كل
الدلائل تشير إلى أن بودلير فشل في التأقلم مع المجتمع، بدءاً من أسرته
الشخصية وانتهاء بالبورجوازية الفرنسية كلها. والأخطر من ذلك هو أنه فشل
في التأقلم مع نفسه، وعن هذا الفشل العظيم نتج الشعر. لقد حاول أن ينجح في
الحياة، أن يشقّ طريقه في خضم العمل، والوظيفة، والمنافسة. ولكنه في كل
مرة كان يجد نفسه عاجزاً عن تحقيق أي شيء على هذا الصعيد، وكان يشعر
بالإحباط والألم نتيجة لذلك. أمه كانت تريده أن يدخل سلك الدبلوماسية
وربما يصبح سفيراً بواسطة علاقات وصداقات زوجها التافه الجنرال أوبيك. وهو
كان يكره زوجها ونجاحه في الحياة كره النجوس. لنقل باختصار: إن بودلير كان
مبرمجاً للفشل في الحياة والتسكع في شوارع باريس ليس إلا. وكان يشعر بأن
مكانته تتضاءل في نظر أمه، وكان يتألم ويحترق. كان يعدها بأنه سيغير
أوضاعه المادية المتردية، وسوف يجعلها فخورة ترفع رأسها به أمام الناس،
إلا أنه كان دائماً ينكص على أعقابه، شاعراً بالعجز والخذلان في كل مرة.
وهذه الحالة السيزيفية المنهكة انعكست على نفسيته، فأصبح يعيش صراعاً
داخلياً لا يعرف كيف يخرج منه. وراح الإحساس بالذنب والخطيئة يلاحقه،
وبخاصة بعد أن أدمن على شرب الكحول، وتعاطي المخدرات، وممارسة حياة
البطالة والعطالة، والتنقل من حانة إلى حانة، أو من ماخور إلى ماخور. ثم
بشكل أخص بعد أن أصيب بمرض الزهري ونقله إلى عشيقته الزنجية: حنة دوفال.
وجن جنونه! كان يتمنى لو أنه أصيب هو فقط. وهكذا فقد هيبته في عين أمه وفي
نظر الناس العقلاء الجادين، البورجوازيين المحترمين. وجميع الآمال التي
علَّقتها أمه عليه، عندما كان في المدرسة ناجحاً متفوقاً في البداية،
انهارت في نهاية المطاف. وكانت هي السبب؛ لم تعرف أن زواجها من رجل آخر
بعد موت والده قد حطمه، أحدث شرخا في داخله لن يقوم منه. وعن هذا الشرخ
نتج اختلاله، والشعر.. وأصبح بودلير شخصاً هامشياً، منبوذاً من قبل
المجتمع. وحتى أمه كانت تخشى أحياناً إذا ما رآها الناس ماشية معه بسبب
ثيابه المبتذلة ومنظره الخارجي المتهدّم، إن لم نقل المنهار. تخيلوا: هل
هناك من أم تخجل بابنها؟ نعم زوجة الجنرال أوبيك، أم بودلير! ويقول بعض
الذين تعرفوا عليه في تلك الفترة بأنه كان يلبس ثياباً نظيفة عموماً، ولكن
قديمة شبه بالية، ومنظره الخارجي كان يوحي بالإهمال والهجران. كان يشبه
بيتاً متصدعاً لم يُسكن منذ زمن طويل. كان يبدو عليه وكأنه مدمَّر من
الداخل. لقد استسلم بودلير لتقادير الحياة وألقى سلاحه منذ البداية. كانت
الصدمة أكبر منه؛ لماذا تزوجت أمه؟ لماذا لم تبق له وحده؟ لطالما قال لها
بكل حرقة، بكل مرارة: من كان لها ابن مثلي لا تتزوج! بدءاً من تلك اللحظة
أصبح العالم مشبوهاً في نظر شارل بودلير.
لكن هذه التجربة السلبية مع الحياة، هذه الضربة الماحقة، كانت مفيدة
جداً وذات مردود هائل من الناحية الشعرية، وبالتالي فرب ضارة نافعة. فإذا
لم يكن يستطيع أن يرضي أمه بأن يصبح موظفاً كبيراً في سلك الدبلوماسية
الفرنسية، أو سلك القضاء أو سوى ذلك، فإنه على الأقل استطاع أن يرضي آلهة
الشعر ويركع في محراب الفن.. يضاف إلى ذلك أن الانحطاط في مهاوي الحياة
إلى الدرك الأسفل يتيح لك أن تتعرف على الوجه الآخر للوجود: قفا الوجود.
إنه يتيح لك أن تعانق الوجه السلبي، المظلم للأشياء. كان النزول إلى
الطبقات السفلية والدهاليز المعتمة شيئاً ضرورياً جداً لكي يصبح بودلير
شاعراً، وربما اكبر شاعر في تاريخ فرنسا. ويقال إن أمه لم تعرف قيمته إلا
بعد موته وانفجار شهرته الأسطورية؛ عندئذ بكت وتحسرت حيث لم يعد ينفع
التحسر أو الندم.. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الشاعر الآخر الذي يستطيع
أن ينافسه على سدّة الشعر الفرنسي: آرثر رامبو .
نقول ذلك على الرغم من الفارق الكبير بين شخصية بودلير وشخصية رامبو،
فرامبو هجر الشعر كلياً عندما ابتدأ ينجح في الحياة. صحيح أن بودلير حاول
بكل الوسائل أن ينجح وينعم بالرفاهية المادية والوجاهة كبقية البشر، ولكنه
في كل مرة كان ينتكس ويفشل. إنه كسيزيف الذي يرفع الصخرة من أسفل الوادي
لكي يضعها على قمة الجبل، ولكنها كانت في كل مرة ما إن يصل بها إلى القمة
تقريباً حتى تتهاوى إلى الأسفل فيعيد الكرة من جديد، وهكذا دواليك. عندئذ
عرف بودلير أنه فاشل لا محالة، وراح يتحمل مسؤوليته لأول مرة كشخص فاشل
معادٍ للمجتمع وقيمه. فبما أن المجتمع يرفضك، فلماذا لا ترفض المجتمع أنت
بدورك؟ لماذا لا تعلن عليه حرباً ضروساً، وتتحمل مسؤوليتك كشخص هامشي،
متسكع، منبوذ؟ بدءاً من تلك اللحظة راح بودلير يصبح الشاعر الأساسي
للحداثة الفرنسية وربما العالمية. راح يصبح شاعر التمزق، والألم،
والتناقض، والمهاوي السفلية، وقد جرب الانتحار أكثر من مرة ولكنه لم ينجح.
راح يصبح شاعر الخطيئة الأصلية التي تلاحق الإنسان من المهد إلى اللحد. كل
ديوانه "أزهار الشر" ما هو إلا مرآة لروحه، أو سيرة ذاتية –مقنَّعة
بالطبع- لشخصه. حياة بودلير كلها كانت تمزقاً أو تذبذباً بين
السماء/والأرض، بين النشوة العارمة/والهاوية، بين الأفق اللازوردي
السماوي/والعتمات السوداء، بين الواقع/والخيال، بين السقوط إلى
أسفل/والارتفاع إلى أعلى الأعالي، بين الله/والشيطان…
هذا التوتر الذي لا يهدأ بين الفوق/ والتحت، أو بين البراءة/والخطيئة،
أو بين الجمال/والقبح، هو الذي جعل من بودلير الشاعر العميق بامتياز.
يمكنك أن تتهم بودلير بكل شيء، ما عدا أنه شاعر سطحي مثلاً…! مستحيل…
الشعراء السطحيون هم أولئك الذين لا يعيشون تجارب حدّية في الوجود: أقصد
تجارب قصوى تصل بهم إلى حافة الهاوية. وأما الشاعر العميق فهو ذلك الشخص
الذي عرف الجانب السلبي من الحياة، هو ذلك الذي عاش إلى جانب الأنين
والحنين لسنوات طويلة، هناك حيث الأعماق السفلية، هناك حيث الدهاليز
والعتمات، وحيث الوحدة والهجران. الشاعر شخص مهجور: مهجور أبدياً،
سرمدياً، أنطولوجياً. الشاعر السعيد، الناجح، المتفوق، ليس شاعراً بالمعنى
البودليري للكلمة: إنه فقط يطرب الناس أو يدغدغ المشاعر والحواس السطحية،
ويحظى بشعبية هائلة، وتحبه الفتيات والمراهقون والسيدات الأرستقراطيات…
هذا لا يعني بالطبع أنه عديم القيمة، ولكنه لا يهمنا هنا، ولا يعنينا
أمره إطلاقاً. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل…نحن لا نشتم أحداً.
نحن نهتم هنا فقط بالشعراء السيزيفيين. نحن نريد أن نقيم علاقة بين الشعر
والعمق، ونقول بأن الشاعر الذي لا ينزل إلى الأعماق السفلية ويخاطر بنفسه
ليس شاعراً بالمعنى الذي نقصده. كان بودلير يشعر بالضجر والفشل وعبثية
الأشياء، وبدءاً من تلك اللحظة أصبح شاعراً.ً بدءاً من اللحظة التي يحصل
فيها تناقض حاد بينك وبين العالم، بدءاً من اللحظة التي يصبح فيها العالم
إشكالياً في نظرك، فإن ذلك يعني أنك قد تصبح شاعراً، أو فناناً، أو
فيلسوفاً، أو مجنوناً. أول شرط من شروط الإبداع هو اختلال الثقة بينك وبين
العالم، هو حصول شرخ عميق بينك وبين نظام الأشياء ذاتها. لماذا يوجد الشر
في العالم؟ لماذا تزوجت أمه؟ لماذا لا يوجد إلا الخير والصفاء والنقاء
والشفافية؟ لماذا نفجع بأنفسنا، بأحبتنا الذين غابوا؟ ربما لهذا السبب لا
يوجد شاعر كبير واحد في التاريخ كان متصالحاً مع نفسه أو مجتمعه أو زمنه.
ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الفلاسفة والمفكرين الكبار. بالطبع يوجد في
كل العصور عشرات الشعراء والكتاب الذين ينعمون بالحياة والثروة والجاه
والشعبية والجوائز التقديرية، ولا يشعرون بأي مشكلة مع أي شيء كان. عن
هؤلاء لا نتحدث هنا، ولا يهمنا أمرهم في قليل أو كثير…
نحن نتحدث هنا فقط عن الشعراء الذين فجعوا بأنفسهم، أصيبوا في الصميم
منذ طفولتهم. نحن نتحدث عن كتّاب من نوعية بودلير، أو رامبو، أو
ديستويفسكي، أو نيتشه، أو هولدرلين، الخ… ذلك أن الصراع الداخلي مع الذات
لا يقل خطراً عن الحروب بين الجيوش كما يقول رامبو. حرب الداخل أخطر من
حرب الخارج، لأن العدو يصبح منك وفيك. وبودلير عاش هذا الصراع المحتدم
ومشى به إلى نهاياته. هل كان بودلير شيزوفرينياً يعاني من انفصام في
الشخصية؟ بالطبع، كمعظم الكتَّاب الكبار. كل عقد الارض موجودة فيه، وعن
هذا الصراع المرير والشرس نتجت قصائده العبقرية في "أزهار الشر"، يكفي أن
نفتح هذا الديوان على أي صفحة لكي نجد آثار هذه المعركة أو أشلاءها بادية
للعيان:
سوف أضربك بدون غضب
وبدون حقد، كجزار
كموسى يضرب صخرته!
*****
أنا الطعنة والسكين!
أنا الصفعة والخدان!
أنا العجلة والعضوان!
أنا الضحية والجلاد!
*****
أنا لَقلبي مصّاص الدم
-أحد المهجورين الكبار
المدانين بالضحك الأبدي
والذين لا يستطيعون الابتسام بعد اليوم!
لاحظ كيف أنه جلاد نفسه، ضحية نفسه بالدرجة الأولى. أو قل إنه استبطن
العدوان الخارجي (القدر، الطفولة، زوج الأم، ضربات الغدر…) إلى درجة أنه
أصبح مشكلة داخلية. لم يعد بودلير بحاجة إلى عدو خارجي لكي يعذبه؛ أصبح هو
يعذب نفسه بنفسه. زوج الأم، هذا العدو المطلق الذي دعا الثوار إلى اغتياله
إبان ثورة 1848 لأنه كان الحاكم العسكري لمنطقة باريس، تحول إلى وحش
أخطبوطي لا خلاص منه حتى ولو مات..
لكي يتخلَّص من نفسه، من مرضه الداخلي الذي يقضّ مضجعه، كان ديستويفسكي
يتمنى أحياناً لو أن الأرض انشقَّت وابتلعته. وأما نيتشه فكان يتمنى لو
يحصل زلزال كوني يدمّر الأرض ومن عليها ويخسفه معها… فيما يخص بودلير،
نلاحظ أن شهوته كانت تتمثل في حصول إعصار يجرفه مع السيول. ولكن ماذا عن
المعري؟
الأرض للطوفان مشتاقة لعلها من درن تغسل!
لماذا كل هذه الشهوة العارمة في التدمير الذاتي للذات؟ في الانسحاق والانمحاق؟ في التلاشي؟
لماذا كل هذه الرغبات الانتحارية الاستئصالية؟
لنستمع إلى هذا المقطع بعنوان:
شهوة الانسحاق والفناء
أيتها الروح الكئيبة، المحبة للنضال أيام زمان،
الأمل، الذي كان مهمازُه يثير حميّتك،
لم يعد يريد أن يمتطيك! فنامي بلا خجل
كحصان عجوز، في كل خطوة تصطدم رجله بعقبة.
*****
استسلمْ، آه يا قلبي ونمْ كالبهيمة
*****
أيتها الروح المهزومة، المنهوكة! بالنسبة لك أيتها النهّابة القديمة،
الحب لم يعد له مذاق، ولا الشجار كذلك،
وداعاً إذن يا أغاني النحاس وتنهّدات العود!
*****
الربيع الرائع فقد رائحته!
*****
والزمن يبتلعني دقيقة بعد دقيقة،
كما يبتلع الثلج الهائل جسداً أُصيب بالتصلّب،
ومن علٍ أتأمل بالكرة الأرضية المستديرة،
ولم أعد أبحث فيها حتى عن مأوى أو كوخ حقير.
*****
أيها السيل، لماذا لا تجرفني في انهياراتك؟
*****
الوسيلة الوحيدة لكي يتخلص الشاعر من ألمه، من مرضه المزمن، هي أن
تصيبه كارثة، أن تقع على رأسه مصيبة بحجم الاحتقان الداخلي؛ ينبغي أن يكون
هناك معادل موضوعي في الخارج لا يقل خطورة عما يعتمل في الداخل. عندئذ
ينتقم من نفسه، أو بالأحرى من العدو الداخلي الذي يسكن في جوانحه، يشرّش
في عروقه ودمائه كالأخطبوط دون أن يستطيع منه فكاكاً. الشاعر هو عدو ذاته.
لا يوجد فنان كبير بدون هوس حقيقي أو وسواس داخلي. بهذا المعنى: كل
فنان كبير هو شخص مهووس بالضرورة. لنفكر هنا برواية"الممسوسين"
لديستويفسكي ولو للحظة واحدة. عن هذا الهوس، أو الصراع الداخلي الضاري،
ينتج الفن. يقول بودلير:
التدمير
بلا توقف، إلى جانبي، يختلج الوسواس،
إنه يحوم حولي كالهواء المبثوث،
أبتلعه وأحسّه يحرق رئتي
ويملؤها برغبة أبدية ومذنبة.
*****
أحياناً، بما أنه يعرف حبي الكبير للفن،
يتخذ الصورة الأكثر إغراء للمرأة،
ثم بحجج مموَّهة عن الكرب والضجر،
يعوّد شفتي على أشربة مشبوهة.
*****
وهكذا يقودني بعيداً عن أنظار الله،
وأنا لاهث وميت من التعب، وسط
سهوب شاسعة من الضجر، عميقة ومقفرة،
*****
ثم يرمي في عينيّ المليئتين بالارتباك
بألبسة مدنَّسة، وجراحات مفتوحة،
وبالعدة الدموية للتدمير.