سوسية ثـــــــــــــــائر نشيـط
الجنس : عدد المساهمات : 159 معدل التفوق : 341 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 05/03/2012
| | ذاكرة أخيرة ﻻ تموت حصَّه حمرور | |
ذاكرة أخيرة ﻻ تموت حصَّه حمرور الحادية عشر والثلث مساءً، أبتلعُ قرصين من مسكن أتناولهُ لأول مرة، أتبعه بكأس لبنٍ بالكمونْ.. التلفاز يبث برنامجاً وثائقيا عن اكتشاف علاجٍ جديد لمرض الزهري بينما الصوت مكتوم تماماً، لا أرى سوى مشاهد لمختبرات كئيبة مكتظة بالزجاجات المملوءة بسوائل ملونة، وأقفاص صغيرة بها فئران متسخة ومذعورة، ثمة أنابيب ضخمة وأخرى رفيعة تتصل بطريقة منهكة ببعضها البعض، رجال ونساء يظهرون بنظارات طبية قبيحة، لا أحاديث تسري بينهم، كأنهم آلات بشرية كلٌ منها منهمك في عمله الدقيق والرتيب. بعيداً عن التلفاز أُدير موسيقى اللاهوتْ الهارب والذي طرح البكاء يوماً في زوايا المنزل، لا أعلم من أهداني هذا الكاسيت يوماً، ولم؟ لكن .. كيف قبلتُ به؟ .. إنها الموسيقى التي لا تزال تخذل المرآة الشاسعة، المرآة التي في لغتي.. اللا إنعكاس لصورة القيامة الخاشعة .. شُجيرات الشرفة تشهق برقة في هذا الجو الغائم، كأنها تشي بقدوم زائر مبلل بالمطر، لا شيء يحدث حتى الآن، سوى أن اللوحة التي عليها صورة فلاح عجوز يحصد القمح قبيل المغرب يخرج يده الملطخة بالطين من الإطار ليفتح الباب للزائر، بينما لا أزال جالسة في مقعدي الجلديّ.يدخل بروية قادماً نحوي، لا صوت لوقع قدميه، سوى سيل من ريحٍ خفيّة تأتي به إلي، حاملاً في يده علبة مسكّني الأصفر والقديم، تتدلى من ربطة عنقه ببوهيمية تلك الموسيقى الضاحكة، يخرج من عينيه الجزء الأكبر من ذاكرتي التي وجدها منثورة في شارع المطار، لملمها بينما كان عائداً من سفر مجهول، أتى بها غير مهندمة، توجس جبيني البارد بإبهامه الخشنة، وأنا معلقة عيناي على يديّ اللتين تصليان بسكون تام، وثمة زفير خافت أسمعهُ يخرج من فمي خالياً من أي رجفةٍ، أشحتُ ببصري .. كنت قد بدأت أرى روحي معلقة بشقاوة على ستار الصالون، والطفلة التي فيَّ تنتزع نفسها مني وتفاجئني بملامحها المختلفة عني تماماً، ترفع من صوت التلفاز وهي تغير المحطة إلى فيلم للأطفال، تحاكي رقص البطلة الشقراء دون أن تنبس ببنت شفة، الثريا الرخامية للصالون تتحول إلى أخطبوط ضخم وجذاب، تمد إحدى أذرعتها لتعقد ضفائري ببعضها، عود جاري العجوز الذي اختلسته بعد موته دون علم أبنائه، ينهض من سكونه ويتحول إلى عازفٍ شرقيّ أسمر منزوٍ في ركن مظلم، يعزف مقطوعة يرثي فيها صاحبه القديم، بينما تتعرق يداه ووجهه وهو يتمتم بكلماتٍ لا تتناسب مع المقطوعة.أشعرُ بدوارٍ يُسمعني صوت البحر، أغلق عينيّ.. بوسعي الآن أن أتذكر شيئاً من أسمائي المحرمة على ما يبدو، بدأت أتعرف على الزائر الأبيض الملتحي، وكأنني أتمشى برفقٍ على صوته الطريّ، والرب الذي أودع الصمت التائب في قلبي ها هو يشغلني عني أخيراً.بدأت أتذكر كل شيء طُمر بعناية في صدري، الأشياء تتدفق بيسر حذر إلى عقلي، كتسلق سنجاب صغير على جذع شجرة لأول مرة بينما الخوف والربكة والجهل تعتريانه، أحب هذا الشعور، انتمائي إلى الذاكرة يذكرني في كل وردة تعرت من رحيقها لتحزن معي، حينما كنت وحيدة، وأنا أُمرر قلبي الذابل بين أكف الشمس، وسرب إوز تشتمُ وحدتي المفزعة، وتحيك مصيدة لطرد نذير شؤمي من بستانهن، بستان ها أنا أحاول جاهدة تذكر مكانه دون جدوى، وكأنني أملك رغبة جارفة الآن في نسيان كل شيء مقابل تذكر مكانه، لا يهم، الحلم الفضفاض يعدو إليّ وفي يده سلة كبيرة بها فاكهة جوافة واحدة شهيّة، ورسالة صغيرة من الفلين القرمزي فارغة إلا من توقيعٍ ساخر، وابتسامة غائب من تحت التراب، وابتهال متقد بصوت أُمي يرتديني، ليتوبَ عني وينير درب الخلاص الأخضر. إسمي ذاكرة، عند منتصف الليل تذكرت إنني إنسان انتهت دورة حياته بتذكر شيء جميل._____________________كاتبة من الإمارات | |
|