التدخّل والأمر والنهي. ولعلّ الحملة الملحّة
التي تدور حول ما أسمّيه "روح تونس" خير دليل على ذلك، حتى إن اختلفت
المناهج والرموز والمصادر. آخر هذه الحملات تمثّل في زيارتيْ الشيخ وجدي
غنيم والأستاذ طارق رمضان. والحملتان، رغم اختلافهما، تصبّان في نفس
المصبّ حسب رأيي.
كان غنيم واضحا في خطابه
وهيئته ومضيّفيه، رجلا ذا رسالة مختصرها إعادة الإسلام إلى شعب غلب عليه
الكفر أو العلمنة ، وهما نفس الشيء حسب رأيه. أمّا طارق رمضان - وهو زميلي
بجامعة أكسفرد، وأكنّ له الاحترام، ولم أكن لأردّ عليه لو أنّ مجال تدخّله
في الشأن التونسي كان العلم والمعرفة، أمّا وقد تناول الشأن السياسي
والديني لبلدي فأنا معنيّ مباشرة بالتدخل. فقد استعاض عن العلم بالوعظ
وتناول نفس الشأن الذي تطرّق إليه غنيم فأصبح من الواجب النظر إلى تدخله
في الاطار المذكور أعلاه. وأتوقف عند ثلاث إشارات.
إنه
لمحيّر حقّا ومن الاستعلاء بمكان أن يخاطب رمضان جمهوره بقوله: "أنتم لا
تعرفون تاريخكم"، وكان يجلس إلى جانبه العالم والمؤرّخ محمد الطالبي
وأمامه أساتذة جامعيون وغيرهم. وكأنّي به يقول: أنا أعرفُ بتاريخكم منكم
وقد جئت لإنارتكم. وفي ردّه على سؤال يتعلّق بقول الشيخ عبد الفتاح مورو
إنّ إعادة أسلمة تونس يجب أن تمرّ عبر المدارس، أجاب رمضان بأنه لا يتّفق
مع التعريب السريع أو الفوريّ، ودعا إلى الصبر. لا مجال هنا لإخفاء مراوغة
رمضان في الردّ وتجنّبه كلمة "أسلمة" تماما، متفاديا بذلك الدخول في مأزق
قد يكشف بعض جوانب خطابه. أمّا المعنى فواحد، أي لا بدّ من الأسلمة وإن
كانت تدريجية. والخلاصة أنّ المسألة إستراتيجية وتكتيك لا غير، وأنّ
الالتقاء مع مورو وغنيم جليّ لا يخفى.
أما في
ردّه على سؤال يتعلّق بما كان قد كتب حول تعارض بورقيبة مع الشريعة في
مسألة مجلة الأحوال الشخصية، فقد أجاب رمضان بأنه لا يجب العمل ضدّ المرجع
ولكن مع المرجع. المرجع هنا معرّف وواحد ولا يمكن معارضته. ولعلّ هذا أهمّ
ما نستخلصه من قول رمضان برمّته وربّما حتى من تفكيره الدعويّ إجمالا: إنّ
التفكير مهمّ وضروريّ ولكنّ المرجع يبقى واحدا.
لا
مانع لديّ في الدعوة والحوار من حيث المبدأ. ولكنّني أعتقد أنّ رمضان
وغنيم، لو رغبا حقّا في حوار بناء وجريء، لكانا استبدلا الجمهور الذي
توجّها إليه : كان على غنيم أن يحاور الجمهور الذي استمع إلى رمضان، جمهور
مثقّف ومتعطّش للحوار وله آراء حول الدين والمجتمع وتكثر فيه غير
المحجّبات وغاب عنه السلفيون. أمّا رمضان فإنّه لو رغب حقاً في دعوة
التونسيين إلى اليقظة والتفكير والتروّي لكان عليه أن يخاطب السلفيين
والمتشددين الذين حضروا خطب غنيم. إنّ في ذلك لنفعا حقيقياً. أمّا وقد
اكتفى غنيم ورمضان بوعظ من كان قد اتعظ أو إقناع المقتنعين، فإنّهما بذلك
يكونان قد سلكا مسالك مختلفة تشترك في سعي حثيث إلى تقييد حرية شعب اكتسب
حريته بنفسه – لا بتخطيط أمريكيّ، كما يدّعي رمضان - وهو الآن بصدد البحث
عن سبل المحافظة عليها وتدعيمها. ففي تعليق ذكيّ على خطاب أوباما المشهور
في جامعة القاهرة، كتب أحدهم مقارناً الرئيس الأمريكي الحالي بسابقه، بوش
الابن صاحب مقولة "إما أن تكونوا معنا أو أن تكونوا ضدّنا"، ما يلي: "إمّا
أن تكونوا معنا أو أن نقنعكم بأن تكونوا معنا". وحديثنا قياس.