"اعتمد التّاريخ الفنّي لعدّة قرون في دراسة آثار السّير الذّهنية وتفسير
المتون معتبرا البيئة الجماعية نوعا من الزّخرف متروكا لفضول مؤرّخي
السّياسة".(1)
ومع ظهور السّوسيولوجيا مع "أوغست كونت" وتفرّعها وبداية النّظر للفنّ
سوسيولوجيّا وتبلور فرع سوسيولوجيّ مسرحيّ مع عالم الاجتماع "جورج
غروفتش"، تطوّرت الدّراسة التي تعنى بدراسة الظّاهرة المسرحية في إطارها
الاجتماعي خاصّة منها دراسات عالم الاجتماع الفرنسي "جان دوفينيو"، محاولة
تبيّن أوجه العلاقة المميّزة بين المسرح والمجتمع حيث مثلت التراجيديا
الإغريقية إحدى التعبيرات المسرحية الأولى مادّة دسمة لعلماء الاجتماع حيث
ظهرت العديد من الدراسات حولها كان من أهمّها دراسة "جان بيار فرنان"
و"بيار فيدال ناكيه" حول "الأسطورة والتراجيديا في اليونان القديمة".
تمثّل الجذور الأولى لنشرة "الدّراما" عموما والتّراجيديا بما
هي أحد فروعها للإنسان البدائي عبر محاكاته الدّائمة للطبيعة في محاولاته
لفهم البيئة الّتي تحيط به من ناحية وصراعه من أجل البقاء من ناحية أخرى،
وهو ما مثّل نواة تشكّل الرّقص الذي ارتبط بصورة الكاهن الذي يعلّم النّاس
الصّلاة، كما كان لتشكّل الأسطورة وتجذّرها في المجتمع الإنساني دور في
ذلك، فتشكّلت أولى الأشكال المسرحيّة الّتي ارتبطت بالاحتفالات الدّينية
خاصة منها احتفالات المقامة للإله "أوزيريس" بمصر الفرعونية، وتطوّرت
العملية مع تشكّل المدينة الأثينية إلى حدود تبلور التراجيديا التي يعتبر
"ولتر نيل" أنها "قد ولدت عندما صار يتمّ النّظر إلى الأسطورة بعين
المواطن".
أما المنشأ الأساسي لظهور التراجيديا فيعود للأناشيد الدّيثيرامبية التي
تتغنّى بالإله ديونيزوس، ويمكن اعتبار الفترة ما بين 536 ق.م و535 ق.م
البداية الحقيقية لبروز هذا الفنّ بتنظيم أولى المسابقات التراجيدية،
وتمثّلت بحسب التعريف الأرسطي بكونها "محاكاة فعل نبيل تامّ، لها طول
معلوم بلغة من التّزيين تختلف وفقا لاختلاف الأجزاء وهذه المحاكاة تتمّ
بواسطة أناس يفعلون لا بواسطة الحكاية وتثير الرحمة الخوف فتؤدّي إلى
التّطهير من هذه الانفعالات." (2)
تقوم التراجيديا على مجموعة من المؤدّين ينقسمون إلى جزأين : المجموعة
الأكبر وتمثل الجوقة الّتي يكوّنها مجموعة من المواطنين تكون بمثابة
الناطق باسمهم، والممثّل الذي يؤدّي الشّخصية التراجيدية، السّمة المميزة
له هو قناعه الّذي يضفي عليه مسحة بطولية ويجعل منه كائنا استثنائيا (3).
وهو تقسيم للأدوار والوظائف لا يعدو أن يكون انعكاسا للوعي الجماعي
الأثيني الذي يقدّس نظاما هرميّا يكون فيه الحاكم هو المحور والسّلطة
العليا فيما يختزل دور البقية في الملاحظة والانفعال.
من ناحية أخرى، فإنّ جميع المؤدّين من الرجال. ذلك أنّ اليونانيين القدامى
أطردوا المرأة من الحياة السّياسية وحدّدوا وظيفتها في أدوار معيّنة.
فكانت الجوقة بذلك مجموعة من الذّكور يؤدّون جميع الأدوار بما فيها
الأدوار النّسائية عبر التّنكر وارتداء الأقنعة، فكانت التراجيديا بذلك
انعكاسا للوعي الجمعي الأثيني حيث تعكس تركيبة الجوقة والشّخصية المحورية
تركيبة المجتمع والبعض من القيم الّتي أنتجها.
بالإضافة إلى تركيبة المؤدّين، فإنّ محاولة تحليل مفردات وبنية كلّ عمل
تراجيدي تفضي إلى الإقرار بأنّ "المادّة الحقيقية للتراجيديا هي الفكر
الخاصّ بالمدينة خاصّة منه الفكر الحقوقي"، (4) حيث يلاحظ وجود العديد من
المفردات القانونية التقنية ممّا يقترب بالتراجيديا من المحاكم، وهو ما
يبرز جليّا إذا ما أضيف إليه العقاب الّذي تسلّطه الآلهة على الشخصيات
التراجيدية مثلما فعلت بأوديب مثلا، حيث ارتبط الفكر القانوني الإغريقي في
تلك الفترة أيضا بالمسألة الدّينية كما أنّ الامتثال للعقاب -كما برز مثلا
في مسرحيّة أوديب- يمكن أن يعزى إلى فكرة نكران الذّات واعتبار قيمة واحدة
ثابتة لا يجب أن تختلّ هي المدينة، فكان أن خلق ذلك صراعا لدى المواطن
الأثيني انعكس على ركحه، فأولاه مكانة هامّة حيث تجاوزت التراجيديا
الإغريقية في حياة المواطن الأثيني كونها شكلا فنّيا لتتحوّل إلى "تنظيم
اجتماعي أفردت له المدينة مكانة إلى جانب أجهزتها السّياسية
والقضائية"(5). فعبر تأسيس المسابقات التراجيدية ضمن احتفال المدينة
بالإله ديونيزوس، تكون مسابقات تحت إدارة مباشرة من قبل الحاكم كما أن وضع
المسرح في نفس الفضاء المديني جعل هذه الاحتفالات ملتزمة بالأعراف
المؤسّساتية التي تخضع لها باقي المؤسّسات.
تكون الشّخصيات الأعلى مكانة في النظام الهرمي الأثيني بمثابة اللجنة في
هذه المسابقات، ويقع توزيع أماكنهم حسب هذا التقسيم الذي نجد في قاعدته
العبيد والنساء فـ"تتحوّل المدينة بأكملها إلى مسرح" (6) على حدّ تعبير
"بيير فيدال ناكيه" و"جون بيير فيرنان".
ارتبطت التراجيديا الإغريقية في ظهورها، سواء كان العامل المحدّد سياسيا
أو طبيعيا أو ديمغرافيا أو اقتصاديا بالإنسان، حيث مثّلت أحد أساليب
التعبير عن رؤيته للعالم وصراعاته ومخاوفه، كما كانت تمثّلا للتنظيم
السّياسي والاجتماعي والاقتصادي والإيديولوجي والفكري للإغريق ونظرتهم
للفرد والأخلاق ومجموع العلاقات الّتي تكوّن المجتمع الّذي عاشوا فيه،
بالإضافة إلى نظرتهم لواقعهم، إذ مثّل على الركح الإغريقي تراجيديات
مستوحاة من ماضيهم فالمسرح يمنح الإنسان "القدرة على تعويض ما يفتقده في
واقعه المعاصر […] وعمّا افتقده في داخل المجتمع" .(7)
هذا المنطق الّذي ميّز التراجيديا الإغريقية في إطارها الاجتماعي يعطي
لمحة عن المسرح في عمومه في إطاره الاجتماعي في أمكنة وأزمنة متعدّدة في
اختلافات فرضتها الاختلافات الزّمنية والمكانية، إلاّ أنّ جوهر العملية
المسرحية ظلّ متواصلا، بهذا تمثّل التراجيديا مرجعا ومرتكزا لدراسة
المجتمع في إطاره الاجتماعي خاصّة إذا ما أضفنا عنصرا آخر وهو كون التقسيم
الذي أعتمد للدراما يمكن أن يعتبر من وجهة نظر بعض علماء الاجتماع تقسيما
طبقيا بين مسرح للنبلاء وهو التراجيديا ومسرح للعامة وهو الكوميديا.