يواصل
أدغار موران وهو في التّاسعة والثّمانين من عمره إنتاج تفكير غنيّ وملتفت
نحو المستقبل. إنّ هذا المقاوم القديم، الشّيوعيّ السّابق، عالم الاجتماع
والفيلسوف، الّذي كان نيكولا سركوزي منذ بضع سنوات يستعير منه دون أن يدري
تصوّر "سياسة حضاريّة"، قد أنتج للتّوّ تأليفا جديدا بعنوان "السّبيل"La
Voie يقوم فيه بمعاينة قاسية ومقلقة في نفس الوقت لأدواء عصرنا، ويحاول أن
يمنح بعض الدّروب للمستقبل. إليكم هذا الحوار الّذي أجرته معه مجلّة Rue89.
أذهلنا
تشاؤمك ونحن نقرأ كتابك. فأنت تتوقّع للبشريّة كارثة قائلا في نفس الوقت
إنّ الأسوأ ليس مؤكّدا أبدا. إنّ إشارة الأمل الواردة في الخاتمة هي
موجّهة إلى أولئك الّذين سينجون من الكارثة… إنّ كتابة 300 صفحة من المقترحات عن المستقبل ليس تشاؤما. لو كنت
متشائما لكنت سيوران Cioran، لكنت كتبت بعض الحكم القائلة إنّ " كلّ شيء
قد فسُد".
أنا أنطلق من وجهة نظر معيّنة هي تلك الّتي تفرّق بين المحتمَل وغير
المحتمل. فالمحتمل بالنّسبة إلى ملاحظ معيّن في مكان معيّن يتمثّل في أن
يتصوّر نفسه في المستقبل انطلاقا من أفضل المعلومات الّتي بحوزته عن زمنه.
ومن المؤكّد أنّي إذا تصوّرت المسار الحالي لمصير الكوكب في المستقبل لقلت
إنّه مصير مقلق. لماذا؟ لا يوجد فقط تدهور في المحيط الحيويّ وانتشار
للسّلاح النّوويّ بل توجد أيضا أزمة مضاعفة : أزمة الحضارات التّقليديّة
بفعل التّطوّر والعولمة الّتي ليست شيئا آخر سوى الغربنة، وأزمة حضارتنا
الغربيّة الّتي تنتج هذا المصير المتسارع حيث لا يخضع العلم والتّكنولوجيا
إلى الرّقابة وحيث ينفلت الرّبح.
إنّ موت عدار (hydre، هو ثعبان أسطوريّ تنبعث رؤوسه وتتضاعف عند
قطعه"المترجم") الكليانيّة الشّيوعيّة قد أيقظ عدار التّعصّب الدّينيّ
والتّهيّج الشّديد لعدار الرّأسمال الماليّ. ويبدو أنّ هذه المسارات
تقودنا نحو كوارث لا نعرف إن كانت ستتعاقب أو ستجتمع. كلّ هذه المسارات هي
المحتمل.
إلاّ أنّ التّجربة التّاريخيّة تبيّن لنا أنّ غير المحتمل المواتي قادم.
ويُعتبر العالم المتوسّطيّ قبل عصرنا بخمسة قرون مثالا رائعا على ذلك :
فكيف استطاعت مدينة ضئيلة مثل أثينا أن تصمد مرّتين في وجه إمبراطوريّة
ضخمة وأن تنجب الدّيمقراطيّة؟
لقد عشت أمرا آخر. ففي خريف 1941، كان هتلر، بعد أن دمّر الجيش السّوفييتي
الّذي واجهه تدميرا كاملا تقريبا، قد وصل إلى أبواب لينينغراد وموسكو.
ولكنّ شتاء سابقا لأوانه بكثير قدم إلى موسكو جمّد الجيش الألمانيّ.
عندها، كان السّوفييت قد ذهبوا بعدُ إلى النّاحية الأخرى من الأورال.
كان من الممكن أن يكون التّاريخ مختلفا لو أنّ هتلر شنّ هجومه في ماي
مثلما أراد هو وليس في جوان بعد أن طلب منه موسوّليني العون، أو لو أنّ
ستالين لم يعلم بأنّ اليابان لن تهاجم سيبيريا، وهو ما مكّنه من تسمية
يوكوف جينيرالا على جبهة موسكو. وفي 5 ديسمبر، حرّر أوّل هجوم سوفييتيّ
مضادّ موسكو حتّى 200 كيلومترا وبعدها بيومين دخل الأمريكيون غمار الحرب.
هو ذا غير محتمل يتحوّل إلى محتمل.
واليوم، ما هو غير المحتمل الجديد؟ إنّها حيويّة ما يسمّى المجتمع
المدنيّ، وهي إبداعيّةٌ حمّالةُ مستقبل. في فرنسا، يسجّل الاقتصاد
الاجتماعيّ والمتضامن انطلاقة جديدة، الفلاحة البيولوجيّة والزّراعيّة،
حلول أيكولوجيّة، مهن التّضامن… وقد تلقّيت هذا الصّباح عبر رسالة
إلكترونية وثيقة عن الفلاحة الحضريّة.
في البرازيل الّتي كثيرا ما أزورها تقوم حاليّا مبادرات رائعة بتحويل
مدينة صفائح منذورة للانحراف والبؤس إلى تنظيم منقذ للشّباب. هناك أشياء
كثيرة تتشكّل. العالم يعجّ بمبادرات إرادة الحياة. فلنعمل على جعل هذه
المبادرات تتعارف وتتلاقى! إنّ الصّعوبة الكبرى تكمن هنا، لأنّنا مأخوذون
بسرعة قصوى في هذا العدْو نحو الكوارث، دون وعي بذلك.
قد تكون الأزمة الفكريّة هي الأسوأ لأنّنا مستمرّون في التّفكير بأنّ
النّماء سيمحو كلّ الأدواء في حين أنّ النّماء اللاّمحدود والمتسارع يقذف
بنا في عالم محدود سيجعله (أي النّماء) مستحيلا.
لا يوجد تفكير على قدر كاف من التّركيب ليتعاطى مع هذا، صحيح أنّ التّعليم
عندنا يقدّم اختصاصيين جيّدين جدّا ولكنّهم عاجزون عن نقل اختصاصهم إلى
الآخرين. والحالة هذه، لا بدّ من القيام بإصلاحات متضامنة. كلّ هذا يبيّن
الصّعوبة الّتي نواجهها لتغيير السّبيل.
ولكنّ البشريّة كثيرا ما غيّرت السّبل. فكيف نفسّر أنّ بوذا، الأمير
السّاكياموني، الّذي فكّر مليّا في المعاناة، يبني تصوّره عن الحقيقة
الّذي سيتحوّل إلى ديانة؟ وكيف نفسّر أنّ هذا الكاهن اليهوديّ، المنشقّ
والمصلوب، يأتي بفضل بول Paul بديانة ذات نزعة كونيّة هي المسيحيّة؟ وأنّ
محمّدا، المطرود من مكّة، يكون مبعثا لديانة عملاقة؟
هل تظنّ أنّه لا بدّ من رسول جديد؟
كلاّ… لكن لا بدّ بالتّأكيد من مفكّرين جدد. لا يجب أن ننسى أنّ
الاشتراكييْن، ماركس وبرودون، كانت أنتلّيجانسيا العصر تعتبرهما شاذّين
ومجهولين ومحتَقَرين. وانطلاقا من نهاية القرن التّاسع عشر فقط نشأ الحزب
الاشتراكي الدّيمقراطيّ الألمانيّ، والاشتراكيّة الإصلاحيّة، والشّيوعيّة
اللّينينيّة، الخ، وتطوّرت باعتبارها قوى سياسيّة هائلة. وحتّى على مستوى
التّاريخ، تطوّرت الرّأسماليّة مثل طفيليّةِ ترفٍ من العالم الإقطاعيّ.
كانت الملكيّة تناضل ضدّ الإقطاعيين وهو ما سمح للعالم البرجوازيّ
والرّأسماليّ بالتّطوّر. لقد غيّر التّاريخ اتّجاهه، وهذا عامل تفاؤل.
لقد انطلقتُ من فكرة مفادها أنّه لا بدّ من إصلاح كلّ شيء وأنّ جميع
الإصلاحات هي متضامنة. أنا مضطرّ إلى أن أفكّر هكذا بما أنّ ثورة جذريّة
مثل ثورة الاتّحاد السّوفييتيّ أو حتّى ماو الّتين فكّرتا في أن تصفّيا
كلّيّا نمطا رأسماليّا وبورجوازيّا، بنية اجتماعيّة واقتصاديّة ودَوْليّة،
لم تنجحا في النّهاية في تحقيق ذلك. بل إنّهما استحثّتا على المدى البعيد
انتصار العدوّ الّذي تصوّرتا أنّهما قد قضتا عليه : أي نمطا رأسماليّا
أسوأ من ذاك الّذي كان سنة 1917 وعودة الدّين المظفّرة في روسيا والصّين
وانتصار الرّأسماليّة الموصولة بعبوديّة الدّولة.
ما تقوله يزيد من التّشاؤم بما أنّنا نلاحظ فراغا في الفكر. فلا وجود لقوّة سياسيّة مساء 2012 حاملة لهذا التّركيب. توجد في كلّ مجال أمثلة إيجابيّة، بل حتّى هامشيّة ربّما… غير أنّ
جميع الإصلاحات الكبرى والثّورات بدأت بهذه الخبرات الهامشيّة. ولكنّ ما
ليس تشاؤما هو أنّي أربط بين الأمل واليأس. فكلّما تزدد الأمور خطورة يزدد
اكتساب الوعي. يقول هولدرلاين : "حيث ينمو الخطر ينمو أيضا ما ينجّي"، أي
أنّ هناك فرصا مواتية للدّفع نحو اكتساب الوعي. كما تعلمون، لا بدّ من
تجاوز ثنائيّة متفائل – متشائم. لا أدري إن كنت "متفائما" أو "متشائلا".
هذه مقولات لا يجدر بنا أن ننغلق داخلها.
ما رأيك في نجاح الكتاب الصّغير لستيفان أسّال Stéphane Hessel؟
فكر ستيفان أسّال الفتيّ، حياته المستقيمة جدّا، المقاومة، الإبعاد،
وفاؤه لبرنامج "مجلس المقاومة"، مشروعه عن حقوق الإنسان، مؤسّسة إعانة قرى
في إفريقيا… إنّه ذو نزعة إنسانيّة كونيّة! هذا النّجاح شيء معبّر جدّا،
إيجابيّ جدّا. فكتابه الصّغير له وظيفة الإيقاظ غير أنّه لا بدّ من تلافي
سوء التّفاهم المتمثّل في التّركيز على فكرة السّخط. إنّ سخطا بلا نظر
عقليّ يمثّل خطورة كبرى. السّخط ليس علامة على الحقيقة، ولن يكون سخط مّا
حقيقيّا إلاّ إذا انبنى على تحليل. بطبيعة الحال، إذا تناولتم قضيّة
بيتّنكور Bettencourt ففيها ما يدعو إلى السّخط.
هذا الكتاب طقطقة منبّهة تذهب إلى ما هو أبعد شيئا مّا من السّخط. ينبغي
مستقبلا تجاوز هذه المرحلة إلى غيرها، إلى مرحلة التّفكير. لقد كانت
لأيّام الإضراب حول التّقاعد معنى متعدّد الوظائف، فالسّخط بجميع أنواعه
كان متبلورا فيها. كان هناك جانب "اليقظة الشّعبيّة". وهنا أيضا العمل
ضخم. لماذا؟ بسبب أزمة الحزب الاشتراكيّ وعقمه، وبسبب الجانب المغلق أو
المتعصّب لأحزاب اليسار الصّغيرة… رغما عن مصلحة الأيكولوجيا السّياسيّة.
إنّنا في مواجهة أزمة للفكر السّياسيّ. وأنا الّذي أحاول أن
أضخّ الفكر في السّياسة ألاحظ إخفاقي الكلّيّ! إنّ الأمر أكثر خطورة لأنّي
أرى الموت البطيء لجماعة اليسار وللجماعة الجمهوريّة. في بداية القرن
العشرين، كان المعلّمون والمدرّسون حاملين للأفكار الجمهوريّة، لأفكار
الثّورة "حرّيّة، مساواة، أخوّة" الّتي أخذها فيما بعد على عاتقهم الحزب
الاشتراكيّ ثمّ الشّيوعيون في معاهد التّكوين. لقد كانت الأنتلّيجانسيا في
العالم الفكريّ ذات نزعة كونيّة وحمّالة أفكار كبرى…
أمّا اليوم، فقد انتهى ذلك : فالتّعليم في أغلبه صار منكفئا على نفسه داخل
اختصاصات معيّنة، ويتحدّثون عن ترشّح لوبان في الانتخابات الرّئاسيّة، إنّ
الوضع خطير.
ولكن، هنا أيضا، ربّما أمكننا تغيير هذا مع رسالة أسّال. أو رسالة كلود
ألفونديري Claude Alphandéry حول الاقتصاد الاجتماعيّ والمتضامن الّتي
تتضمّن أفكارا جمّة.
إنّ هذه الأفكار الّتي عنها ندافع كنّا قد رسمناها في إطار مجموعات صغيرة،
مع الدّكتور روبان، الخ. لن نغيّر الرأسماليّة بضربة عصا سحريّة ولكن
بإمكاننا أن نكبح منطقة هيمنتها المطلقة. بل إنّ أفكارا عن عُملة محلّيّة
قد تمّ اختبارها. إنّ الأفكار موجودة في كلّ مكان، وقد جمعت في كتابي
تجارب البعض والبعض الآخر.
تتحدّث عن النّماء
الّذي يظلّ عقيدة الطّبقة السّياسيّة والحال أنّه ناقلة من ناقلات استفحال
الأزمات. فهل تحوّلتَ مع ذلك إلى مدافع عن النّقصان؟ كلاّ! ينبغي الجمع بين النماء والنّقصان. أنا ضدّ هذا التّفكير
الثّنائيّ غير القادر على الخروج من تناقض. لا بدّ من التّمييز بين ما يجب
أن ينمو وما يجب أن ينقص. ما سوف ينمو هو بطبيعة الحال الاقتصاد الأخضر،
الطّاقات المتجدّدة، مهن التّضامن، الخدمات المتأخّرة بشكل مذهل مثل خدمات
التّمريض. إنّنا نرى بصورة جيّدة ما يجب أن ينقص، إنّه هذا التّبذير
للطّاقة والملوِّث، إنّه هذا السّباق نحو الاستهلاك الجارف، إنّها هذه
التّسمّمات الاستهلاكويّة.
ها هنا عالم بأكمله من الأفكار، وما لا يتوفّر هو دخولها ضمن قوّة سياسيّة جديدة.
سنة 2008، استعار منك نيكولا سركوزي تعبيرك "سياسة حضاريّة". ماذا وقع؟
إنّه سوء تفاهم. خلال تعهّداته، تحدّث نيكولا سركوزي عن "سياسة
حضاريّة". كان مستشاره، هنري غاينوHenri Guaino ، الّذي يعرف العنوان على
الأقلّ، هو صاحب الفكرة. فقالت بعض الصّحف إنّي تعرّضت إلى السّطو. قلتُ
في جريدة لوموند إنّي لم أكن أعرف ما يعنيه نيكولا سركوزي بذلك وفسّرت ما
أعنيه أنا بـ "سياسة حضاريّة".
وبما أنّي لم أكن جارحا جدّا، تمّت دعوتي لملاقاة نيكولا سركوزي في
الإيليزي. أخبرني بأنّ الحضارة بالنّسبة إليه تعني الهويّة، الوطن، الخ.
وضّحت له بأنّها : "النّضال ضدّ أدواء حضارتنا مع الحفاظ على جوانبها
الإيجابيّة". كان النّقاش ودّيّا.
ما وقع هو أنّي عند مغادرتي قلت له : "أنا متأكّد من أنّك في أحاديثك صادق
بنسبة ثلاثة أرباع الوقت، ممّا يسمح لك في الرّبع الأخير بقول شيء آخر".
كانت تلك دعابة صغيرة.
من الغد، سأله صحافيّ عن "السّياسة الحضاريّة" فأجابه : "لقد استقبلت
بالأمس أدغار موران، وقد أكّد لي أنّه يوافقني في ثلاثة أرباع سياستي."
أبدا لم أر في حياتي ميكروفونات تلتمس منّي التّعليق بعد ذلك.
في فرنسا، توفّرت لي منابر كثيرة جدّا ليفهم النّاس أنّي لم أصبح متفانيا
في خدمة سركوزي، غير أنّ أصدقاء لي كانوا يهاتفونني من إيطاليا وإسبانيا
ليسألوني : "حتّى أنت، يا صديقي المسكين؟". كان هذا بعد كوشنير، أمارا…
لاحِظوا أنّه بفضل سركوزي تمّ طبع ملايين النّسخ من كتابي. الأمر المؤسف
أنّ ذلك لم يكن له أيّ تأثير في سياسته. إنّه لم يفهم.
هل كانت لك اتّصالات بمسئولين من اليسار؟ - لقد تحصّلت على كتاب أرنو مونتبورغ Arnaud Montebourg. قال في
إهدائه إنّه استلهم من بعض أفكاري. إذا كان كلامه صحيحا فأنا مسرور بذلك.
كما أنّ سيقولان روايال قد ذبّت عنّي عندما وقع سوء التّفاهم بيني وبين
سركوزي. فقد أظهرت نسخةً من الكتاب قائلة إنّ هذه هي السّياسة الحضاريّة
الحقّ. ولكنّي لم أتلقّ أيّة علامة على تجديد في الفكر السّياسيّ.
تدافع في كتابك "السّبيل" عن الدّيمقراطيّة التّشاركيّة، وهي فكرة روايال Royal. كانت على حقّ. توجد أمثلة في البرازيل حيث يقوم السّكّان بالتّحقيق
في الميزانيات… لا بدّ حسب رأيي من أن توجد ديمقراطيّة قاعديّة، باعتبارها
تتمّة للدّيمقراطيّة البرلمانيّة والمؤسّسيّة، يمكنها أن تراقب وحتّى
تقرّر في شأن قضايا معيّنة مثل بناء طرف طريق سيّارة أو إنشاء مصنع مّا…
أنا مؤيّد لوجود ديمقراطيّة تشاركيّة ولكنّي أعرف أنّها ليست حلاّ سحريّا.
فالمخاطرة هي أن يكون الأهالي المعنيون أكثر من غيرهم مغيَّبين، أعني بهم
الشّيوخ والنّساء والشّباب والمهاجرين… توجد مخاطرة أخرى هي أن تتسرّب
أحزاب معيّنة إلى هذه الجمعيات. مثل هذا الميل الغريب عند التّروتسكيين
إلى التّسلّل الدّائم. إنّهم يظنّون أنّهم يحسنون صنيعا ولكنّهم في الواقع
يخرّبون كلّ شيء! أنظروا ما حدث للعولمة البديلة. في كثير من الأحيان
أيضا، الزّاعقون هم الّذين يلعبون الأدوار الأكثر أهمّية بينما يصمت
الكثيرون. ينتظرنا الكثير من العمل في مجال التّربية على الدّيمقراطيّة
التّشاركيّة.
إذا شغّلنا مضخّة تجديد المواطن فبإمكان الأمور أن تشهد تطوّرا. لا بدّ من
إنشاء معاهد تدرَّس فيها للمواطنين القضايا السّياسيّة الكبرى. وبما أنّ
هناك تجفيفا للدّيمقراطيّة فإنّ إحياء الدّيمقراطيّة أمر يُعتمد عليه.
رغم ذلك، فإنّ الصّعوبة الكبرى هي خيبة الأمل. لقد آمنت الأجيال القديمة
بالثّورة، بالشّيوعيّة، بالمجتمع المسمّى صناعيّا، بالرّخاء، بنهاية
الأزمات. كان ريمون آرون يقول : "سينجز المجتمع الصّناعيّ أقلّ مجتمع سيّء
ممكن." كانت هناك آمال، الاشتراكيّة العربيّة، الثّورات… جميع هذه الآمال
تهاوت.
رغم ذلك، مازال هذا الإيمان بالرّخاء والنّماء موجودا في البرازيل أو الصّين. اليسار في أمريكا اللاّتينيّة موجود في شكل متعدّد. علينا أن نقول
اليسارات. هناك لُولا Lula، وكيرشنار Kirchner، وباشلات Bachelet، وكورّيا
Correa… وليس تشافيز Chavez، لن أقول عنه إنّه من اليسار.
البرازيل، هذا البلد الكبير الّذي لديه طاقة اقتصاديّة كبرى، يضع مستقبله
في التّنمية، وهو ما يمثّل خطرا على الأمازون، الخ. باختصار، هنا أيضا
أُدخلت أنماطُ تفكير. ولُولا موزّع بين من يقولون إنّه يجب الحفاظ على
الأمازون ومن يقولون إنّه لا بدّ من استغلالها.
كورّيا لا يريد استغلال منابع النّفط، وموراليس يعيد بناء مجتمع "الحياة
الجيّدة"، بمعنى الحياة الجيّدة مع "الباشاماما" pachamama، أي الأرض
الأمّ. هي محاولة للتّعايش بين الحضارات التّقليديّة والحضارات الغربيّة.
العادات تنقل الصّلة بالطّبيعة، وهذا التّضامنَ في العائلة والجيرة
والقرية، واحترامَ الأجيال الطّاعنة في السّنّ، وعيباها في الغالب هما
التّسلّط العائليّ والمحافظة. أمّا الغرب فيجلب الدّيمقراطيّة وحقوق
الرّجال والنّساء. إنّ العنصر الدّافع لشعبيّة لُولا هي "حافظة النّقود
العائليّة" bolsa familia، هذه الحصّة المخصّصة للعائلة الفقيرة لتمكين
الأطفال من الدّراسة وحتّى للنّفاذ إلى الاستهلاك. بدأت هذه الفكرة تُدرَس
في المغرب وفي غيرها، فهي وسيلة لمقاومة الفقر. هذا أمر جيّد جدّا، إنّها
قارّة حيّة جدّا.
أمّا في الصّين، فما يحدث هو اتّحاد وثيق بين الرّأسماليّة الأشدّ إرعابا
والاستبداد الأكثر شموليّة! ولكن هنا أيضا توجد خمائر، أيكولوجيّة ومن
الحرّيّة…
كنّا نتحدّث عن خيبة الأمل. هل ترى أنّها خاصّة بالغرب أم أنّها كونيّة؟ إنّها كونيّة. أعتقد أنّ فقدان الإيمان بتقدّم مّا باعتباره سبيلا
تاريخيّا هو أحد العوامل الأكثر أهمّية لخيبة الأمل هذه. فهذا الإيمان
الّذي صاغه كوندورساي Condorcet قد تمّ نقله إلى العالم بأسره. إلاّ أنّنا
قد أضعنا المستقبل. فاليومُ القادمُ شكّ وخطر ورعب. حينما يكون الحاضر
مرعوبا نرتدّ إلى الماضي، إلى الهويّة، إلى الدّين، من هنا كان استيقاظ
الدّيانات الهائل.
في لجنة تحكيم "عالم "Mondeالّتي أنتمي إليها، منحنا جائزة لإيرانيّة
تفسّر بطريقة جيّدة كيف ساند قسم من أنتلّيجانسيا اليسار الخميني بعد سقوط
الشّاه. كما أنّ قسما من الأجيال الجديدة في البلدان العربيّة الإسلاميّة
تحوّل إلى الأصوليّة الدّينيّة.
أنظروا إلى هذه الأزمة المهولة في تونس : فالنّظام فيها ثبّت نفسه
باعتباره سورا واقيا ضدّ الأصوليّة وهكذا بررّ القمع. لقد نجح في تدمير
القوى الدّيمقراطيّة الّتي كانت موجودة في البلاد. إنّنا نتأكّد بأنفسنا
من وجود وضعيّة مأساويّة.
أنتم تعلمون أنّني مع ستيفان أسّال وصديقنا كلود ألفانديري ديناصورات.
كنّا أنا وكلود ألفانديري مقاومين ثمّ شيوعيين ثمّ انصرفنا عن الشّيوعيّة.
وهو، رغم أنشطته البنكيّة، لم يفقد آماله. لقد عرفته بعد التّحرير.
ومنذئذ، التقينا في مرّات كثيرة وتبيّنّنا أنّنا حافظنا على آمالنا،
ولكنّنا فقدنا أوهامنا.
البعض يتحوّل إلى الكلبيّة cynisme… أو ينتقل إلى اليمين أو إلى الدّينيّ.
هل أنت نفسك قد خاب أملك في أوباما؟ كلاّ! أنا معجب بأوباما وأحترمه. فحالة التّقهقر الّتي يعيشها العالم
أودت بسياسته المتعلّقة بإسرائيل وفي فلسطين، وببقيّة العالم، وأفغانستان
إلى الفشل… إنّه ضحيّةٌ شيئا ما. يحزنني هذا الفشل ولكنّ أملي لم يخب.
ما أخشاه هو انفلات ردّ فعل أسوأ من ردّ فعل بوش. فحين نرى هؤلاء المنتمين
إلى "حفلة شاي Tea Party"، فإنّ ردّ فعل الجمهوريين أمر مقلق جدّا! إنّ
تشخيص التّقهقر يجب أن يحثّنا على اقتراح مستقبل مّا. ليس برنامجا أو
نموذجا لمجتمع… كلاّ! يجب اقتراح سبيل يمكنه أن يخلق سبلا أخرى وبإمكان
هذا السّبيل أن يخلق التّحوّل. هذا هو الجانب المتفائل لمعاينة متشائمة!
أنت تقول إنّ خيبة الأمل هو فقدان الإيمان بالتّقدّم. هذا قريب من خيبة الأمل المرتبطة باقتراب المرء من موته الخاصّ… أبدا لم يوجد هذا الاتّحاد في المصير بين الإنسانيّة كلّها، كلّ
البشر يشتركون في التّعرّض لنفس التّهديدات القاتلة، لنفس معضلات الخلاص.
وتُعتبر العولمة أسوأ الأمور وأفضلها بالنّسبة إلى ذلك.
لقد اهتممت بمعضلة الموت في كتابي "الإنسان والموت". كان وراء هذا
الاهتمام موت أمّي عندما كنت في العاشرة من عمري، كان حدثا فظيعا
ولامعقولا، ثمّ كان موت أصدقائي المقرّبين رميا بالرّصاص أو مبعدين…
الموت والحياة هما بطبيعة الحال عدوّان، غير أنّ الحياة تنجح في مقاومة
الموت مستعينة بالموت. فنحن حين نأكل لحوم الحيوانات نميتها. كما أنّ
خلايانا تموت دون توقّف وتعوّضها خلايا فتيّة. إنّ هذه الجدليّة الدّائمة
بين الحياة والموت حيث ينتصر الموت في نهاية المطاف على الأفراد، وحتّى
على الحياة عند فناء الشّمس، لا تقوم إلاّ بتوطيد فكرة أهمّيّة الحياة.
بإمكاننا أن نكبح كروب الموت بحدّة الحياة، بحدّة قوى الحياة الّتي هي قوى
حبّ وشعر وفنّ للتّشارك. لا يوجد ردّ آخر على الموت غير ذاك المتمثّل في
القدرة على أن يحيى المرء حياته. ماعدا بالنّسبة إلى أولئك الّذين يؤمنون
بحياة أخرى بعد الموت.
أنت تلحّ على فكرة التّحوّل، مع الحكاية الرّمزيّة عن الأسروع والفراشة. هل هي رواية مختلفة عن الحياة بعد الموت؟ كلاّ. بعد الموت هناك إمّا البعث في المسيحيّة والإسلام، وإمّا
التّناسخ. أمّا فكرتي فهي أنّ شيئا مّا يحدث على الأرض. ليس هناك فقط
التّحوّلات الكثيرة في العالم الحيوانيّ، عند الضّفدعيات والحشرات، بل عند
الإنسان أيضا. نحن أنفسنا، عندما نكون أجنّة، نتحوّل. ننتقل من حالة
السّيولة إلى الهواء. تاريخيّا، عرفت البشريّة بأسرها التّحوّل، من مجتمع
الصّيّادين في بضع مواقع من الكرة الأرضيّة إلى المدن الأولى، إلى
الزّراعة والدّيانات الكبرى والأعمال الفنّيّة والتّقنيات والفلسفة… منذ
ظهور الإمبراطوريات العظمى حدثت تحوّلات مذهلة.
علينا اليوم أن نصل إلى تحوّل ما بعد – تاريخيّ، إلى حضارة كونيّة لا
يمكننا أن نتوقّع شكلها. أنا إذن باق في كون دنيويّ لكي لا أقول أرضيّا.
أليس الصّراع في الشّرق الأوسط علامة على أدواء الحضارة الرّاهنة؟ تماما. بل إنّه يضيف إليها فورته. تشكّلت أمّتان في نفس الإقليم،
تشكّلت قوميّتان وكلّ منهما تنزع نحو ارتداء لون دينيّ أكثر فأكثر. كثيرون
يتساءلون ماذا تساوي هذه القضيّة في مواجهة مآسي السّودان… لا ينبغي طرح
القضّيّة بهذه الطّريقة لأنّها تهمّ الملايين من المسلمين واليهود
والمسيحيين بسبب القدس. لقد فكّرت فيها على أنّها نوع من السّرطان، شيء
مّا يفضي إلى انبثاثات [تغيّرات في مركز المرض métastases (المترجم)] :
فمعاداة اليهوديّة في العالم الإسلاميّ تتغذّى من معاداة السّاميّة
الغربيّة الّتي تخفّ قوّتها لمصلحة معاداة العروبة. لقد فاقمت هذه القضيّة
من خطورة الوضع العالميّ. هي ليست العامل الوحيد للمانويّة وللأصوليّة،
ولكنّها تمثّل انحطاطا شاملا. هذا أكيد.
إنّنا نسحب كلمتنا "تشاؤم"… يجب الوصل بين تفاؤل وتشاؤم. هذا هو التّفكير المركّب، إنّه الجمع بين مفاهيم يدفع الواحد منها الآخر.