Admin Admin
الجنس : الابراج : الأبراج الصينية : عدد المساهمات : 92 معدل التفوق : 167 السٌّمعَة : 0 تاريخ الميلاد : 20/02/1966
تاريخ التسجيل : 10/12/2011 العمر : 58 الموقع : كل الساحات العربية الثائرة العمل/الترفيه : مستعد للشهادة في سبيل الحرية المزاج : ثائر حتى النخاع
تعاليق : ثائر أحمل روحي في كفي اليمنى وحريتي تسبق آهاتي .. لا ابالي أدبا فأنا ذقت طعم الحياة .. ذقت طعم الكرامة " حرية عدالة وكرامة
| | الثورات الشبابية العربية كنتاج لفشل الديمقراطية الابوية الموجهة الجزءالثالث | |
القول بإعادة النظر لا يعني التخلي عن الديمقراطية بل إعادة النظر بفهمنا وبممارستنا للديمقراطية والابتعاد عن محاولات استنساخ التجربة الغربية أو الجري وراء أوهام الدلالة اللغوية للكلمة،وأن نأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي تطرأ على علاقة النظم السياسية بالخارج و بالمتغيرات التي تطرأ على المشهد الثقافي في مجتمعاتنا وخصوصا ظاهرة المد الأصولي والعنف السياسي و الإرهاب وبروز الجماعات الطائفية والإثنية ،التي كانت تشكل ثقافات فرعية غير مسيسة وبالتالي لم تكن حاضرة كقوى سياسية عندما بدأت النخب السياسية العربية تتعامل مع ظاهرة الديمقراطية قبل عدة عقود.
من خلال تجربة العقود الأربعة الماضية في البحث عن مخارج ديمقراطية لأزمات مجتمعنا العربي ،ومن خلال ما يجري على الأرض اليوم من حراك سياسي يستظل بظل شعارات الديمقراطية، أو ما يجري في فلسطين و العراق من إقامة أنظمة (ديمقراطية) في ظل الاحتلال وفي ظل وجود جماعات وشعب مسلح ،من خلال كل ذلك فأن الحاجة تدعو لإعادة النظر إما في مفهوم الديمقراطية المتعارف عليه أو في توصيف ما يجري بأنه تحول ديمقراطي.
إن سؤال: هل توجد ديمقراطية في العالم العربي أم لا ؟أصبح متجاوزا أو من الصعب الإجابة عليه انطلاقا من المقاييس والمؤشرات التقليدية حول وجود أو عدم وجود ديمقراطية. الديمقراطية الموجودة في غالبية الأنظمة العربية القائلة بها ليست تعبيرا عن إرادة الأمة بقدر ما هي استجابة-بالمفهوم الإيجابي والسلبي للاستجابة- لاشتراطات خارجية وتحديات داخلية ليست بالضرورة تعبيرا عن توفر ثقافة الديمقراطية،فقليلا ما نرى أو نسمع عن مظاهرات ومسيرات كبيرة للمطالبة بالديمقراطية – باستثناء ثورتي تونس ومصر- ،فيما تستطيع قوى اليسار أو الإسلامي السياسي إخراج مظاهرات مليونية لنصرة غزة أو العراق مثلا أو للتنديد بإهانة الرسول.باستثناء العربية السعودية وليبيا فإن كل الأنظمة العربية سواء كانت ملكية أم جمهورية ثورية أو عسكرية،غنية أم فقيرة… تصنف نفسها بأنها ديمقراطية أو تسير نحو الديمقراطية أو لا تعارض الانتقال الديمقراطي، وفي جميع الحالات سنجد ما يربط كل نظام سياسي بآلية ما أو مظهر ما من مظاهر الديمقراطية كوجود انتخابات أو دستور عصري أو مؤسسات تشريعية أو تعددية حزبية الخ ،ومع ذلك يبقى السؤال: أية ديمقراطية توجد في هذه الأنظمة.
قد نبدو مبالغين إن قلنا بان لكل نظام عربي تصوره وتطبيقه الخاص للديمقراطية وبعضها غير مسبوق تاريخيا ويعتبر اختراعا عربيا بجدارة -كالنظام القائم في ليبيا - إلا أن هذه المداخل لن تؤدي لديمقراطية حقيقية لأنه ليس واردا عند الأنظمة أن تؤسس ديمقراطية تؤدي للتداول السلمي على السلطة وإشراك الشعب في الحياة السياسية إشراكا فاعلا ومسئولا .أيضا يجب تجنب المبالغة في الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي بشكل عام وكأن العالم العربي دولة واحدة أو مجتمع واحد.بعيدا عن الخطاب الأيديولوجي العروبي ومع عدم تجاهل وجود قواسم مشتركة كاللغة والدين وعادات وتقاليد،فإن الواقع يقول بوجود أثنين وعشرين نظاما وكيانا سياسيا لم تتشكل كلها ضمن نفس الشروط التاريخية والموضوعية،فلا يجوز أن نضع في سلة واحدة الدولة المصرية ذات الخمسة آلاف سنة من الوجود مع دولة الإمارات العربية ذات الأربعين سنة من العمر،كما لا يجوز وضع المغرب بتاريخه وخصوصيته الثقافية والسياسية مع لبنان بخصوصيته وشروط تشكله التاريخي،نفس الأمر بالنسبة لتونس والكويت أو الجزائر أو فلسطين الخ.
رابعا:انسحاق الديمقراطية ما بين مطرقة الأنظمة وسندان الإسلاموفوبيا
ما بين مطرقة السلطة وسندان جماعات إسلام سياسي أنتجت ظاهرة الإسلاموفوبيا، تم سحق الأوطان والقوى الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي.انسحاق الأوطان التي تشكل فضاء للحرية والمساواة والعيش الكريم لكل مكونات الشعب دون تمييز طائفي أو عرقي،وانسحاق القوى التي ناضلت لعقود للانعتاق من ربقة الاستبداد والتخلف والمتطلعة للحداثة والتقدم واحترام حقوق الوطن والمواطن وتحويل الشعب من ساكنة ورعايا إلى مواطنين وتحويل الأرض التي يقيمون عليها من محل إقامة إلى وطن يفتخرون بالانتساب إليه والعيش فيه.
كل مراقب لأوضاع العالم العربي سيلاحظ ارتكاسة الفكر والواقع العربي من فكر يدعو للتقدم والتحرر والوحدة العربية إلى فكر طائفي وقبلي أو وطني مأزوم يجاهد للحفاظ على تماسك الدولة الوطنية حتى في ظل استبداد أنظمة الحكم القائمة ،هذه الأخيرة التي باتت تبرر استبدادها واستمرارها بالحكم بذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية ومواجهة المخططات الخارجية ومواجهة التطرف الديني!. في ظل ما يسمى بالانتقال الديمقراطي والانتخابات التي تحولت لأداة لشرعنة الطائفية والإثنية والاستبداد وتأكيد حضورها كحقيقة يجب التسليم بها أرتكس الواقع العربي لمزيد من الفقر وتدهور العدالة الاجتماعية و لحالة من الفتنة والطائفية والإثنية تتعايش بل تتعاظم.
المراقب للانتخابات التي جرت خلال العقدين الأخيرين سواء من حيث القوى المتصارعة على السلطة أو الفائزة في الانتخابات سيلمس ضعف حضور القوى السياسية – أحزاب وشخصيات- الوطنية والقومية التي كان لها دور الريادية في مواجهة تسلط الأنظمة ،حيث باتت الحياة السياسية اليوم شبه ثنائية قطبية ،النظام السياسي وحزبه ونخبه من جانب وجماعات الإسلام السياسي من جانب آخر،المراقب سيلمس ضعف الروح والفكرة الوطنية الجامعة عند الأطراف الكبرى المتصارعة على السلطة،الأمر الذي أدى لأن تفقد الأحزاب والحركات السياسية ثقة الجمهور بل بات الجمهور ينظر لها كعبء على الحالة الوطنية.
لم تكن الحياة السياسية العربية أرضا يبابا تسودها الدكتاتورية والاستبداد والجهل قبل ظهور جماعات الإسلام السياسي وصراعها مع أنظمة الحكم القائمة .لعقود والديمقراطيون الحقيقيون يناضلون بكل أشكال النضال ضد أنظمة الاستبداد بكل تلاوينها الرجعية اليمينية و(الثورية التقدمية )،من المغرب إلى مصر وسوريا والعراق ومن عُمان إلى السودان والصومال .ربما لم تكن الديمقراطية العنوان الأبرز للمناضلين الأوائل ،ولم تكن الانتخابات الوسيلة الوحيدة لمقارعة السلطة الحاكمة ولاختبار قوة الحضور الجماهيري، ولكن نضالاتهم كانت تصب في جوهر النضال الديمقراطي ما دامت من أجل الحرية وضد الاستبداد ،لقد سيِّروا المظاهرات وقاموا بالاعتصامات وحملوا السلاح أحيانا ودخلوا السجون والمعتقلات واستشهد كثيرون دفاعا عن كرامة وحرية الوطن والمواطن .خلال هذه المسيرة الطويلة الممتدة ما بعد الاستقلال مباشرة حتى نهاية الثمانينيات راكم المناضلون إنجازات مهمة حيث ساهمت في إثارة الرأي العام وخلقت حالة من الوعي الجماهيري دفعت الأنظمة لتخفيف قبضتها الأمنية و للتفكير بمصالحة قوى المعارضة ومحاولة استمالتها .خلال هذه المسيرة لم تكن جماعات الإسلام السياسي جزءا من الحركة النضالية الشعبية التقدمية والديمقراطية المتصادمة مع أنظمة القمع والاستبداد.بعض الجماعات الإسلامية كحزب التحرير وبعض فروع الإخوان المسلمين دخلت بمواجهات ساخنة مع أنظمة عربية ولكنها لم تكن تندرج ضمن النضال الديمقراطي بل كانت أقرب لمحاولات الانقلاب على السلطة للهيمنة عليها وتطبيق الإيديولوجية الدينية لهذه الجامعات وهي أيديولوجيا غير متصالحة مع الديمقراطية بل كانت آنذاك تنظر بريبة للديمقراطية و الديمقراطيين.
كانت نقاط التباعد ما بين جماعات الإسلام السياسي وأنظمة الحكم لا تقل عن نقاط التباعد بينها وبين القوى التقدمية والديمقراطية ،وفي كثير من الحالات كانت الجماعات الدينية تأخذ موقع المحايد المراقب لما يجري من تصادم بين الأنظمة ومعارضيها من السياسيين ،وبعضها كان اقرب لمواقف الأنظمة لأنها لم تكن تؤمن بالديمقراطية وثقافتها وأحيانا كانت تنظر للقوى الديمقراطية باعتبارها علمانية وكافرة ،وقد وظفت بعض الأنظمة جماعات إسلامية لمحاربة معارضيها التقدميين والديمقراطيين .
صحيح أن جماعات الإسلام السياسي وخصوصا الإخوان المسلمين واجهت في بعض المراحل الأنظمة وعانت من الأنظمة وكانت تريد تغيير الوضع القائم ولكن لم يكن واردا عندها تأسيس نظام ديمقراطي يؤمن بالمشاركة والتعددية السياسية ،كانت تريد إحلال استبداد أنظمة وضعية باستبداد أنظمة دينية،ومن هنا لاحظنا أن جماعات الإسلام السياسي لم تدخل في تحالفات ثابتة مع القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية في أي دولة عربية،وكنا وما زلنا نسمع عن القوى الإسلامية والقوى الوطنية أو القومية ،ونسمع عن الصحف الإسلامية والصحف الوطنية والقومية ،لم يكن مفهوم الوطن والهوية والثقافة عند الجماعات الإسلامية يتوافق مع مفهومهم عند القوى الوطنية والقومية والتقدمية –ما لاحظناه أخيرا في مصر من تنسيق بين الأخوان المسلمين وقوى تقدمية ووطنية بعد الانتخابات لا يعدو كونه ردود فعل انفعالية على نتائج الانتخابات أكثر مما هي مؤشر على تحالف دائم -.
ما كان يبدو حراكا ديمقراطيا في العالم العربي كان يخفي دوافعا غير ديمقراطية عند القوى الرئيسة الكبرى في هذا الحراك ،حيث تم نزع راية النضال الديمقراطي ومصادرة الفكرة الديمقراطية المنبثقة من الإرادة الحرة للشعب بالتغيير الديمقراطي من يد الديمقراطيين الحقيقيين لتتسلمها أو تستلبها أطراف تقول بالديمقراطية ولا تؤمن بها . الديمقراطيون الحقيقيون في العالم العربي تمت محاصرتهم من ثلاثة قوى:أنظمة الحكم ونخبتها، جماعات إسلام سياسي لا تؤمن بالديمقراطية ،واشنطن ورؤيتها لديمقراطية تخدم سياسة ( الفوضى البناءة ) في المنطقة . لا شك أن الجماعات الإسلامية ليست على نفس الدرجة في اقترابها من الديمقراطية وبالتالي ليست على نفس الدرجة في صدقها بالدخول في العملية الانتخابية.بعض جماعات الإسلام السياسي وطَّنَت أيديولوجيتها الدينية وعقلنت خطابها بحيث بات أكثر تسامحا وقبولا بالآخر ،هذه الجماعات تقبل مبدأ الشراكة السياسية ومستعدة للعودة لصفوف المعارضة إن خسرت الانتخابات ،إلا أن جماعات أخرى دخلت الانتخابات بروح جهادية أو بعقلية الغزو والفتح،دخلت الانتخابات ليس إيمانا بالديمقراطية ولكن كوسيلة للسيطرة على السلطة بعد أن فشلت في الوصول إليها بوسائل أخرى،ولذلك نجد هذه الجماعات توظف كل ما لديها من إمكانيات مالية ولوجستية وخطاب ديني متشنج لكسب الانتخابات وفي حالة نجاحها لن تسمح بانتخابات أخرى.
ومع ذلك فإن ما وصلت إليه الأوضاع العربية من انسداد أفق على كافة المجالات وما وصلت إليه الأنظمة من ترهل ومن تباعد عن مصالح الجماهير الشعبية يتطلب إفساح المجال لكل القوى السياسية للمشاركة في الحياة السياسية لأنه لا يُعقل أن تكون شعوبنا عاقرا وغير قادرة على إنتاج قيادات جديدة ونخب جديدة ،فعقود من النضال السياسي متعدد الجبهات والانفتاح غير المسبوق على العالم الخارجي جعلت الجماهير العربية أكثر إدراكا ووعيا لمصالحها وحقوقها وأكثر جرأة على مقاومة الطغيان وما يجري في تونس والجزائر ومصر والسودان واليمن مؤشر على الثمن الذي يمكن أن تدفعه الأنظمة إن تجاهلت مصالح شعوبها وأعاقت الممارسة الديمقراطية الحقيقية وهو ثمن ستدفعه أيضا الدولة الوطنية ليس فقط كنظام حاكم بل كوجود .
صحيح أن خطاب وشعارات بعض جماعات الإسلام السياسي تثير القلق بل والرعب ،ولكن الغرب الاستعماري وأنظمة الحكم يضخموا وبشكل مبالغ فيه من خوف الجمهور من هذه الجماعات ليس دفاعا عن المصلحة الوطنية أو لان هذه الجماعات تشكل بالفعل تهديدا للمصلحة والوجود الوطني بل لخوف الأنظمة ونخبتها من فقدان مواقعها وامتيازاتها،كما أن الأنظمة توظف فزاعة الإسلام السياسي –الإسلاموفوبيا- لقطع الطريق حتى على القوى التقدمية والديمقراطية الحقيقية.لقد رأينا كيف أن الخاسر في الانتخابات الأخيرة في مصر وقبلها الأردن والمغرب والكويت والعراق ليست جماعات الإسلام السياسي فقط بل كل القوى الديمقراطية الحقيقية ومجمل المسار الديمقراطي.
حالة الاستقطاب ما بين أحزاب السلطة وجماعات الإسلام السياسي ،وتراجع شعبية وفاعلية الأحزاب السياسية بشكل عام عززا من قوة حضور المجتمع المدني وقطاع الشباب غير المسيسين ،هذه القوى الصاعدة باتت أقوى من الأحزاب من حيث قدرتها على تحريك الشارع وهذا ما لمسناه في الثورة التونسية وفي الثورة المصرية أيضا.
خامسا: انقلاب الانتخابات على أصولها الديمقراطية
ارتباطا بما سبق ،فعندما تختزل الديمقراطية بالانتخابات وتكرس هذه الأخيرة سيطرة الحزب الحاكم والرئيس الأبدي وتنتج برلمانا بدون معارضة وتعيد أنتاج نفس النخب المسيطرة،وعندما تتواكب الانتخابات مع القهر والفتنة والفوضى وتفتح المجال لتدخل قوى أجنبية ،وعندما تؤدي الانتخابات إلى تعزيز واستنهاض الطائفية والعرقية والقبلية والعائلية وزيادة بؤس ومعاناة الشعب ، فهذا مؤشر على انحراف الانتخابات عن وظيفتها الديمقراطية وعن ردة ديمقراطية تحتاج لمزيد من الدراسة والبحث. الانتخابات والديمقراطية الشكلانية والموجهة في العالم العربي انقلبت على ماهيتها ووظيفتها الأولى بحيث أصبحت أداة لوأد الديمقراطية وتهميش الديمقراطيين الحقيقيين،والنتيجة الحتمية لكل ذلك هو ما نشهده في تونس والجزائر ومصر وحالة انسداد الأفق في بقية البلاد العربية .
صحيح، إن مأزق الديمقراطية الشكلانية وتعثر الانتخابات في إحداث عملية انتقال ديمقراطي سلمي بات ظاهرة عرفتها أكثر من دولة، أخرها ساحل العاج، ولكنها في العالم العربي وخصوصا في مشرقه من فلسطين إلى العراق ومصر وقبلهم الجزائر ،أكثر خطورة ودلالة مما هي في بقية العالم . تعثر الانتخابات والانتقال الديمقراطي في بعض الدول الإفريقية يمكن فهمه لقرب عهد هذه الدول بالديمقراطية وبالمسألة الانتخابية،ومع ذلك فالانتخابات تؤسس هناك لبدايات ممارسة ديمقراطية ،أما في الدول العربية التي لها تجارب سابقة من ممارسة الانتخابات والحياة البرلمانية وبعضها منذ بدايات القرن العشرين،وبما لها من إمكانيات مالية وانفتاح نخبها على الغرب وثقافته وتجربته الديمقراطية ،فإن مؤشرات مقلقة لا تخفيها العين تشير لتراجع عن كثير من المنجزات الديمقراطية التي تحققت سابقا وتشير لمحاصرة الديمقراطيين الحقيقيين ،يجري ذلك باسم الديمقراطية وبتوظيف احد أدواتها – الانتخابات - .
وكما سبقت الإشارة فإن ما استجد أخيرا على المشهد السياسي في العالم العربي ،زعم جميع الأنظمة بأنها ديمقراطية أو لا تعارض الانتقال إلى الديمقراطية ولكن كل منها بطريقتها الخاصة،حيث لكل نظام عربي ديمقراطيته الأبوية الخاصة به.كانت الانتخابات والاستفتاءات على شخص الرئيس المرشح الأوحد (حامي حمى الأمة وراعي الديمقراطية ) ،مدخل جميع الأنظمة لولوج عالم الديمقراطية بحيث تم تعميم الانتخابات وخصوصا التشريعية والأخذ بها من طرف غالبية الأنظمة العربية مع تراجع المكونات الأخرى للديمقراطية ،حتى يجوز القول بأنه تم اختزال الديمقراطية بأحد أدواتها – الانتخابات - ،وتهميش كل مقومات الديمقراطية الأخرى وخصوصا ثقافة الديمقراطية والتربية الديمقراطية والإيمان بالتعددية وقبول الآخر والتوافق المسبق على ثوابت ومرجعيات الأمة التي لا تخضع للعملية الانتخابية وأخيرا كون الديمقراطية تعبيرا حرا عن إرادة الأمة وليس خضوعا لإملاء قوى خارجية لا يعنيها دمقرطة المجتمع بل خلق الفتنة ،تحولت الانتخابات من أداة لهدف بحد ذاته ،من أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية التي يفترض أن الديمقراطية ما قامت إلا لأجلها لهدف من خلاله يتم تكريس النظام القائم وشرعنة الاستبداد والاستغلال وكأن الانتخابات وجدت من اجل إضفاء شرعية دستورية على الحكام وليس من أجل الشعب.
حتى على مستوى العملية الانتخابية، فعندما قررت الأنظمة -برضاها أو بسبب الضغوط الخارجية –التعامل مع الاستحقاق الانتخابي تعاملت معه كمجرد آلية ميكانيكية إحصائية لتحديد من يحصل على أكبر نسبة من الأصوات،آلية يمكنها التحكم فيها وضمان نتائجها ،وتجاهلت هذه الأنظمة أن الانتخابات ثقافة أيضا،ثقافة المواطن وثقافة القائمين والمشرفين على عملية الانتخابات ،إنها الاختيار الحر للشعب ،الواعي والمدرك لفعله ولنتائجه،في المشاركة السياسية.لقد شكلت اللعبة الديمقراطية الشكلانية ليس فقط غطاء للاستبداد وملهاة للقوى السياسية ومدخلا للقوى الشعوبية لشرعنة وجودها بل حلت أيضا محل الفكر والنضالات الثورية والتقدمية حيث همشت كل المنظومة الفكرية التحررية والتقدمية والوحدوية التي طبعت الفكر العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال مباشرة.
من خلال العملية الانتخابية الحقيقية يمكن قياس حضور وشعبية الأحزاب والقوى السياسية وإتاحة الفرصة للشعب للمشاركة السياسية بطريقة مباشرة من خلال الوصول للمؤسسات التشريعية أو بطريقة غير مباشرة باختيار من يمثلهم ،وبالانتخابات يتم إعمال مبدأ التداول السلمي على السلطة بين قوى تؤمن بالديمقراطية ومستعدة للتخلي عن السلطة في الجولة القادمة للانتخابات إن فقدت ثقة الشعب،وأهم من ذلك، فإن الانتخابات تعتبر لحظة مفارقة ومتميزة في حياة المواطن ففيها يشعر المواطن بأنه سيد وصاحب قرار في تحديد من سيتولى السلطة ،المرة والفرصة الوحيدة التي يتودد فيها الكبار للمواطن ليمنحه صوته .
عندما نُحيل الانتخابات - بالمفهوم المشار إليه أعلاه - إلى الديمقراطية ونربط هذه الأخيرة بالثقافة الديمقراطية وبحرية المواطنين بالتعبير الحر عن إرادتهم إنما لتحرير الانتخابات من حالة الابتذال التي صارت عليها العملية الانتخابية في الدول العربية حيث اختزلت لمجرد ماكينة أو عملية حسابية .في الانتخابات الديمقراطية الحقيقية لا يُعد عدد المشاركين بالانتخابات أو عدد الأحزاب المشاركة المقياس الوحيد على وجود ديمقراطية من عدمه ،أيضا لا تعتبر الشعارات المرفوعة أو الأموال المهدورة على العملية الانتخابية مقياسا على وجود الديمقراطية .المقياس على وجود انتخابات ديمقراطية هو توفر الإرادة الحرة للمواطن في التعبير عن رأيه من خلال ورقة الانتخاب بحرية لا أن يكون مضطرا لبيع صوته برغيف خبز أو بحفنة من المال أو تحت الترهيب والضغط أو تحت بريق شعارات وأيديولوجيات مخادعة.الانتخابات في بلادنا العربية لم تعد تنافسا حرا بين مواطنين أحرار،يدركون ما لهم من حقوق وما عليهم من التزامات لتمثيل الأمة بل باتت صراعا بين أصحاب المال والنفوذ للهيمنة على السلطة لخدمة مصالح فئوية وحزبية لا مصالح الأمة ،وسط هذا الصراع ولخدمته يتم توظيف كل الأيديولوجيات من طرف كل من هب ودب بشكل مبتذل وتوظيف أموال منهوبة من الشعب أو جاءت من مصادر مشبوهة ،أما غالبية الجماهير الشعبية المسحوقة والمُضَللة والتي تدعي القوى المتصارعة على السلطة بأنها تمثلها وتنطق باسمها ،فتتحول لمجرد أدوات ينتهي مفعولها بانتهاء العملية الانتخابية.
إن الملاحظ لمجريات الأحداث المرتبطة بالمسار الديمقراطي الذي تم اختزاله بالماكينة الانتخابية منذ الانتخابات التشريعية في الجزائر في ديسمبر 1992 مرورا بالانتخابات التي جرت في المغرب وتونس والأردن والكويت والبحرين وفلسطين الخ– مع أن للانتخابات الفلسطينية خصوصية داخل الخصوصية العربية - وانتهاء بالانتخابات المصرية بداية ديسمبر 2010،سيلاحظ أن الصراع أو التنافس لم يكن على أساس برامج سياسية واجتماعية وحول مفاهيم ومفردات الديمقراطية بل كانت مواجهة مكشوفة بين السلطة وأعوانها ونخبها من جانب ومعارضة إما ضعيفة وممزقة أو غير متصالحة مع الديمقراطية كالجماعات الإسلامية من جانب آخر،أما الأحزاب والقوى السياسية الديمقراطية العريقة فبالكاد كان يُسمع صوتها أو لها تأثير في مجريات العملية الانتخابية أو نتائجها، والأدهى من ذلك أن بعض هذه القوى كانت تضطر للتحالف إما مع النظام وحزبه أو مع جماعات الإسلام السياسي مع علمها بان كلا الطرفين لا يؤمن بالديمقراطية إيمانا صحيحا. أيضا فإن المنعطف الخطير الذي تسير فيه الانتخابات أنها باتت تنافسا بين قوى وأحزاب بدون مرجعية وثوابت قومية توحدها،لم تعد انتخابات وتنافس بين برامج في إطار ثوابت ومرجعيات بل تنافسا وصراعا على الثوابت الوطنية ذاتها،فيما ثوابت الأمة يجب ألا تخضع للتنافس الحزبي ولنتائج الانتخابات بقدر ما تحتاج لتوافق كل القوى السياسية والاجتماعية.ارتداد الانتخابات في العالم العربي على أصولها يعكس أزمة ديمقراطية ولا شك ولكنها تعكس أيضا أزمة مشروع وطني وأزمة ثقافة وهوية .
ما يجري في تونس ومصر هو نتيجة تراكم فشل الديمقراطية الأبوية والموجهة ،إنه حصاد الديمقراطية الشكلانية ، الديمقراطية الملهاة التي غطت على القضايا الحقيقية للأمة وحالت دون بناء الدولة والمجتمع والنظام على أسس المواطنة الصحيحة. ما يجري أزمة دولة ومجتمع وهو مؤشر على فقدان ثقة الشعب بالانتخابات كآلية للتغيير وفقدان ثقة الجماهير بالقوى والهياكل السياسية القائمة وقد يكون بداية مرحلة جديدة تقرر فيها الجماهير انتزاع حقها بيدها وهذا معناه العودة لنقطة الصفر،إلى مرحلة ما قبل مسرحية الانتخابات ،ولا نستبعد أن تفكر القوى التي فقدت ثقتها بالانتخابات وفشلت بولوج السلطة من بوابة الانتخابات بالبحث عن سبل أخرى كاللجوء للعنف أو الانقلابات العسكرية.
سادسا: تجديد الثورة العربية على أسس ديمقراطية
خلال شهر واحد سيطر خطاب الثورة الوطنية على المشهد السياسي العربي مغيبا كل الخطابات الأخرى حتى خطاب الإسلام السياسي. خطاب الثورة سواء في تونس أو في مصر خطاب وطني خالص متحرر من كل الأيديولوجيات الحزبية التي مزقت وحدة الأمة طوال عقود.خلال شهر واحد اهتزت عروش الملوك وعروش الرؤساء - في العالم العربي زالت الفوارق بين الملوك والرؤساء -.لا شك أن الثورة كحدث سياسي واجتماعي وثقافي يمنحها خصوصية، وحيث لا مجتمع يتطابق مع مجتمع آخر فلا يجب أن نتصور ثورة تتشابه تمام التشابه مع ثورة أخرى.صحيح أن الفقر والبطالة من أهم أسباب الثورات، ولكن الفقر والبطالة لا يشكلا دافعا للثورة إلا إذا أحس الناس بأنهم فقراء وان هناك أغنياء يستغلونهم وهنا يأتي دور الثقافة السياسية والوعي السياسي والإعلام.أيضا سمعنا مَن وصف الثورة التونسية والثورة المصرية بأنهما ثورتا الفيسبوك والفضائيات وفي هذا تقليل من شأن الثورة ،لا شك أن تقنيات التواصل الحديثة سهلت الأمر على الشعب وعلى الثوار لتواصل أسرع وأوسع بعيدا عن رقابة السلطة وأجندة الأحزاب،ولكن تقنيات الاتصال الحديثة موجودة في كثير من البلدان وبنسبة انتشار أكثر من مصر وتونس ومع ذلك لم تحدث ثورة .كما يجب إعادة النظر بالقول بأنها ثورة شباب فقط ،لا شك أن الشباب غير الحزبيين كانوا القوة المحركة للثورة ولو ترك الأمر للأحزاب ما قامت الثورة، ولكن الثورة لم تزعزع النظام إلا عندما أصبحت ثورة كل الأمة حيث شاهدنا الأطفال والشيوخ والنساء بل كانت أسر بكاملها تشارك في الثورة،لا يعني ذلك التقليل من أهمية الشباب ومن شرعية مطالبهم ومن حقهم في صناعة مستقبل مصر ،ولكن لا نريد أن يُفهم وكأن المشكلة خاصة بالشباب وبالتالي تلبية مطالبهم بالشغل سيحل المشكلة.
الثورة المصرية – كما هو الأمر بالنسبة للثورة التونسية -كانت ثورة كل الشعب ،ثورة الشاب خريج الجامعة الذي لا يجد عملا ،وثورة الشاب الذي لا يجد شقة ليتزوج بها ،وثورة العامل الذي يتقاضى جنيهات لا تكفي لشراء الخبز فكيف باللحمة التي لا يتذوقها إلا بالأعياد ،ثورة الطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة الذين يتقاضون راتبا بالكاد يكفيهم أجرة مواصلات وسكن ،ثورة كل مواطن أُجبِرَ أن يتحول لخادم للسياح العرب والأجانب الذين يدرون دخلا بملايير الدولارات سنويا تذهب لحساب شركات السياحة المملوكة لوزير السياحة ومافيات صناعة السياحة ولدعم أجهزة القمع الرسمية ، ثورة كل مواطن يقف بالطابور لساعات حتى يحصل على خبز أو مواد تموين مدعومة ،ثورة كل مواطن تُمتَهن كرامته كل يوم على يد رجال الأمن والشرطة والمخابرات،ثورة ملايين العائلات التي تعيش بعيدا عن عائلها الذي اضطر ليعيش في الغربية لسنوات حياة شقاء لا تخلو أحيانا من إذلال حتى يوفر لأفراد أسرته الحد الأدنى من العيش الكريم،ثورة التاجر الصغير وأصحاب المصانع والورش الصغيرة الذين سحقتهم مافيا شركات رجال الأعمال الكبار المحسوبين على الحزب الحاكم والعائلة الحاكمة. إنها ثورة كل مواطن أذله القهر وامتهان الكرامة.الثورة بهذا المعنى فعل مركب ومعقد ونجاحها بكل أبعادها مرهون بإعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي بما يحقق مطالب كل فئات الشعب:العمال والفلاحون والمثقفون والطلاب والنساء الخ،أو على الأقل يعطبهم أملا بان غدهم سيكون أفضل من يومهم.
كثيرة هي الدروس التي نتعلمها من الثورة المصرية وكثير من الرسائل التي ترسلها الثورة المصرية،بعض هذه الدروس والرسائل أتت أُكلها مباشرة مما نشاهده اليوم في كافة العالم العربي من انتشار روح الثورة على الحكام وكسر حاجز الخوف وتجاوز ثقافة الخضوع، إلى التفاؤل بعالم عربي أفضل تسوده قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ،ولكن بعض الدروس والرسائل ما زالت خفية وتحتاج إلى إيضاح وستظهر أهميتها مع مرور الزمن وبعد فورة العاطفة والانفعال التي تسيطر على الجمهور .الثورة المصرية بقدر ما أحيت من آمال وبددت من أوهام فقد أثارت تخوفات على الثورة ومن الثورة.
أولا :المد الثوري الشبابي أعاد العرب إلى التاريخ
ليس من المبالغة القول بان الثورتين التونسية والمصرية وما تلاهما من مد ثوري أعادوا العرب للتاريخ ،قبل الثورة كان يُضرب المثل بالعرب بالتخلف والانقسام والخضوع والإرهاب،كان الشعب العربي يعيش حالة من الركود والبلادة والإحباط حتى فسر بعض المراقبين الأجانب بل والعرب بأن هذا الوضع ليس جديدا عن العرب ،فالعرب منذ الأندلس خرجوا من التاريخ وباتوا عالة على الإنسانية والحضارة ،وان أقصى ما يقدمونه للعالم، مواد أولية من بترول وغاز ينفقوا مردودها على بذخ ملوكهم ورؤسائهم وعلى |أجهزة أمنية وجيوش لم تعد تقاتل إلا الشعب أو الجار العربي والمسلم،ويد عاملة رخيصة تمارس أرذل المهن في الغرب ،وإرهاب يضرب في كل بقاع الأرض بدون هدف،أما دون ذلك فهم عبئ على البشرية وعلى أنفسهم .لم يستوعب العرب الحداثة قبل أكثر من قرن وبقوا خارجها ،لم يستوعبوا الديمقراطية وبقوا خارجها أو طبقوها بطريقة مشوهة ،وبقوا مترددين بدخول عالم العولمة والتقانة .ساد اعتقاد أن العرب لن يتغيروا إلا باستعمار أو بقوة خارجية تسير أمورهم عن بعد ،وجاءت الثورة المصرية لتعلن نهاية تاريخ وبداية تاريخ جديد،تاريخ أصبح الشعب فيه سيد نفسه.
ثانيا : إسقاط فزاعة الإسلام السياسي
كان الاعتقاد السائد قبل ثورتي تونس ومصر بان جماعات الإسلام السياسي هي التي تسيطر على الشارع العربي ،وكانت الأنظمة العربية تُشيع أن الأصوليين الإسلاميين سيستولون على السلطة في حالة إذا ما تُرِك الأمر للشعب ليعبر عن رأيه بحرية من خلال الانتخابات أو من خلال الثورة ،وكانت واشنطن والغرب يعززوا هذه المخاوف ويستعملوا ورقة الإسلاموفوبيا ليبرر دعمه ومساندته للأنظمة العربية القائمة وليبرر تواجده العسكري في المنطقة.الثورتان التونسية والمصرية أكدتا سقوط هذا الوهم .في تونس كان حضور الإسلام السياسي ضعيفا جدا، وفي مصر كان لهم حضور ولكنه ليس بالشكل الذي كان يعتقد البعض، فغالبية الذين خرجوا لميدان التحرير وفي بقية المناطق المصرية لم يكونوا من جماعات الإسلام السياسي.
ثالثا : لم تكن ثورة على النظام فقط بل وعلى الأحزاب التقليدية
كان إسقاط النظام العنوان المعلن للثورة ولكن ما هو غير معلن هو رفض الأحزاب السياسية التي كانت عجزا أم تواطؤا تشكل عبئا على الشباب وعلى الحالة الوطنية،لم تطرح الأحزاب فكرة الثورة على النظام بل كان أقصى ما تسعى إليه أن يكون لها نصيب في مؤسسات النظام وضمن الدستور وقواعد اللعبة التي يحددها النظام .الشعب ممثلا بالشباب هم الذين طرحوا هدف إسقاط النظام ثم تبعتهم الأحزاب.الثورة المصرية والتونسية تفرض اليوم على الأحزاب أن تعيد النظر في بنيتها التنظيمية وفي مواقفها السياسية وفي أيديولوجيتها لتصبح أحزابا وطنية بمعنى الكلمة.إن لم تسارع الأحزاب لذلك فستصطدم قريبا بالشباب وبالشعب وخصوصا عندما تستغل الأحزاب حدث الثورة لتحقق أهدافا حزبية خاصة بها.
رابعا : عودة الروح الوطنية والفكرة الوطنية كجامع للكل الوطني .
خلال السنوات الأخيرة تراجعت الأيديولوجية الوطنية والفكر الوطني لصالح الإسلام السياسي أحيانا ولصالح أنظمة صادرت وشوهت الوطنية عندما جعلت الوطنية متماهية مع مصلحة الحاكم ورؤيته السياسية ولصالح أحزاب حاكمة حملت اسم الحزب الوطني أو شبيه ذلك مصادرة بذلك الفكرة الوطنية محولة إياها لأيديولوجيا مشوهة تخدم السلطة .الثورة اليوم ليست ثورة طبقة ولا ثورة يساريين وشيوعيين ولا ثورة جماعات إسلام سياسي ولا ثورة أجندة خارجية ، بل ثورة كل الشعب ،الثورة كشفت أن الأيديولوجيات والصراعات الحزبية حول السلطة كانت جزءا من أزمة النظام السياسي وعاملا معيقا لاستنهاض كل الأمة،لقد أكدت الثورتان التونسية والمصرية أن ما يوحد الأمة أكثر بكثير مما يفرقها ،وان حسابات الأوطان ليست حسابات الأحزاب .أكدت الثورة المصرية أن لا شرعية تعلو على الشرعية الثورية الشعبية ،وهذه لا تكون إلا وطنية لا يُعبِر عنها حزب أو أيدلوجية محددة بل تُعبِر عنها الوطنية الجامعة التي تستوعب كل الأحزاب والأيديولوجيات وتخضعها لها.عودة الروح الوطنية والثقافية الوطنية في العالم العربي ستمهد الطريق لعودة الروح القومية والثقافة القومية وبالتالي إحياء المشروع الوحدوي العربي.
خامسا :الثورة السلمية أجدى من العنف العبثي لجماعات الإسلام السياسي .
لثلاثة عقود والعالم العربي يعاني من عمليات عنف دموي تمارسه جماعات إسلام سياسي انتشرت كالفطر في كل ربوع العالم العربي من الصومال إلى اليمن ومن مصر إلى المغرب، موظفة خطابا دينيا يتناقض مع روح الإسلام السمح.كانت نتيجة هذا العنف الدموي مقتل مئات الآلاف من المواطنين وتدمير البنية التحتية وإثارة الفتنة والفرقة بين أبناء الوطن الواحد وتشويه صورة العرب والمسلمين ومنح الغرب الذريعة والمبرر ليعيد هيمنته على المنطقة .هذا العنف المدمر بدلا من أن يؤدي للتخلص من الأنظمة القائمة أدى لتشديد القبضة الأمنية لأنظمة الحكم وإرجاع الأمة سنوات للوراء. خروج الجماهير اليوم بطريقة سلمية وحضارية أسقط أنظمة خلال شهر واحد أكد أن قوةة الشعب تكمن في إجماعه على أهداف واضحة وقابلة للتحقيق كما تكن في قوة تنظيمه وفي الطابع السلمي والحضاري لتحركه. كان الطابع السلمي والمنظم والحضاري لملايين الناس الذين شاركوا في الثورة هو مصدر قوة الثورة وكان رسالة قوية بأن الشعب العربي ليس مجرد جموع تهيمن عليها النزعة الدموية والانقسامية والتخريبية بل شعب يمكنه التصرف بحضارة .ولكن كبقية الشعوب حتى الأكثر تقدما وحضارة يبقى الخوف حاضرا ،فإذا ما أجهض الجيش الثورة أو التف على مطالبها فسيؤدي ذلك لتبرير العودة للعنف وآنذاك سيكون أكثر تدميرا وشمولية.
سادسا:مركزية دور مصر في المنطقة
مع الأخذ بعين الاعتبار عدم الاستقرار في مصر ما بعد الثورة ومحاولات الالتفاف على الثورة الشبابية وأهدافها،إلا انه من المؤكد عندما تنهض مصر تنهض الأمة العربية وعندما تنتكس مصر تنتكس الأمة العربية .فعندما تبنت ثورة يوليو الفكر القومي ورفعت شعارات ثورية وتقدمية معادية للاستعمار ولإسرائيل استحقت قيادة الأمة العربية حيث كانت صور عبد الناصر تُعلق في كل بيت من صنعاء إلى مراكش،آنذاك لم تجرؤ دولة أو نظام عربي على منافسة مصر في دور الريادة،ولكن عندما اعترفت مصر بإسرائيل وربطت نفسها بالمشروع الأمريكي الغربي وعندما تحالفت مع واشنطن بالعدوان على العراق ،فقدت دور الريادة وتجرأت أكثر من دولة لمنافسة مصر على دور الزعامة حتى قطر و ليبيا.كان لخروج مصر من ساحة المواجهة مع إسرائيل نتائج مدمرة على القضية الفلسطينية ،فالنظام المصري إن لم تكن متواطئا مع إسرائيل كان يشكل عائقا أمام الفلسطينيين والعرب وانتهاج طريق الثورة والتصدي للمشروع الصهيوني أو البحث عن معادلة سلام أكثر شرفا من المعادلة الراهنة.الثورة المصرية، وما سيترتب عليها من تداعيات في المنطقة،أحيت الأمل بان تستعيد مصر دور الريادة في العالم العربي وأحيت الأمل بإمكانية إعادة النظر بنهج التسوية الذي ساد خلال العقود الماضية، وإن كان الأمر سيحتاج لحين من الوقت لأن الانشغالات الوطنية ستشغل مصر لفترة من الزمن عن القضايا القومية.أيضا عدم تجاهل القوى التي تسعى لتحويل الثورة لفتنة.
سابعا : لا تكتمل الثورة إلا بإنجاز أهدافها
لا تنتهي الثورة بإسقاط الرئيس أو الملك ،هذه مرحلة أولى من الثورة وهي مهمة في رمزيتها،فمجرد تخلي مبارك عن منصبه خلق حالة من الارتياح والفرحة العارمة عند غالبية الشعب واعتقد كثيرون أن الثورة حققت أهدافها ،ولكن الثورة لا تنجز مهمتها وتكتمل رسالتها إلا إذا أقامت نظاما سياسيا واجتماعيا بديلا عن القديم،المرحلة الأولى تهيمن عليها العاطفة والانفعال وردود الأفعال ،أما المرحلة الثانية فهي مرحلة العقل والحسابات الإستراتيجية،وعليه يجب الحذر الشديد في الانتقالية الراهنة والمرحلة الثانية الآتية،وفي التجربة الثورية المصرية توجد أكثر من جهة محلية ودولية معنية بالتدخل في عملية إعادة بناء النظام السياسي بما لا يخل بمصالحها،والخشية أن تتلاقى مصالح أطراف داخلية وخصوصا من قيادات في الجيش وبقايا نخبة الحزب الوطني مع أطراف خارجية لتوجيه الأمور بعيدا عن المطالب الحقيقية للقطاع الأوسع من الشعب .من خلال التجارب التاريخية فإن كل الثورات تتعرض لمحاولات سرقتها أو حرفها عن مسارها ،وأن الجماهير التي تقوم بالثورة في مرحلتها الأولى ليست نفسها التي ستعيد بناء النظام الجديد،فجماهير ميدان التحرير سيعودون لبيوتهم اليوم أو غدا ليستلم آخرون مقاليد الأمور. أيضا التجارب التاريخية تؤكد أن الثورة لا تنجز أهدافها دفعة واحدة بل تحتاج لوقت ،المهم أن يحافظ الشعب على روح الثورة وألا ينفرط عقد الإجماع الوطني الذي جسدته الثورة في مرحلتها الأولى،وفي جميع الحالات فإن حال مصر والمنطقة العربية بعد اندلاع الثورة لن يكون حاله قبلها.
خلاصة
ما جرى ويجري في تونس ومصر وبقية البلاد العربية يمكن توصيفه بالظاهرة غير المسبوقة في التاريخ العربي الحديث من حيث حجم واتساع التحرك الشعبي وقوة المواجهة بين الشعب وأجهزة الأمن ، ما جرى فاق كل التوقعات ولا نعتقد أن أحدا يزعم بأنه كان يتوقع صيرورة الأمور إلى ما صارت إليه.ولأن الأمور سارت بهذه الوتيرة السريعة فإن غالبية التحليلات والتعليقات أتسمت بالانفعالية والعاطفة أكثر مما هي ناتجة عن دراسات معمقة ،وعليه فإنه من التسرع الحكم بان المشهد الذي جرى في تونس سيتكرر بنفس الشكل في بقية الدول العربية .
بقدر ما أثارت الثورتان التونسية والمصرية الإعجاب والتقدير عند الشعوب العربية بل كسبتا احترام كل شعوب الأرض لأنهما أكدتا بأن الأمة العربية بخير وبأن الخلل ليس بالشعب بل بنخبه وقياداته ،إلا أنهما في نفس الوقت أثارتا الخوف ،الخوف عليهما من لصوص الثورات من الديماغوجيين الجدد ومن بقايا نخبة النظام السابق والخوف من الثورة نفسها بأن تاستمرئ الجماهير أو بعضها حالة الفوضى والخروج للشارع مما سيسيء للثورة.كما أن سيرورة الثورات في البحرين واليمن وليبيا وسوريا تثير التخوف من انزلاق بعض الثورات لحرب أهلية بل إقليمية. | |
|