الآراء الفلسفية لآينشتاين: النظرة الفلسفية للعالم
أحمد الحفني هارون |
| |
شدَّد آينشتاين في العديد من المناسبات على أهمية الفلسفة للفيزياء الحديثة لما أثارته الأخيرة من مسائل بدت شديدة الارتباط بالمسائل التي ظلَّت تناقشها الفلسفة قرونًا طويلة، وقد كلَّل آينشتاين هذه الدعاوي بقراءات لأعمال العديد من الفلاسفة، وقد كانت اهتمامات آينشتاين محصورة بشكل تقريبي على الإبتسمولوجيا ومسائلها التقليدية عن طبيعة المعرفة ومصادرها وحدودها وطبيعة عملية الإدراك وغيره. برأيي أوقع آينشتاين نفسه في عبء لا يتحمله وهو بيان طبيعة هذه العلاقة السببية وهي مشكلة كلاسيكية في الفلسفة. بدت كتابات آينشتاين معارضة لما يسمَّى بالواقعية الساذجة، أي الادعاء القائل بوجود العالم كما ندركه. وقد التجأ آينشتاين للتصدي لذلك ببعض آراء هيوم وكانط وباركلي، فقد وجد العزاء في هذا الأخير فيما يخص ادعاء الواقعية السالف، فباركلي ينظر للواقع باعتباره مجموعة من الإدراكات الحسيَّة التي تنظم خبرتنا، إلا أن حدس آينشتاين المادي قد رفض قول باركلي بأنها كل ما توجد وادعى آينشتاين بوجود علاقة سببية بينها – أي الإدراكات – وبين العالم الواقعي (هنا برأيي أوقع آينشتاين نفسه في عبء لا يتحمله وهو بيان طبيعة هذه العلاقة السببية وهي مشكلة كلاسيكية في الفلسفة) وقد استفاد آينشتاين أيضًا من أعمال هيوم لمهاجمة التجريبية الكلاسيكية، فقد بيَّن هيوم أن العديد من المفاهيم الضرورية للعلم كالسببية مثلًا لا يمكن أن تستمد بشكل مباشر من التجربة، فالملاحظات لا توضح إلا علاقات تتابع بين الظواهر ولا يوجد أي مبرر – بحد قول هيوم – للخروج من هذا التتابع بعلاقة سببية، وقد بذر هيوم بذلك بذور الشك في المعرفة ولا تزال شكوكه قائمةً لليوم بدون حلول واضحة، ومن الطبيعي أن نجد آينشتاين يصّر على وجود سد للثغرة التي خلَّفها هيوم، وقد تراءى له بصيص من الأمل لذلك في أعمال كانط. رأى كانط أن المعرفة تكون مستحيلة بدون مفاهيم قبلية تُقولَب بداخلها الإدراكات، مفاهيم كالسببية والزمان والمكان وغيرها، إلا أن آينشتاين رفض ادعاء كانط بأن هذه المفاهيم سابقة على التجربة، فعنده تبدأ المعرفة من الواقع مرورًا بتلك المفاهيم. لقد رأى آينشتاين أن كانط قد خطى خطوة تجاه حل مشكلة هيوم من خلال افتراض شبكة من المفاهيم تُعالَج بواسطتها الإدراكات، إلا أنه رفض مجددًا فكرة المعارف البدهية، وهذا طبيعي ممن أنزل هندسة إقليدس وقوانين نيوتن من عرشهما. وبرأيي كلاهما مخطئ، فكما أعتقد أن تلك المفاهيم بالفعل سابقة على التجربة إلا أنها ليست بدهية، أيضًا لا أرى في هذا التحليل أي حل لمشكلة هيوم، فإن كان إنكار كون تلك الشبكة المفاهيمية قبلية بدهية يُحسب لآينشتاين، إلا أنه في المقابل لم يوضح طبيعتها. وبخصوص الدين، فمن المؤكد أن آينشتاين كان متدينًا عند صغره كالكثير من معاصريه، لكن ذلك الإيمان التقليدي قد تلاشى بشكل تدريجي عند بلوغه سنًّا واعية، حيث توَّصل آينشتاين – بحد قوله – إلى أن أغلب القصص الموجودة في الكتاب المقدس لا يمكن أن تتفق مع العلم، وبأن الدين لا يمثل إلا ضرورة تاريخية، أي أن الوجود الإنساني قد تطلب في وقت ما فكرة الكائن السرمدي. نجده يقول أيضًا: «إن الإنسان المقتنع تمامًا بالعملية الشاملة لقانون السببية لا يمكن أن يفكر للحظة بفكرة الخالق الذي يتدخل في كافة الأحداث، بشرط أن يأخذ فرضية السببية بشكل جدي تمامًا، إن الكائن الذي يكافئ ويعاقب سيصبح غير مقنع بالنسبة للإنسان لسبب بسيط، هو أن نشاطات الإنسان تنبع من الحاجة والضرورة، بالتالي فهو غير مسؤول عنها، كعدم مسؤولية أي جماد عن أي حركة تمر من تحته» (هنا برأيي يظهر آينشتاين كفيلسوف هزيل، فالعملية الشاملة لقانون السببية التي يتحدث عنها غير موجودة كما ذكرنا، بالتالي فإن افتراض كائن سرمدي يحفظ تلك القوانين يوازي في دوغمائيته افتراض برنامج سببي شامل بدون أي مبرر، نجده أيضًا يتبنى إسقاطات مشابهة ومعاكسة للتي تبناها أرسطو والتي رفضها الكثير لكونها خلطًا بين ما هو عضواني وما هو غير ذلك، يُلاحظ أيضًا وجود فجوة في الحديث بسبب المصادرة الواضحة على المطلوب في الاستدلال الأخير، فالأمور ليست بتلك البساطة) وبخصوص الدين، فمن المؤكد أن آينشتاين كان متدينًا عند صغره، لكن ذلك الإيمان التقليدي قد تلاشى بشكل تدريجي عند بلوغه سنًّا واعية إن خيبة الأمل لدى آينشتاين بخصوص الأديان السماوية قد دفعته في اتجاه معاكس، فقد آمن بما يسمى بالدين الكوني، فقد اتجه نحو العالم الواسع الموجود بشكل موضوعي بدون تدخل الإنسان، حيث يقول: «إن التأمل والتفكير في هذا العالم مغريان مثل التحرر، ولقد لاحظت أن العديد من الناس الذين تعلمت تكبيرهم واحترامهم قد وجدوا حرية داخلية وأمانًا في تكريس العمل لهذا العالم، إن الطريق نحو هذا الفردوس لم يكن مريحًا ومغريًا مثل الطريق إلى الفردوس الديني، لكنه أثبت استحقاقه وجدارته بالثقة، ولن آسف أبدًا على اختياري له» من المثير حقًا ملاحظة التقارب بين فكر آينشتاين الديني وفكر سبينوزا، حيث انتقد سبينوزا فكرة الإله التقليدي وأعاد تعريفها بشكل ثوري جلب له الكثير من النقم حيث ابتعد عنه قومه ونبذوه وقضى شطرًا كبيرًا من حياته وحيدًا بسبب حيوده عن الآراء الشائعة في عصره، إلا أنه من السخف الرضوخ للاتهام القائل بأن سبينوزا كان مؤمنًا بوحدة الوجود بشكل تقليدي كما وجد عند الأقدمين، حيث لم يدَّعِ سبينوزا بأن الله والطبيعة شيء واحد، بل قال بأن كل الأشياء فيها من جوهر الله اللا متناهي، بالتالي فإن الله والطبيعة يمثلان وجهان لعملة واحدة، وأن القوانين السببية ليست إلا الوجه الآخر لإرادة الله، وأن السبيل الوحيد لمعرفة الله معرفة حقة هو بالتأمل في الكون ومحاولة معرفة قوانينه. وفي ضوء هذه الآراء يمكننا التماس مبرر للأسباب التي دفعت آينشتاين لرفض نظرية الكم باعتبارها وجهة نظر سطحية لا تصف الطبيعة بشكل صحيح، فقد آمن آينشتاين بالواقعية العلمية وبإمكان صياغة قوانين نهائية تعبّر وبشكل كامل عن الطبيعة الكامنة خلف الحواس، فقوله: «إن الله لا يلعب النرد» يمكن فهم غايته الآن بشكل أكثر عمقًا. نود الإشارة أيضًا إلى أن هذا الرفض لم يكن سلبيًّا بشكل كلي، فقد ساهمت انتقادات آينشتاين في تقدم النظرية الكمية بشكل كبير، ويُعد جدال بور وآينشتاين حول ذلك من الجدالات الخالدة في أدبيات الفلسفة العلمية. ويمكننا أخيرًا استقاء آراء آينشتاين بخصوص المفاهيم الرياضية من مؤلفه (الهندسة والتجربة) فكان آينشتاين يعتقد بأن الرياضيات هي تجريدات بعيدة عن الواقع وفرضياتها هي من صنع الفكر البشري المستقل عن التجربة، ولكن إذا قرأ المرء كل المؤلف بالإضافة إلى الشروحات الأخرى سيبدو آينشتاين له ذو نزعة تجريبية فيما يتعلق بأصول الرياضيات، فنجده يدعي بأنها – خاصةً الهندسة – قد نشأت عن حاجات المجتمع العملية، بل ويتطرف في تجريبيته متجاوزًا حاجز الأصول بادعائه أن معيار صحة الهندسة هو قدرتها على إقامة علاقات صحيحة وقابلة للإثبات تجريبيًا. (هذا الاتجاه موجود في فلسفة الرياضيات إلا أن الغالب هو ما يعتبر كل الهندسات صحيحة، فمعيار الصحة بحسبهم في الرياضيات هو اتساق البناء المنطقي مع مسلماته وليس تطابقه مع الواقع) جدير بالذكر بأن كل ما هو مكتوب بين أقواس لا يُعبر إلا عن رأي الكاتب، وقد اعتُمد في كتابة هذه المقالات على كتاب (آينشتاين والقضايا