ما
زالت التنبؤات والتأملات الفلسفية المبنية على علم النفس التحليلي والتي
عرضها فرويد في كتبه الأخيرة، خاصة "الطوطم والتابو" و"مستقبل وهم" ثم
"موسى والتوحيد"، تجد لها مكاناً واسعاً في النقاشات والحوارات التي
تتناول الدين كوهم، والدين كحاجة بشرية للوهم، أو الدين كعائق أمام
البشرية للخلاص من أوهامها.
وسيغموند فرويد هو أوّل من عرض بشكل متماسك الأفكار التالية:
أوّلاً: عندما قام الإنسان البدائيّ، وضمن عمليات القتل المتتالية،
بالجريمة الكبرى وهي قتل الأب، أدّى شعوره بالذنب إلى نكوصه، وتحميل صفات
القوة والحماية والرعاية والعقاب والثواب إلى الأب، وقد تحوّلت عبر مرور
الزمن إلى صفات للإله، وبالتالي كانت الوصية الأولى هي "لا تقتل".
ثانياً: إنّ الأفكار الدينية ليست سوى أوهامٍ تعبّر عن الرغبات البشرية
بوجود خلاص من اعتباطية الطبيعة بما تحمله من قسوة ووحشية، وما تطرحه من
إشكالات لا حلول لها، وأهمّها مشكلة الموت، والضائقة التي يتركها شعور
الإنسان بالوحدة والعزلة واللاأمان في مواجهة الطبيعة الغادرة.
ثالثاً: لبناء الحضارة كان لا بدّ من القمع، قمع الغرائز البدائية وكان
أخطرها غريزة القتل وأكل لحم البشر وسفاح القربى، والدين لعب الدور الأكبر
فيما مضى للحدّ من الغرائز البشرية المدمّرة، ولكن تلك كانت مرحلة عابرة
في تاريخ البشر تحدّث عنها فرويد كما يلي "يمكن القول بأن الدين هو عصاب
البشرية الوسواسي العامّ، وبأنه ينبثق، مثله مثل عصاب الطفل، عن عقدة
أوديب، عن علاقات الطفل بالأب. وانطلاقاً من هذه التصورات، يمكننا أن
نتوقّع أن يتمّ العزوف عن الدين عبر سيرورة النموّ المحتومة التي لا رادّ
لها." (1)
سنستخدم هذا الأساس "الفرويدي" لنقاش بعض الأفكار "الهامّة" التي قدّمها سعيد ناشيد في مقاله "مستقبل الإلحاد".
في مقارنة ذكيّة بين المجتمعات المسيحية الغربية، والمجتمعات
الإسلامية يرى ناشيد أنه، رغم أنّ المجتمعات الإسلامية باتت من أقلّ
المجتمعات "تسامحاً مع الخروج عن الدين" وأقلّها "تحمّلاً لفكرة الإلحاد"،
فإن هذا المظهر المتشدّد ليس سوى "تعويض عن هشاشة أصليّة" تجعل الإسلام من
"أكثر الأديان انفتاحاً على أفق الإلحاد".
وفي المقابل، ومع أنّ المجتمع الغربي يبدو من أكثر المجتمعات انفتاحاً
على حرية الاعتقاد وبالتالي الإلحاد، فإن هذه التجربة باتت مُحمّلة
"بعوائق وجودية ووجدانية تجعل من الإلحاد تجربة لا تخلو من شعور دراماتيكي
بالفقد".
بعد تحليل تاريخيّ وتفكيكيّ لجوهر المسيحية وجوهر الإسلام يخرج ناشيد بالنتائج التالية:
الإله المسيحي هو أبٌ، وبالتالي فالإلحاد يعني فقدان الأب أي الشعور
باليتم، كما يعني فقدان معنى الحياة بلا أب مخلّص في نهاية تاريخ الخطيئة،
وأيضاً فقدان العناية الإلهية التي يرمز إليها الأب "الإله المسيحي"، كما
أن المخيال المسيحي تجسّد عبر التاريخ من خلال الفنّ "المحرّم إسلامياً"،
فابتداء من الصور والأيقونات قديماً وانتهاء بأحدث عروض السينما والمسرح
هناك إله مجسّد قريب ومنظور، ما يجعل تجربة الإلحاد تُصبح أصعب في ظروف
مماثلة، خاصة وأنّ "معركة المستقبل ستكون حول السيطرة على مجال الخيال".
وبالمقابل فإن الإله الإسلامي، البعيد والمتعالي، ليس أباً لأحد،
وبالتالي فالملحد المسلم لن يتيتّم. كما أنّ الإله الإسلامي لا يحمل أخطاء
البشر وآلامهم، فالمسلم "إذا مرض فلا يعيله غير جاره"، كما أنّ الملحد هنا
لن يفقد معنى التاريخ طالما أنّ هذا التاريخ "لا يخدم أيّ هدف خلاصيّ"،
وبالجملة فإنّ الإلحاد في الإسلام لن يترك ذلك الثقل الوجودي والوجداني
كما هو الأمر في المسيحية، كما أنّ معركة الخيال هنا ساقطة سلفاً، فلا
الله ولا نبيّه سُمح بتجسيدهما في الثقافة الإسلامية.
ما نستنتجه من هذا التحليل أنّ مستقبل الإلحاد سيكون إسلامياً، ومستقبل الأوهام "الدينية" سيكون مسيحياً غربياً.
ملاحظاتنا… بالقياس إلى الأفكار التي عرضناها في المقدمة نرى بأن الحاجة
الإنسانية إلى وجود إله هي حاجة براغماتية تجد مبدأها الواقعي، ومبررها
الرمزي، في الحاجة الطفلية إلى الأب، (وخاصة في حضارة شيّدها الذّكر) كما
أنه من خلال التطوّر التاريخي لفكرة الله وانتقالها الصاعد من الحيوان
الطوطم عند الإنسان البدائي، مروراً بالآلهة التي تعيش في أعالي جبال
الأولمب عند الإغريق، وصولاً إلى الإله الذي يعيش فوق السماء السابعة
إسلامياً، نجد الأساس السيكولوجي ذاته مع تطور الفكرة من الأكثر عيانية
ومادية إلى الأكثر تجريداً وعلواً، والمظهر السطحي لفكرة المسيح كابن
الله، (الأمر الذي ارتكز عليه تحليل ناشيد) لا يعبّر سوى عن مرحلة تاريخية
لتطوّر فكرة الله نفسها.
الآن، ماذا عن المجتمعات المعاصرة، المسيحية والإسلامية؟ إنّ ما يجعل من الإلحاد أمراً معقّداً اليوم في المجتمعات الغربية، أو
وبالعكس، ما يجعل من تلك المجتمعات ترتدّ نحو الدين، ليس هو قرب الإله
المسيحي من الضمير الفردي للإنسان الأوروبي، وليس نتيجة لسيطرة المسيحية
بتجلياتها الفنية على الخيال الجمعي، بل لأنّ التديّن هناك، عموماً، فقد
شكله العصابي، أي فقد حمله الثقيل على الضمير والأنا الأعلى، وبات خياراً
ثقافياً، وملئاً لفجوة روحية باقية، فمن الممكن للأوروبي أن يكون مؤمناً
ومثلياً، وبالعلن(الأمر الذي يهتزّ العرش الإلهي لأجله في الإسلام أو في
عصر محاكم التفتيش في أوروبا)، أو مؤمناً ويعيش مع صديقته وينجب الأطفال
بلا زواج أو قبله (فهو إذاً زاني أو ابن زنا في الإسلام) …إلخ، وهذا ما
يُفقد الإلحاد معناه القائم على التمرّد ضدّ الدين وتشريعاته الحاكمة.
ليست مشكلة الإنسان الرئيسيّة هي في الإله نفسه، بقدر ما هي ناتجة
عمّا يتركه هذا الإله من أثر على الإنسان، وما يتطلبه من فروض والتزامات
لاعقلانية وتعسفية، (المشكلة في التشريعات لا في الذات) وكلما كانت تلك
التشريعات أكثر ديكتاتوريّة وأكثر تحريميّة كلما زادت بالمقابل فرص
الإلحاد.
بعد كانط تحولت مشكلة الله من مشكلة عقلية وفلسفية إلى مشكلة أخلاقية
حيث العقل النظري المحض لا يمكنه إثبات أو نفي وجود الله، وبعد هيغل تحول
الله من كائن مُخيف ومشغول بأعمال البشر ومحاسبتهم، إلى فكرة مطلقة لا
تكترث بأعمال البشر ومشاعرهم، وبات على الإنسان الناضج أن يقبل بتناقضات
الحياة كما هي وبدون حلول، أما الاكتفاء القسري بأحد حدّي التناقض فأصبح
معياراً لعدم النضج، وعلاقة الـ إما /أو المتشنّجة، بقيت لراحة عقول
البسطاء.
الإلحاد برأينا هو العلاقة العصابية المقابلة للإيمان الديني العصابي،
وهو الجواب السهل والمتسرّع بالنفي، والذي لا يختلف عن الجواب الديني
القطعي بالإثبات، ولذلك رأينا كيف تحوّل الكثير من الشيوعيين العرب، وغير
العرب، بين ليلة وضحاها بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، من ملحدين متمرّدين
إلى مؤمنين ملتزمين، ولذلك أيضاً، ونحن نتفق في هذه النقطة مع الأستاذ
سعيد، كان الإسلام هو من أكثر الأديان انفتاحاً على أفق الإلحاد(ولكن هنا
برأينا نقطة ضعفه وعدم نضجه) فالدين الإسلامي اليوم هو من أكثر الأديان
انفتاحاً على العُصاب والعلاقة العصابية المأزومة مع الله وبالتالي بين
البشر.
من جهة أخرى نجد أنّ الصور والأيقونات والكاتدرائيات والمسرح
والسينما، ترفع القداسة عن الإله "الأب" المسيحي في الغرب وتبعده بقدر ما
هو قريب، وبالمقابل فإنّ انعدام وجود تلك الأشياء في الحياة الإسلامية
إضافة إلى طبيعة الطقوس الإسلامية المتواترة نفسها، تقرّب الإله (مع
تخيلاته الجهنميّة)، رغم تعاليه وبعده، فبين الإله المسيحي الذي لا تراه
سوى يوم العطلة وفي المناسبات الرسمية، والإله الإسلامي الذي يحضر خمس
مرات في اليوم ما عدا أيام الجمعة والمناسبات، تتجلى حقيقة السيطرة على
المخيلة واستلابها الديني، وهذا ما يقلب مشكلة الصراع على مجال الخيال
التي طرحها ناشيد رأساً على عقب.
من المُلاحظ في المجتمعات الغربية أن الميل العام نحو استخدام مصطلح
العلمانية بات أكثر وجوداً مما هو نحو كلمة إلحاد، والعلمانية هي الحياد
الإيجابي نحو التدين واللاتديّن، وطالما أنّ الدين لا يفرض تشريعاته
ومؤسساته وطقوسه فرضاً على المجتمع المدني، فلا مشكلة فيه أو معه، ونعتقد
أن الردّة الدينية العالمية اليوم، وليست فقط الأوروبية، تعود لأسباب
متعددة، نذكر منها على سبيل المثال، أميركا المتديّنة وسياساتها الخلاصية،
استفحال العنف المُعولم والمُشاهد تلفزيونياً، تخلّي العلم عن إطلاقيته
القديمة ونحوه باتجاه الاحتمالية والنسبية، الأزمة التاريخية للإسلام
وردود فعله المتطرفة…إلخ.
أخيراً… لا نشاطر فرويد رأيه بنهاية الوهم الديني من التاريخ البشريّ، فالوهم
جزء من الحقيقة البشرية، بل نظنّ بأنّ الله سيرتفع لمستوى البشر، بمعنى
أنّ الله سيتخلّى عن دوره القديم الذي عرضته الديانات منذ الطوطمية حتى
الإسلام، ليأخذ دوره في الحاجة البشرية إلى المطلق، ربما بالعودة إلى
المحرك الذي لا يتحرك والمعطّل عن الحركة كما وصفته ميتافيزيقا أرسطو.
فمستقبل الأوهام هو مستقبل تحوّل الأوهام وتطوّرها، من أوهام بدائية
قسريّة وطفليّة، إلى أوهام أكثر نضجاً وأوسع رحابة وأقلّ جهنميّة، أمّا
مستقبل الإلحاد فإن كان صحيحاً أنه سيكون إسلامياً، فنحن ننتظر نهاية ذلك
اليوم علّنا نصنع علاقة أكثر توازناً وأكثر عقلانية، وأقلّ انفعالية
وحدّية مع فكرة وجود الإله "الأب" أو عدم وجوده.
اريخية مستقبلية