حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فؤاد
فريــق العــمـل
فريــق العــمـل
فؤاد


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 786
معدل التفوق : 2214
السٌّمعَة : 22
تاريخ التسجيل : 17/12/2011

أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي Empty
17042017
مُساهمةأزمة التطور الحضاري في الوطن العربي

أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي


أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي 35px-Sub-arrows.svgالنص الموجود في هذه الصفحة صار طويلا بطريقة تعيق التصفح والتحرير، وهو بحاجة إلى تجزيئه لأبواب وفصول. يمكنك المساعدة بإجراء التعديلات اللازمة.
رجاءً أزل هذا الإخطار بعد أن يتم التقسيم.
[size][rtl]

علاء الدين الأعرجي
أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي
بين العقل الفاعل والعقل المنفعل

الطبعة الأولى، منشورات كتابات، بيروت، 2004
تمهيد
هذه مجموعةُ فصولٍ مختارة نُشِرتْ معظمها تِباعًا بشكل بحوثٍ ودراسات منذ بضعِ سنوات.
ففي الفصل الأَوَّل التمهيديِّ من هذا الكتاب (غير منشور سابقا)، جازَفْنا بالتحذير صراحةً، من إمكانيَّة انقراض الأمُّة العربيَّة، واستشرافِ مُستقبلـِها في ظلِّ التداعيات القائمة والظروف الراهنة، وبيَّـنَّا مؤشِّراتِ ودلائل تَدَهْور أو سقوط هذه الأُمَّة العظيمة، ما لم يُسارع عُقلاؤها وزُعماؤها لإنقاذها قبل فوات الأوان. كما استعرضنا، في هذا الفصل، أَهمِّ المحاور التي تدور حولها موضوعاتُ الكتاب.
ثمَّ بحثنا في الفصل الثاني شيئا ً من مسأَلةَ نشوء الحضارات وسقوطِها من خلال بعض آراء ونظرياتِ مُفكِّرٍ هو من أَوائل الذين طـَرَقوا هذا الموضوع: ابن خلدون، ومفكِّرٍ هو من أَواخر الذين عالجوه: أرنولد توينبي. كما بحثنا في مصير الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة الكالح، إلاَّ إذا تحوَّلتْ، على يدِ أبنائها، من حالة الجمود إلى حالة الحركة. ورأَينا أَنَّ مسأَلةَ ثنائيَّة الحركة والجمود تُشكِّل المحورَ الرئيس الذي يقرِّر ظهورَ الحضارة وتقدُّمَها وازدهارَها، أَو ضُمورَها وانهيارَها. ولكنْ كيف السبيلُ إلى أَن يُحقِّقَ أَبناؤها هذه الخطوةَ الكبيرة التي يُمكن أن تنقلهم من حالة الجمود إلى حالة الحركة، في الوقت الذي يخضعون فيه لأَلف قيدٍ وقيد؟
للإجابة عن هذا السؤال رأَينا أَن نبحثَ في أَمر تحرير الإنسان العربيِّ أَوَّلاً ليتمكَّن من الحركة والتفكير والإبداع، وبالتالي التقدُّم. بيدَ أَنَّنا سنُلاحظُ أَنَّ تحريرَ الإنسان يتطلَّب النظرَ في تحرير عقله قبل كلِّ شيء. ذلك العقلُ المكبَّل بأَغلالٍ مفروضة عليه من سلطات متعدِّدة، منها سلطة "الآخر" الحاكم بأمره، سواءٌ في الداخل(الزعيم المدني أو الديني) أَو من الخارج(الاستعمار، النفوذ الأجنبي إلخ)، و/أَو سلطة الماضي، و/أَو سلطة المجتمع (سلطة العقل المجتمعيِّ) بكلِّ ما يحملُه من تقاليدَ وأَعرافٍ وقِيَمٍ وعقائدَ متخلِّفةٍ ورثَها من الفترة المظلمة، بوجهٍ خاصّ-أَقول: العقل المكبَّل لا يخلـِّف إنسانًا حُرًّا مُبدِعًا، بل دُمية تحرِّكها الخيوطُ المتَّصِلة بتلك السلطات.
وهذا ما بحثـناه في الفصلَين الثالث والرابع. فبعد أَن حدَّدْنا مفهومَ العقل وميَّزنا بين العقل والفكر، تساءلنا عن وجود عقلٍ عربيٍّ متميِّز، كما يوجد عقلٌ متميِّز لكلِّ شعبٍ أَو وحدةٍ مجتمعيَّة معيَّنة. وشرحنا أَنواعَ وأَبعادَ السجون التي يخضعُ لها العقلُ العربيّ. ثمَّ عرَّجنا على صدمة العقل العربيِّ منذ احتكاكه بالغرب ونكوصه إلى ماضيه التليد، يتوكَّأُ عليه أَو يسترُه ويَحميه، كدفاعٍ تلقائيٍّ بدائيٍّ عن الذات. ثم طرحنا فكرة إرساء نظريَّة "العقل المجتمعيّ" باعتباره، من جهةٍ، ذاكرةَ المجتمع ومحورَ هُويَّته وثقافته، وباعتباره، من جهةٍ ثانية، قيدًا ثقيلاً على حرِّيَّة الإنسان وقدراته الإبداعيَّة، نظَرًا لأَنَّ العقلَ المجتمعيَّ العربيَّ، في هذه الحالة بالذات، خاضعٌ، بوجهٍ خاصٍّ، لتاريخ التخلُّف الذي أَعقب فترةَ ازدهار الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة. ولذلك لجأْنا إلى نظريَّة "العقل الفاعل" و"العقل المنفعِل" التي تُوَصِّفُ، من جهةٍ، كيفيَّةَ الخلاص من قهر العقل المجتمعيّ، كما تُحلِّلُ وتُنَظِّرُ، من جهةٍ ثانية، الصراعَ المتواصل بين العقل الفاعل والعقل المنفعل، على صعيد الفرد والجماعة؛ وهو صراعٌ يتوقَّف على نتائجه تقدُّمُ المجتمع أَو تخلُّفُه.
وعليه، فقد بحثنا في الفصول الثلاثة الأَخيرة أَزمة العقل العربيِّ المعاصر من خلال ثنائيَّة الإبداع والاتِّباع، باعتبارها ترتبطُ، ارتباطًا مباشرًا وغيرَ مباشَر، بالعقل المجتمعيِّ وبنظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعل. فبقدرِ ما يتحرَّر الإنسانُ العربيُّ من العقل المجتمعيِّ في جانبه السلبيِّ، ومن عقله المنفعل باستخدام عقله الفاعل، يكون قادرًا على الإبداع، مفتاحِ تقدُّم الأُمَم وانطلاقِ الحضارة.
هذه المقالات البحثيَّة تُمثِّلُ الجزءَ الأَوَّل من المجموعة المنشورة. وسنواصل في الجزء الثاني دراسةَ أَزمة التطوُّر الحضاريِّ في الوطن العربيِّ، فنبحثُ في مسأَلة العِلم والتكنولوجيا وأَثرِهما الفعَّال في تقدُّم الأُمَّة؛ ثمَّ نتعرَّضُ لنظريَّة الحرب وعلاقتِها بالتفوُّق الحضاريِّ، وخاصةً العلميَّ والتكنولوجيَّ؛ كما نعالجُ معضلةَ التراثِ والحداثة في ترابُطِها الوثيق بالعقل المجتمعيِّ السائد وبالصراع القائم بين العقل الفاعل والعقل المنفعل. وتُمثِّل هذه الموضوعاتُ حلقاتٍ أَساسيَّةً في سلسلة الأَسباب التي أَدَّتْ إلى أَزمة التطوُّر الحضاريِّ في الوطن العربيِّ منذ اصطدام العرب بالحضارة الغربيَّة المعاصِرة حتَّى يومِنا هذا.

[/rtl][/size]
[rtl]

محتويات

  [أخف] [/rtl]


  • 1الفصل الأَوَّل: مدخل

    • 1.1الخيار الحاسم:النهضة أو السقوط

      • 1.1.1مصيُر الحضارة الإسلاميَّة والعربيَّة في نظَر تُوينبي


    • 1.2خاتـمة
    • 1.3المراجع والحواشي


  • 2الفصل الثالث: تحرير العَقلِ العربيّ لتحرير الإنسان العربيّ

    • 2.1أَوَّلاً: ما هو العَقل؟ وما الفَرقُ بين العَـقـل والفِكْر؟
    • 2.2التمييزُ بين العَقل والفِكر
    • 2.3ثانيًا: هل ثمَّةَ عقلٌ عربيّ مُتميِّز؟
    • 2.4ثالثًا: العقلُ العربيُّ السجين
    • 2.5رابعًا: صدمة العقلِ العربيّ
    • 2.6المراجع والحواشي


  • 3الفصل الرابع: تحرير العقل العربيّ لتحرير الإنسان العربي(2)

    • 3.1مدخل إلى نظرية العقل المجتمعي ونظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل
    • 3.2العقلُ المُجتمَعيُّ" ذاكرةُ المجتمع وهُويَّـتُه
    • 3.3نحو إرساء نظريَّة العقل الفاعِل والعقل المُنفعِل
    • 3.4الإبداعُ في الفكر، فلسفةً وعلمًا، من نتائج العقل الفاعل
    • 3.5كلمة ختاميَّة
    • 3.6المراجع والحواشي


  • 4الفصل الخامس: ثـُنائـيَّةُ الإبداعِ والاتِّـباع وأَزمةُ العقلِ العربيِّ المُعاصِر

    • 4.1أوَّلاً - مقدَّمة
    • 4.2ثانيًا - مُلاحظات تحفُّظيَّة
    • 4.3ثالثًا- تعريفاتُ الإبداع
    • 4.4رابعًا- ُمداخَلة وتعريفٌ مُقترَح

      • 4.4.1مفهومُ الاتِّباع


    • 4.5خامسًا- البِدعةُ والإبداع
    • 4.6سادسًا- تأصيلُ الاتِّباع والإبداع

      • 4.6.1مدى ارتباطِ "الإبداع" بغريزةِ المحافظة على البقاء


    • 4.7سابعًا- موجَزُ ما تقدَّم
    • 4.8المراجع والحواشي


  • 5الفصل السادس: ثنائيـّة الإبداع والاتـّباع وأزمة العقل العربي (2)

    • 5.1الجابريّ وأزمةُ الإبداعِ عند العرب
    • 5.2خُلاصة
    • 5.3مراجع وحواشي الفصل السادس


  • 6الفصل السابع: ثُنائيَّة الإبداعِ والاتِّباع وأزمةُ العقلِ العربيّ المُعاصِر (3)

    • 6.1العربُ والبداوةُ وسيادةُ العقلِ المنفعل
    • 6.2ثـُنائيَّةُ الإبداعِ والاتِّباعِ مُقابل ثـُنائيَّة العقلِ الفاعِل والعقلِ المُنفَعِل
    • 6.3العقلُ الفاعلُ المُبدِعُ يُنشِئُ الحضارات
    • 6.4الوَساطة، العقلُ المُجتمَعيّ، العصبيَّةُ القَبَليَّة
    • 6.5ملاحظاتٌ ختاميَّة
    • 6.6مراجع وحواشي الفصل السابع



[size][rtl]

الفصل الأَوَّل: مدخل

[/rtl][/size]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي :: تعاليق

فؤاد
رد: أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي
مُساهمة الإثنين أبريل 17, 2017 8:29 pm من طرف فؤاد

الفصل الأَوَّل: مدخل[عدل]

الخيار الحاسم:النهضة أو السقوط[عدل]

كلَّما أَنعمتُ النظَرَ في أَمر هذه الأُمَّة، لاحظتُ، بكلِّ أَلَمٍ، أَنَّها تنحدرُ نحو الانقراض التدريجيِّ منذ فترةٍ طويلة وكلَّما تقدَّمَ الزمن، ولا سيَّما إذا قارنَّا جمودَها المحزِن أَو تراجُعَها المؤسِف بالحركة المتفجِّرة التي يَجري بها العالَمُ المتقدِّم نحو الأَمام بسرعةٍ هائلة، الأَمر الذي يؤدِّي إلى زيادة الفجوة الحضاريَّة بين الطرفَين، وبالتالي إلى ما يُلاحَظُ، اليومَ، بكلِّ وضوح، من التبعيَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة والعِلميَّة والثقافيَّة التي تَزيدُ من التخلُّف؛ وهكذا تعود هذه الدورةُ القاتلة إلى تكرار نفسها. وهذا ما سأشرحه في عدَّة مناسبات تالية. حتى بعض المنجزات التي حققتها هذه الأٌمَّة، وخاصَّةً الاستقلال، تحوَّلَتْ، فيما بعد، إلى استبدادٍ من جانب السُّلطات الحاكمة، وإلى تبعيَّةٍ داخليَّة، أَو تبعيَّةٍ خارجيَّة واستعمارٍ جديد بثوبِ معاهدةِ تعاون "عسكريٍّ" أَو اقتصاديٍّ أَو ثقافيٍّ أَو تطبيع... إلخ.
وأُبادرُ إلى القول إنَّ مُنطَلَقاتي، في بحث هذا الموضوع الشائك، قوميَّةٌ وإنسانيَّة تحرصُ على السعي إلى إيجادِ وسيلةٍ للخروج من هذه الأَزمة. ولئن تعرَّضتُ لعلامات انقراض هذه الأُمَّة، فما توخَّيتُ إلاَّ التنبيهَ والإنذارَ قبل فَوات الأَوان، فضلاً عن شَحْذ الهِمَم وتكريسِ الجهود والحثِّ على التوصُّل إلى حلولٍ عمليَّةٍ يمكنُ أَن تُنقذَ الموقف؛ وقد تطرَّقتُ إلى بعضها في هذا الكتاب.
وهكذا قد تُقدِّم هذه الفصول بعضًا من تلك الحلول، بعد محاولةِ تحليل الإشكاليَّات التي يتعرَّضُ لها الوطنُ العربيُّ وتفسيرِها وتنظيرِها. وهي تُعرِبُ عن عددٍ من الأَفكار التي كانتْ تُلِحُّ على عقلي وتستغرقُ فكري منذ بضعةِ عقود. كما إنَّها تُمثِّل نُتَفًا من الهمِّ الذي أَحملُه إزاءَ هذه الأُمَّة المنكوبة لا بـ"الآخَر" فحسب؛ "الآخَرِ" الذي انتهكَ أَرضَها ونهبَ خيراتِها وأَذلَّ شعبَها واخترقَ كيانَها، بل المنكوبة، بالأَحرى، بـ"الأَنا"، بوجهٍ خاصٍّ؛ أَي المنكوبة بأَهلها: زعمائها وحُكَّامِها، بل معظمِ حُكمائها وشيوخها، وكثيرين من مُثـقَّـفيها ونُخَبِها المتعلِّمة. دَعْ عنك سَوادَ الناس البسطاء الذين يُخيِّم عليهم الجهلُ (نصفُ السكَّان العرب، تقريبًا، أُمِّيُّون).(1) وغالبًا ما أَتذكَّرُ، بمرارةٍ، القولَ المأْثور: "يفعلُ الجاهلُ بنفسه ما لا يفعلُه العدوُّ بعدوِّه."
ولو استمرَّتْ هذه الأُمَّة على هذا الحال الذي يزدادُ تفاقُمًا، بمرور الزمن، فلا مناصَ من انحدارها نحو الانقراض، كما انقرضتْ قبلَها أُمَمٌ كثيرة، هذا إذا لم نقلْ إنَّها تنحدرُ فعلاً في هذه الهاوية منذ فترةٍ طويلة. وهذا ما يشير إليه صراحةً المؤرِّخُ والمفكِّر "أرنولد توينبي" الذي يحصر الحضارات التي ظهرَتْ بـ21 حضارة، انقرضَتْ منها 14حضارة، ولم يبقَ منها إلاَّ سبعٌ، ستٌّ منها تمرُّ بدور الانحلال، وهي (العربية) الإسلامية، والأُرْثوذكسيَّة المسيحيَّة البيزنطيَّة، والمسيحيَّة الروسيَّة، والهندوكيَّة، والصينيَّة، والكوريَّة-اليابانيَّة. أَمَّا السابعة، وهي الغربيَّة، فإنَّ مصيرَها ما يزال مجهولاً، حسبَ رأْيه. وسنأْتي على تفصيل رأي توينبي في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، في الفصل الثاني.
وليس من الضروريِّ أَن يكون هذا الانقراض، الذي تتعرَّضُ له الأُمَّة، مادِّيًّا أَو جسديًّا-مع أنَّ ذلك يشكِّل جزءًا مهمًّا منه-بل قد يكون جزؤُه الأَكبر ذوبانًا في المجتمعات الجديدة المسيطِرة والمتفوِّقة، أَو خضوعًا تامًّا لها، بحيث يُصبح أَبناؤها أَدواتٍ أَو قوًى عاملةً رخيصة، كما يحدث اليومَ، مثلاً، في إسرائيل التي تستخدمُ القوى العاملة العربيَّة من غزَّة والضفَّة الغربيَّة في ممارسة الأَعمال البسيطة أَو الحقيرة، مثلاً.
وهكذا يُمكنُ تقسيمُ مَظاهر انقراض هذه الأُمَّة، بوجهٍ عامٍّ، إلى مادِّيَّة ومعنويَّة واقتصاديَّة وتكميليَّة؛ وقد تتداخلُ هذه المظاهر، في الغالب.
من المظاهر المادِّيَّة:
1- الحروبُ الخارجيَّة والبَيْنيَّة والأَهليَّة، ومنها حروبُ الخليج الثلاث وحربُ الكويت، وقبلَها الحروبُ مع إسرائيل فضلاً عن محاولاتها اليومَ لتهجير الشعب العربيِّ الفلسطينيِّ أَو تركيعِه. ومن تلك الحروب، الحربُ الأَهليَّة التي قامتْ في اليمن، ثمَّ في لبنان، والحربُ الأَهليَّة المستمرَّة في السودان منذ عشرين عامًا، والحربُ الناشبة في الجزائر منذ أَكثرَ من عَقد من السنين. والواضحُ تمامًا أَنَّ النتائجَ النهائيَّة لتلك الحروب كانت كارثيَّةً على الأُمَّة ككلٍّ، وبخاصَّة على بعض الأَقطار والشعوب المَعنيَّة أَكثرَ من غيرها. وسنذكر بعضًا من تلك النتائج في الفقرات التالية.
2- عمليَّاتُ التهجير والإبادة الجماعيَّة التي قُتِل أَو شُرِّد في خلالها عشراتُ الملايين، خاصَّةً في حروب العراق وحصارِه، وحروب فلسطين والجزائر واليمن والسودان ولبنان. إنَّ استمرارَ هذه الحروب وارتفاعَ حصائلها من الضحايا وتدميرَها البنى التحتيَّة سيؤدِّي، في النهاية، إلى تآكُلِ كيان الأُمَّة.
3- والجديرُ بالملاحظة أَنَّ الحروب الداخليَّة، البينيَّة والأَهليَّة-خاصَّةً إذا اعتبرنا الحربَ العراقيَّة الإيرانيَّة ضمنَها-فضلاً عن المذابح الجماعيَّة الداخليَّة التي اقترفَتْها بعضُ الأَنظمة، قد تعادلُ، في ضحاياها وآثارِها المدمِّرة، جملةَ الأَضرار والضحايا التي سبَّبها العدوانُ الأَجنبيُّ والحروبُ الخارجيَّة، بما فيها الحروبُ مع إسرائيل-هذا، إنْ لم تتجاوَزْها. وهذا واحدٌ من مظاهر الانتحار الذي تمارسُه الأُمَّة على نفسها.
4- عمليَّاتُ الهجرة الطوعيَّة والاضطراريَّة التي تعصفُ بملايينَ أُخرى؛ وهي تحدثُ يوميًّا وتَطول جميعَ الشرائح السُّكَّانيَّة، ابتداءً من الطبقات الكادحة التي تبحثُ عن لقمة العيش إلى المثقَّفين والعلماء الذين يَنشدون مُناخًا أَرحَب وحياةً أفضَل.
5- الاحتلالُ المباشَر لبعض البلدان العربيَّة كالعراق، مثلاً، أَو الاستعمارُ الاستيطانيُّ كما يحدثٌ في فلسطين، أَو الاحتلالُ غيرُ المباشر بزَرْع القواعد العسكريَّة وَوَزْع القوَّات المسلَّحة في الأَراضي العربيَّة.
أَمَّا مؤشِّرات الانقراض المعنويِّ، فقد تتداخل مع الأُولى أَحيانا، وتتجلَّى بعدَّة أَساليب منها:
6- عمليَّاتُ الضغط أَو التهديد والتطويع والتركيع أَو المقاطعة أَو الحصار الاقتصاديِّ التي يمارسُها "الآخَر" للقضاء على بقايا وجود هذه الأُمَّة ومعنويَّاتِها، وعلى البقيَّة الباقية من ماءِ وجهها. ونحن نلاحظ ذلك يوميًّا في مختلف المناسبات الدوليَّة والإقليميَّة (وتمثِّل هذه أَنماطًا متداخِلةً مع المظاهر المادِّيَّة).
7- سيطرةُ "الآخَر" غيرُ المباشَرة اقتصاديًّا وثقافيًّا، عِلميَّا وتكنولوجيًّا، وصولاً إلى جَعْل الشعب العربيِّ يعتمدُ اعتمادًا مصيريًّا على ذلك "الآخَر"، كما يحدث اليومَ فعلاً، وإلى حدٍّ بعيد، من خلال العَوْلمة الاقتصاديَّة والثقافيَّة بين طرفَين غير متكافئَين لا اقتصاديًّا ولا حضاريًّا.
8- الغزوُ الثقافيُّ الذي يتجلَّى في حملاتِ وسائط الإعلام الموجَّهة للتأْثير على العقول وتوجيهِها، فضلاً عن الترويج لوسائل اللهو والمُتْعة والجنس، بل حتَّى نَشْر المخدِّرات بشكلٍ غيرِ علنيٍّ، أَو من خلال الضغوط المباشَرة وغيرِ المباشَرة، بالتلويح بالعصا والجَزَرَة.
9- إنَّ عمليَّاتِ التجزئة المُتعمَّدة التي حدثَتْ في خلال القرن الماضي، سواءٌ بواسطة القوى الاستعماريَّة (معاهدة سايْكس بيكو) أَو بواسطة السلطات أو المشايخ الحاكمة في بلدان الخليج، بوجه خاصٍّ (وهي التي أَرادت أَن تحافظَ على امتيازاتها العشائريَّة والأُسريَّة بتشجيعٍ من القوى الاستعماريَّة)-إنَّ عمليَّات التجزئة المتعمَّدة هذه أَدَّت إلى تفتيت الوحدة العربيَّة التي كانت الأَملَ الأَقوى الذي يُراود أَبناءَ الأُمَّة بعد تحرُّرهم من الحكم التركيِّ، وأَسفَرَتْ عن خلقِ واقعٍ جديدٍ على الأَرض يُسهِمُ في تكريسه الحكَّام والمحكومون، بوعيٍ أَو بدون وعي، إلى حدٍّ يتوارى فيه "الإنسانُ العربيُّ" وراء الإنسان القَطَريِّ والإنسان الكويتيِّ والإنسان البحرَينيِّ والإنسان العُمانيِّ إلخ، ويذوبُ تدريجيًّا في خِضمِّ هذه التسميات التي يُشجِّعُها "الآخر"، خاصَّةً في تلك البلدان الصغيرة والضعيفة التي لا يتجاوزُ حجمُها حجمَ مُدُنٍ متوسِّطة في بلدانٍ عربيَّة مُجاوِرة، ناهيك عن حجمِها على الصعيد الدوليِّ الذي يكاد لا يُذكَر.
10- أَنظمةُ الحكم المستبدَّة والفاسدة التي استمرَّتْ في الحكم منذ حصلَتْ معظمُ البلدان العربيَّة على استقلالها، مع أَنَّ معظمَ البلدان في العالَم تحولَّتْ إلى النظام الديمقراطيِّ الحُرِّ، خاصَّةً بعد انهيار الاتِّحاد السوفيتيِّ. كما نلاحظ، بخَجَلٍ، أَنَّ زعماءَ هذه الأنظمة لا يُغادرون كرسيَّ السلطة إلاَّ عندما يَقضون نَحْبَهم، موتًا أَو قتلاً. كما إنَّهم يَحرصون على توريث ذلك الكرسيِّ إلى أَبنائهم. وقد ذهب قَسَمُ أَحمد عرابي باشا أَدراج الرياح حين قال: "والله الذي نفسي بيده، إنَّنا لسنا عبيدَ أَحد، ولن نتوارث بعد اليوم."
أَمَّا على الصعيد الاقتصاديِّ، فهناك مؤشِّراتٌ جِدُّ كثيرةٍ يَضيقُ بها المقام، منها على سبيل المثال:
11- يُشير تقرير برنامج الأُمَم المتَّحدة الإنمائيُّ، المتعلِّق بالتنمية الإنسانيَّة العربيَّة لعام 2002، إلى تراجُع الدَّخْل الفرديِّ بوجهٍ عامّ. ويقول التقرير: "لقد شهدَ العالَمُ العربيُّ عامَّةً حالةً من شبه الركود خلالَ رُبع القرن الأَخير. وجديرٌ بالذِّكْر أَنَّ البلدان العربيَّة ذاتَ الدَّخْل المرتفع (بلدان الخليج) سجَّلَتْ أَعلى نسبةٍ في التدهوُر منذ 1980، إذ تراجَعَتْ حصَّةُ الفرد في الناتج المحلِّيِّ الإجماليِّ الذي كان ينمو بمعدَّل متوسِّط بلغَ 3 في المئة سنويًّا بين عامَيْ 1975 و1980—تراجعت إلى ناقص 4 ،4 في المئة بين عامَيْ 1980 و1990، ثمَّ إلى ناقص7 ،1 بين عامَيْ 1990و1998. وكانت مُحصَّلةُ ذلك تطوُّرًا سالبًا للناتج المحلِّيِّ الإجماليِّ للفرد في مجمل الفترة بمعدَّل ناقص 8 ،1. وقد امتدَّ هذا التدهورُ ليشملَ أَيضًا البلدانَ ذاتَ الدَّخْل المنخفض."(2)
12- ويمكن الاستنتاج من التقرير نفسِه، وخاصَّة من الجداول والإحصاءات التي أَورَدَها، أَنَّ الوطنَ العربيَّ يُعتَبَرُ أَكثرَ المناطق تخلُّفًا في العالم بعد إفريقيا جنوب الصحراء. هذا على الرغم من إشارةِ مصادرَ أُخرى إلى أَنَّ الوطنَ العربيَّ قد استثمرَ أكثرَ من ثلاثةِ آلاف مليار من الدولارات في التكوين الإجمالي لرأْس المال الثابت (G F C F) خلال العقدَين السابقَين.
13- وأهم من ذلك أَن نلاحظَ تَزايُدَ اتِّساع الفجوة الحضاريَّة والاقتصاديَّة بين الوطن العربيِّ والبلدان المتقدِّمة. فقد ارتفعَتْ تلك الفجوةُ من 30 ضعفًا عند دخول نابليون مصرَ عام 1798، إلى آلاف الأَضعاف في بعض المجالات العِلميَّة والتكنولوجيَّة في الوقت الحاضر. وهذه الفجوة المتزايدة قد تُقرِّرُ فعلاً مصيرَ الأُمَّة العربيَّة، لأَنَّه كلَّما اتَّسَعَتْ وتعمَّقتْ، تزايدَتْ تبعيَّةُ الأُمَّة أَو سيطرةُ الآخَر على مقدَّراتها ومستقبلها. وكمثالٍ على زيادة الفجوة من الناحية الاقتصاديَّة فقط، نُورد هذا المثال البسيط: كانت نسبةُ الناتج المحلِّيِّ الإجماليِّ الحقيقيِّ للفرد في الوطنِ العربيِّ إلى الناتج المحلِّيِّ للفرد في منظَّمة التعاون والتنمية تبلغ 21.3 في المئة في عام 1975، ثمَّ هبطَتْ هذه النسبة إلى 13.9 في عام 1998،(3) أَي أَنَّ هناك تزايُدًا متواصلاً في اتِّساع الفجوة. هذا، فضلاً عن الفجوات الأُخرى الأُكبر في مجالات الإعلام والمعلومات والتكنولوجيا والتسلُّح والفكر العلميِّ خاصَّة.
14- هذه الفجوات لا تقتصرُ على مؤشِّرات التفوُّق الغربيِّ على العرب، بل تشملُ أَيضًا تفوُّقَ إسرائيل المتواصل عليهم كذلك، على الرغم من آلاف المليارات من الأَموال التي دخلتْ في حوزتهم من عوائد الذهب الأَسود، وعلى الرغم من أّنَّ عددَ نفوس إسرائيل لا يُشكِّل سوى قرابة 2 في المئة من نفوس الأُمَّة العربيَّة . ويُشير الدكتور نادر فرجاني إلى تصاعُدِ مؤشِّرات تفوُّق إسرائيل على العرب نسبةً إلى عدد السكَّان، فيقول إنَّها تتفوَّق بـ"حوالى عشر مرَّات في الأَفراد العلميِّين، وأَكثر من ثلاثين مرَّةً في الإنفاق على البحث والتطوير، وأَكثر من خمسين مرَّةً في وصلات الإنترنت، وأَكثر من سبعين مرَّةً في النشر العِلميِّ، وقرابة ألفِ مرَّةٍ في براءات الاختراع."(4) ويُشير تقريرُ برنامج الأُمم المتَّحدة الإنمائيِّ إلى أَنَّ الناتجَ المحلِّيَّ الإجماليَّ للفرد في إسرائيل يفوقُ نظيرَه في البلدان العربيَّة مجتمعةً. فبعد أَن كانت الزيادةُ ثلاثةَ أَضعافٍ في عام 1970، بلغَتْ ما يُقارب سبعةَ أَضعافٍ في عام 1995. كما ارتفع الناتجُ الإجماليُّ لإسرائيل من 5 في المئة في 1980 إلى حوالى 20 في المئة في 1995 ، من الناتج الكلِّيِّ لمنطقة الشرق الأَوسط .(5) وهكذا تتزايد الفجوةُ اتِّساعًا بمرور الزمن، الأَمر الذي سيؤدِّي تلقائيًّا إلى سيطرة إسرائيل على مُقدَّرات الأُمَّة العربيَّة في المستقبل القريب.
15- وأَخطرُ من كلِّ ذلك أَنَّ هناك فجوةً غذائيَّةً كبيرةً متزايدة في الوطن العربيّ؛ أَي إنَّنا نستهلكُ من الغذاء أَكثرَ بكثير ممَّا نُنتج. فقد بلغَتْ تلك الفجوةُ في عام 1998 ما قيمته 13.01 مليار دولار بعد أَن كانت 12.64 في عام 1997، أَي أَنَّ الفجوة تتزايد بنسبة 2.88 في المئة سنويًّا، لتصبح 13.40 في عام 2000.(6)
أَمَّا المؤشِّرات التكميليَّة، فنُوجِزُها بما يلي:
16- ولعلَّ الأَهمَّ من كلِّ ما تقدَّمَ، كما أعتقدُ، هو غفلةُ الأُمَّةُ نفسُها عن هذا المصيِر الوشيكِ الذي ينتظرُها. وأنا لا أقصدُ غفلةَ العامَّةِ فقط، وهو أَمرٌ طبيعيٌّ، بل غفلةُ معظمِ الخاصَّةِ وبعضِ أَعضاء النُخبةِ التي قد تتجاهَلُ هذا الأمرَ الخطير. نعم ، طـُرحَ السؤالُ القديمُ الجديدُ، منذُ القرنِ التاسعَ عشر: "لماذا تقَدَّمَ الغربُ وتخلَّفَ المسلمون؟" وكـُتب عن هذا الموضوعِ مئاتُ البحوثِ، وقامَ ما يُسمَّى بحركةِ النهضةِ الفكريـَّةِ العربـيَّة للإجابة عنه. ومع ذلكَ، فقد فشِلتْ جميعُ الجهودِ في سدِّ الفجوةِ المُتزايدة بـيننا وبـينَ الآخرِ، بل إنَّها ازدادت اتِّساعاً وعُمْقًا، خاصَّةً في الخمسين عاماً الأَخيرةِ، كما شرَحْتُ سابقاً. وعندي أَنَّ أَهمَّ سببٍ في ذلك هو عدمُ وعْينا بمدى تخلُّفنِا، وبالتالي عدمُ اعترافِنا الصريحِ والهادف بذلك؛ بل حصلَ العكسُ تمامًا، في الغالب، لأَنَّنا أَخذنا نُكابرُ ونُجادلُ ونُفاخِرُ بِحَضارتِنا العَريقةِ وفَضْلِها على العالَمِ عامَّةٍ وعلى الغرب خاصَّةٍ، كالعزيزِ الذي فَقَدَ ثروَتَه ومَجْدَه، فأُصيبَ بلوْثةٍ عَقْليَّة جَعَلتْهُ يَهذي ويُفاخر بأَنَّه ما يزالُ"ربَّ الخورْنَقِ والسَّديرِِ". إنَّ الاعترافَ بتخَلُّفِنا، بوعيٍ عَميقٍ به وفَهْمٍ دَقيقٍ لأَسْبابِه، ومنها قهرُ "العقلِ المجتمعيِّ" والخضوعُ لـ"العقلِ المنُفَعِل"، كما سأشرحُ ذلكَ في الفُصولِ التالية، هو خطوةٌ أُولى وأساسيَّةٌ قد تَضَعُنا في بِدايةِ الطريقِ. وإنَّ إنكارَ ذلكَ أو تجاهُلَه أَدَّيا، منذُ عدَّةِ قرونٍ، إلى فَشَلِ حركةِ النهضةِ العربيَّة، كما يؤدِّيان الآن إلى انزلاقِ الأُمَّةِ نحو هاويةِ الانقراضِ المُحتَّمِ، كما بيَّنتُ آنفًا.
17- وقد يجدرُ الإيماءُ إلى أَنَّ جميعَ مؤشِّراتِ انقراضِ هذه الأُمَّةِ تكادُ تدورُ، على الأَغلبِ، حولَ محورٍ واحدٍ أو عاملٍ مُنْفردٍ اسمُه"التخلُّفُ"، بجميعِ أَشكالهِ وأَلوانهِ ومظاهرهِ، وباعتباره عاملاً مركَّبًا يَتَشابكُ ويَتَقاطعُ مع عواملَ متعدِّدةٍ أُخرى. فقدْ كانَ هذا التخلُّفُ سببًا في فَشَلِنا في مَنع العدوِّ الصهيونيِّ من التمركزِ في بلادِنا واحتلالِ أَراضينا، وتَشريدِ شَعْبِنا، وإرغامِنا على التَطبيعِ أَو بالأَحرى التركيعِ والقبول بالواقعِ المُرِّ. ولولا هذا التخلُّفُ، لَما نَشَبَتْ جميعُ هذهِ الحروبِ الأهليَّة والبَيْنِيَّةِ، في وقتٍ كانَ الآخرُ يُبارِكُها و يُغذِّيها ويدعمُها بالسلاحِ والمعلوماتِ، لكلا الطرفَيْنِ، كما حصلَ، مثلاً، في الحربِ العراقيَّة الإيرانيَّة التي استَنْزَفَتْ وأنهكَتْ كلا الغَريْمَيْنِ، فأخذَ ينقضُّ على كلِّ طرفٍ على حِدَة، كما حَدَثَ ويحدثُ وأنا أخُطُّ هذه السطور. ولولا تخلُّفُنا، لَما سيطرتْ علينا هذه الزُمرةُ من الطبقاتِ الحاكمةِ المستبدَّةِ والفاسدة. والمُعْضِلُة الأدهى أَنَّ معظمَ الناسِ في الوطنِ العربيِّ لا يَعُونَ تخلُّفَهُمْ، بل إنَّ معظمَ المتعلِّمينَ والمثقَّفينَ لا يَعُونَ، على الأَرجحِ، هذا السببَ الحاسمَ في نكباتنا وفشلنا، كما أَرى. وأَنْكى من ذلك أَنَّ بعضَ هؤلاءِ قد يَرُدُّ على هذا الطَّرحِ باتِّخاذِ مواقفَ دفاعيَّةٍ تَتجلَّى إمَّا بإظهارِ مثالبِ "الآخرِ" وعيوبِهُ، وإمَّا بالمُزايدة على الماضي التالدِ ومُنْجَزاتِه الشامخةِ. وقد يَرُدُّ بَعضُهم على ذلكَ بأَنَّنا تَقدَّمْنا كثيراً عمَّا كُنَّا عليه قَبلَ مئةِ عامٍ مثلاً ، أَو بأَنَّنا نُفَضِّلُ أنْ نُحافظَ على دينِنا وتقاليدِنا العريقة بدلاً من أَنْ نَتَشَوَّهَ بالحَضارةِ الحَديثَةِ وفَسادِها المادِّيِّ والأَخلاقيِّ والجنسيِّ. والردُّ الأَكثرُ شيوعاً هو أَنَّ الغربَ كان، وما يزال، يُشكِّل العائقَ الأَوَّلَ والحاسمَ في سبيلِ تَقدُّمِنا. وسأُحاولُ الردَّ، بشكلٍ أَو آخرَ، وبقَدْرِ ما يَسمحُ به المقامُ، على بعضِ هذهِ الاعتراضاتِ والحججِ في الفصولِ التالية.
ومع ذلك يجبُ أَنَّ ننوِّهَ بظهورِ نخبةٍ من المفكِّرينَ والمثقَّفينَ العربِ الذين عالجوا موضوعَ تخَلُّفِ الأُمَّةِ بكفاءةٍ عاليةٍ، سأَذكرُ بعضَهم، مُشيدًا بفضلهم، في أَثناء بحثي فيما بعدُ.
ويَطولُ الحديثُ عن المظاهرِ التي تُوحي بِسقوطِ هذه الأُمَّةِ أو انقراضِها، إلا إذا حصلَ تغيُّرٌ جذريٌّ في كيانِها البُنيويِّ، وخاصَّةً الاجتماعيَّ والفكريَّ. ونحن نَنطلقُ في هذا الطرحِ من مصالحَ قوميَّةٍ مُخْلصةٍ تـنظرُ في إمكاناتِ إنقاذِ هذهِ الأُمَّةِ من هذهِ الغُمَّةِ. وآمل أن لا يُفسَّرَ أَيُّ شيءٍ من هذا العرضِ باعتبارهِ مسًّا بالعربِ أَو بالأُمَّةِ العربيَّة، بالتفصيلِ الذي سأَشرحُه في ختامِ هذا الفصلِ.
مَنْ يتَحمَّلُ مسؤوليَّةَ ذلك؟ أَي مَن يتحملُ مسؤوليَّة انقراضِ هذه الأُمَّة؟
يَبدو، ممَّا تقدَّمَ ذِكْرُهُ من بعضِ المؤشِِّراتِ ( من 5إلى 9) وممَّا يَتجلْى واضحاً للعَيانِ من عددٍ من الدلائِل، أَنَّ الغربَ كانَ يُشكِّلُ عائقًا كبيرًا في سبيلِ تقدُّمِ هذهِ الأُمَّةِ ووحْدَتِها القوميَّةِ؛ أَي إنَّ مسؤوليَّةَ انقراضِ هذهِ الأُمَّةِ تقعُ، في رأي الكثيرينَ، على عاتقِ الآخرَ، في المقامِ الأَوَّل. ومع أَنَّني أُوافقُ على أَنَّ الغربَ كان، وما يزالُ، ضالعاً في الوقوفِ ضِدَّ أَيِّ مشروعٍ يتعلَّقُ بوحْدةِ هذه الأُمةِ-والتاريخُ يشهدُ على ذلك-كما أَنَّه يحاول أَن يقفَ دونَ تقدُّمِ العربِ العلميِّ والتِّقانِيِّ، بُغْيَةَ أَن يَبقى مُهيْمِنًا، هو وإسرائيل، على مُقدَّراتِهمْ، وأَنَّ هناكَ خطوطًا حمراءَ في هذا الشأْنِ لا يمكنُ تجاوزُها، فإنَّني لا أَعتبِرُه مسؤولاً عن تخلُّفِنا ولا عن سقوطِنا، لعدمِ وجودِ مسؤوليَّةٍ أصلاً تقعُ على الطَّرفِ الرابحِ في أيٍّ رهِانٍ أو حَربٍ أو مُباراةٍ أو مُنافسةٍ. لذلكَ أَرى أَنَّ مسؤوليَّةَ خسارتِنا في هذا الِمضْمارِ تقعُ عليْنا حصراً، نحنُ الطرف الخاسر في الرِّهان، بِصرفِ النظرِ عن الأَسباب.
لذلك سأُبيِّنُ، في هذا المطبوعِ، أَنَّ المسؤوليَّةَ الأَساسيَّة تقعُ، في المقامِ الأَوَّلِ، على الإنسانِ العربيِّ، أَو، بالأَحْرى، على العقلِ العربيِّ الذي تُمثِّلهُ العامَّةُ أَوَّلاً، كما تُمثِّله، إلى حدٍّ بعيدٍ، تلك النُّخبةُ من المُثقَّفينَ والمتعلِّمينَ الخاضعينَ لـ"العقلِ المجتمعيِّ"(الذي سأشرحُه في هذا الكتاب)، من حيثُ يعلمونَ أَو لا يعلمون.
ومن جهةٍٍ أُخرى أَهمَّ، لو سَلَّمْنا جَدَلاً بأَنَّ الآخرَ (الغرب) هو المسؤولُ عن مُعظمِ مشاكِلِنا ونَكَباتِنا، فالسؤالُ المطروحُ هو: مَن الذي سيُسائلُه؟ أَو، بالأَحْرى، مَن الذي سيُحاكِمه؟ ونحنُ نَعلَمُ أَنَّ حَضارةَ الغربِ الحديثةِ قامَتْ على أَشلاءِ مئاتِ الملايينِ من البشرِ، ابتداءً من الإبادةِ الجَمَاعيَّة لسُكَّانِ أَمريكا الأَصليِّين، إلى إبادةِ الشعوبِ المستعمَرةِ في أَفريقيا وآسيا أَو استِعبادها. والمعركةُ مُستمرَّةٌ ومُتواصلةٌ، ولكنَّها انصبَّت اليومَ، انصبابًا أَكبرَ، على الشعوبِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، على نحوٍ مُكثَّفٍ، خاصَّةً مُنذُ أَحداثِ الحادي عَشرَ من أيلولٍ/سِبتمبر 2001، بلْ مُنذُ انهيَّارِ الاتِّحادِ السوفيـتيِّ وإعلانِ مقولةِ "صراعَ الحضارات".
وهُنا أُريدُ أَنْ أَخلصَ إلى أَنَّ الواقعَ يَقتضي مِنَّا أَنْ نَعتَرفَ، شئِنا أَو أَبَيْنا، بـ"عَدالةِ" تَنازعِ البقاءِ، و"الحقِّ" في بقاءِ الأَصلَحِ أَو الأَقوى و/أَو الأَذكى والأَعلَمِ والأَعقلِ أَو الأَفطنِ والأَدهى، بِصرفِ النَظرِ عنْ مفهومِ العدالةِ بِمعناها المطلق. أَلم تُشَكِّلْ هذه الحقيقةُ المُرَّةُ، بالنِسبةِ للفاشِلين أَو المُهَمَّشينَ، والحُلوةُ بالنِسبةِ للناجِحينَ والبارزينَ، واقعَ التاريخِ البَشريِّ على مَرِّ العُصور، بلْ واقعَ التاريخِ الأَحيائيِّ مُنذُ بدايةِ الخليقةِ حتَّى يومِنا هذا؟ يقولُ المثَلُ الشعبيُّ: "الحقّ بالسيف، والعاجز يريد شهود". وسيفُ اليومِ لا يختلفُ كثيرًا عن سيفِ الأَمسِ الذي يحتاجُ إلى دَعمٍ من الرأْي: "الرأْيُ قبلَ شَجاعةِ الشُجعانِ". ولكنَّ رأْيَ اليومِ أَصبحَ مُستـنِداً إلى العقلِ والعلمِ والمعرفةِ والتخصُّصِ والفِكرِ الناضجِ والمُبدعِ، أَكثرَ من أَيِّ وقتٍ مضى، وكلُّها عواملُ أَنشأَتْ أَعمدةَ الحضارةِ الحديثةِ، وأَسهمتْ في استغلالِ بلْ استعبادِ الشعوبِ الجاهلةِ والخاملةِ التي سُمِّيَت "النامية"، بما فيها الشعوبُ العربيَّة والإسلاميَّة التي ستُخيَّرُ بين التطبيعِ والتركيعِ أَو الإزاحةِ والتقطيعِ، ما لم تَتَفهَّمْ واقعَ وعدالةَ تنازعِ البقاءِ وبقاءِ الأَصلح، وذلك من أَجل أَن تتكيَّفَ وتنهضَ وتُدافعَ عن حقوقِها، لا بِجَعْجَعَةِ الكلام الفارغ والتباهي بمجد آفل، بلْ بِقَعْقَعَةِ المصانعِ ودويِّ الآلاتِ والمحرِّكاتِ، وبالخلقِ والإبْداعِ، وتحريرِ العقلِ المنُْفَعِلِ من سُجُونِ العقلِ المُجْتَمعيِّ، لتحْويلهِ إلى عقلٍ حرٍّ فاعلٍ ومُنتِجٍ.

  • * *


في مُنتصفِ القرنِ العشرين كنَّـا نعتقد، وكان مُعظمُ العربِ، إنْ لم يكنْ جميعُهم، يَعتقدونَ أَيضًا، أنَّ المعضلةَ الأساسيَّة التي كانت تُواجهَنا هي الاستعمارَ الأَجنبيَّ الذي كان مُسيْطرًا على جميعِ البُلدانِ العربيَّة تقريبًا: يَنهبُ موارِدَها ويستعبدُ أَهلها ويُنَـصِّبُ مُلُوكَها وزُعماءَها ووزراءَها.
وكنَّا نَتَصوَّرُ أَنَّ جميعَ مشاكِلنا، كعراقيِّينَ وكعربَ، يُمكنُ مواجهتُها وحلُّها تدريجيًّا بمجرَّدِ التَحرُّرِ من هذا الماردِ الجبَّار. وكنَّا نتصوَّر أَنَّنا سَنتمكَّنُ من مُواكبَةِ التطوُّرِ الحضاريِّ والوصولِ إلى تحقيقِ أَهدافِ الأُمَّة في الوَحدةِ والتنميةِ والتقدمِ، خِلالَ عقودٍ قليلةٍ، ولاسيَّما أَنَّ العراقَ، مثلاً، كان يَمْلِكُ، وما يزال، مواردَ طبيعيَّةً هائلةً (النِفطُ والمياهُ والأَرضُ الخَصبة والموادِّ الأَوَّليَّةِ الأُخرى) فضلاً عن المواردِ البشريَّة ذات الكفاءاتِ العالية.
لذلكَ حَقَّقتْ الحركاتُ والثوراتُ التحريريَّةُ التي انطلقتْ مُنذُ مطلعِ الخمسينيَّاتِ، خاصَّةً في ِمصرَ والعراقِ وسوريَّةِ وليـبـيا والجزائر، تأْييدًا جماهيريًّا كاسحًا على جميعِ المُستوياتِ، وفي طليعتها المُستوياتُ العالِمةُ والمثقَّفة.
وبعد فترةٍ من قِيامِ تلكَ الثورات، تبيَّن لنا مَدى فشَلِنا في تحقيقِ مُعظم الأَهدافِ التي كانت مَرجوَّةً منها، بل تعقَّدَتْ خلافاتُنا، وتفاقمتْ مشاكلُنا، وتتابعتْ هزائمُنا وكوارثُنا، وتكرَّسَت التجزئة، وازدَدْنا بُعداً عن الوحدةِ العربيَّة والتكاملِ الاقتصاديّ.
ولَطالما تساءَلْتُ: لماذا حدثَ ويحدثُ كلُّ ذلكَ؟ ولماذا فشلَتْ نهضتُنا وتبدَّدَتْ جميعُ آمالِنا ومشاريعِنا بعد الاستقلالِ؟ بل لماذا ازدادتْ أَوضاعُنا، على وجه العمومِ، سوءًا؟
الأسئلةُ كثيرةٌ وسهلة، لكنَّ الإجابةَ عنها قليلة وعسيرة، بالرغمِ ممَّا طُرح بشأْنِها من آراءٍ وحلولٍ، وما كُتبَ عنها من عشرات بل مئات الكتب. وعندي أَنَّ سببَ ذلك يعودُ إلى أَنَّ الظواهرَ الاجتماعيَّة تختلفُ عن الظواهرِ الطبيعيَّة، من جهةِ إمكانيَّة حصرِ الأَسبابِ والنتائجِ وتشخيصِها، بالتفصيلِ الذي شرحتُه في"ملاحظاتِ" الفصلِ الأَوَّل (ثانياً). ومع ذلك، فهذه محاولةٌ متواضعةٌ، لا أَدَّعي أَنَّها ستحلُّ الإشكاليَّة التي نحن بصددها، ولكنَّها قد تُلقي خَيْطًا من الضوءِ عليها.
وتدورُ هذه المحاولةُ التي يتضمَّنُها هذا البحثُ حولَ محاورَ أًساسيَّةٍ محدَّدةٍ ستبدو خِلافيَّةً، بل ربَّما صِداميَّة ، أَذكرها بإيجاز فيما يأْتي:
1- إنَّ المعضلةَ التي تواجِهُها الأُمَّةُ العربيَّةُ و البلادُ الإسلاميَّة، كما أَرى، لا تتعلَّقُ بتحريرِ الأَرضِ بقَدْر ما ترتبط ارتباطًا مباشَرًا وغيرَ مباشَرٍ بـ"تحريرِ الإنسانِ العربيِّ" بالذات، أَو، بالأَحرى، تحريرِ عقلهِ من القهرِ الخارجيِّ: السياسيِّ والاجتماعيِّ، بما فيه قهرُ "العقلِ المجتمعيِّ" الذي يتحوَّلُ، لدى الفردِ الذي ينتمي إلى ذلك المجتمع، إلى قهرٍ داخليٍّ ذاتيٍّ يصعبُ الفَكاكُ منه، بل يُصبحُ جزءًا من شخصيَّة الإنسانِ وتكوينِه العقليِّ وبُنيتِه الفكريَّة. وهذا ما شَرحْناهُ باختصارٍ في الفصلينِ الثالثِ والرابعِ من هذا البحثِ، وسنعودُ إليه في الجزءِ الثاني منه .
2- وهكذا أَرى أَنَّ السببَ الأَوَّلَ والأَهمَّ لجميعِ مُعضِلاتِنا ونكَباتِنا لا يتعلَّقُ بـ"الآخرِ" بقدْرِ ما يرتبطُ بـ"الأنا"، وينصبُّ بوجهٍ خاصٍّ على "تخلُّفِنا الحَضاريِّ" الذي نُعانيه، كشعوبٍ ناميةٍ، وكشعوبٍ عربيَّة وإسلاميَّة خاصَّةً. وهذا ما ذكرناهُ في الفقرةِ 17 أَعلاه، وما ستُفصِحُ عنه الفصولُ الآتية التي ستُعالج ُبعضَ الحلولِ الواقعيَّة الممكنةِ لتجاوُزِه.
3- القضيَّةُ الثالثةُ التي ستُطرحُ في هذه الفصولِ هي أَنَّ الفجوةَ الحضاريَّة، بما فيها العِلميَّةُ والتكنولوجيَّةُ والاقتصاديَّةُ والعسكريَّة، بين العالمِ المُتقدِّمِ والأُمَّةِ العربيَّةِ، تتزايدُ بمرورِ الزمن. وكلَّما اتَّسعَ حجمُ تلك الفجوةِ، تزايدَتْ هَيْمنةُ الدُّوَلِ المتقدِّمةِ، ومنها إسرائيل، على مُقدَّراتِ الأُمَّةِ العربيَّة. وهذا أَمرٌ خطيرٌ للغاية قد يُؤدِّي، كما أَسْلَفنا، إلى انقراضِ هذه الأُمَّةِ تدريجيًّا.
4- ولإثباتِ هذه الدعاوى، سنُحاوِلُ أَنْ نتعرَّضَ إليها، بعدَّةِ أساليبَ، وخاصَّةً من خلالِ ثلاث أُطروحاتٍ نعرضُها باعتبارها فرضيَّاتٍ تنحو إلى التبَلْوُرِ بِشكلِ نظريَّاتٍ قابلةٍ للمُناقشةِ والتمحيصِ والتعديلِ والتعميقِ: الأُولى، نظريَّةُ عدمِ مرورِ العربِ بمرحلةِ الزراعةِ قبل انتقالهمْ إلى مرحلةِ الحضارةِ بعدَ الفتوح الإسلاميَّةِ، وهم يتعرَّضونَ، اليومَ، لهذه الظاهرة منذ اكتشافِ النِّفط في مَنطقةِ الخليجِ، خاصَّةً بالنسبةِ لتلك المجتمعاتِ البدويَّةِ(الخليجيَّة مثلاً)؛ والثانيةُ، نظريَّةُ "العقلِ المجتمعيِّ"؛ والثالثةُ، نظريَّة "العقل الفاعل والعقل المنفعل".

  • * *


ومع تقديري البالغِ للقرَّاءِ الأَفاضلَ الذين نَوَّهوا بهذهِ المقالاتِ، حينَ نُشرتْ، فإنَّني قد أَتعرَّضُ لاتِّهاماتٍ، وربما لهجماتٍ من جهاتٍ مختلفةٍ أُخرى، بعد نَشْرِ هذا الكتابِ، كما سبقَ أَن تعرَّضْتُ عند نَشْرِ بعضِ آرائي عن "أَزمةِ العقلِ العربيِّ"، ومنها رأْيي في عدمِ مرورِ العربِ بمرحلةِ الزراعةِ، واعتقادي أَنَّ الأُمَّةَ العربيَّة عُرضةٌ للانقراض... وقد أُتَّهمُ باللاوطنيَّة واللاقوميَّة! وربَّما أُخِذَتْ عليِّ الخيانةُ أَو العمالةُ للآخر! قد يُقال مثلاً إنَّني، بهذه الآراء، أَتَّفقُ، بل أُروِّجُ لوجهاتِ نَظرٍ تُعبِّرُ عن آراء موتورةٍ تُهاجمُ العربَ وتُحاولُ المسَّ بهمْ وبالإسلامِ والمسلمين، والتقليلَ من دور الأُمَّة العربيَّة الحضاريِّ، بل من وجودِها كأُمَّةٍ لها مُمَيِّزاتُها وفضلُها على الحضارةِ العالميَّة. ومع أَنَّني أَفهمُ هذه الآراءَ المتحيَّزةَ للعروبةِ والإسلامِ وأَعتبرُها صادرةً، على الأَكثَر، من جهاتٍ مخلصةٍ، فإنَّني أَراها، من جهةٍ أُخرى، خاضعةً للعقلِ المجتمعيِّ السائدِ في جوانبِه السلبيَّة الموروثةِ من الفترةِ المظلمة. وهكذا، فإنَّها أًضرَّتْ، من حيثُ لا تَدري، بالقضيَّة نفسِها التي تدَّعي الدفاعَ عنها، وبالتالي أَضرَّتْ بالمصالِح العُليا للشعبِ العربيِّ والإسلاميِّ.
وأَرى، من جهةٍ أُخرى، أَنَّنا كنَّا، وما نزالُ، نحاولُ دائمًا أَنْ نُخفيَ سَلبيَّاتِنا ونُمجِّدَ إيجابيَّاتِنا مُختبئين وراءَ مُنجزاتِنا خلال فترةِ الحَضارةِ العربيَّة الإسلاميَّة في عهدِها المُشرِق التالد. وقد أَدَّى هذا السلوكُ، في جُملة ما أَدَّى، إلى تفاقُمِ إشكاليَّات العربِ ومضاعفةِ نَكَباتِهم وزيادةِ تخلُّفِهم. وسأَشرحُ بعضاً من هذا الموضوعِ الدقيقِ والشائكِ خلالَ فصولِ هذا الكتاب والكتابِ الذي سيليه ، وخاصَّةً من خلالِ بحثِ إشكاليَّة التراثِ والحداثة.
وأَستدركُ فأَقولُ إنَّ هذا لا يعني اللجوءَ إلى جَلْدِ الذاتِ كردِّ فعلٍ لنكباتِنا وإخفاقاتِنا، لكنَّني أَرى أَنْ نتعرَّضَ لتلك الإخفاقاتِ بموضوعيَّةٍ صارمةٍ تستَنِدُ إلى تحليلٍ دقيقٍ بصرفِ النظرِ عن النتائجِ الصادمةِ والمؤلمةِ التي قد يتمخَّضُ عنها. إنَّ نقدَ الذاتِ المتأَنِّي والمدروسَ لا يؤدِّي إلى التقليلِ من شأْنِها إزاءَ الآخرَ، بل يُسفِرُ، بالعكس، عن احترامِه لها من جهة، ويؤدِّي، من جهةٍ أَوْلى، إلى فَهمِنا الدقيقِ لنقاطِ ضَعفنِا، الأَمر الذي سيُشكِّلُ عاملاً من عواملِ قوَّتِنا، فيُعَرِّفُنا إلى موْضعِ الداءِ وتشخيصهِ كمرحلةٍ حتميَّة لوضعِ وصفةِ الدواءِ التي نحنُ في أَمسِّ الحاجةِ إليها، وإلاَّ سنظَلُّ نعيشُ في الأَوهامِ والأَحلامِ، كما حدثَ خلالَ العقودِ الماضيةِ، مثلاً، بادِّعائنا أَنَّنا خيرُ أُمُّةٍ أُخرِجَتْ للناس، فلا يمكنُ لليهودِ الذين حَكمَ الله عليهم بالمذلَّةِ أَن يتغلَّبوا علينا! والنتيجةُ الماثلة هي أَنَّ إسرائيل مخطَّطٌ لها أَن تُصبحَ في عام 2020 بمصافِّ الدولِ المصنِّعة الكبرى، في الوقتِ الذي يزدادُ الوطنُ العربيُّ تخلُّفًا وتبعيَّةً، سواءٌ لأَمريكا أَو لإسرائيل الكبرى. فمنَ المحتملِ جدًّا أَن يُصبحَ ذلك "الكيانُ"، الذي كان يوصفُ بـ"العصاباتِ الصهيِونيَّة"، مُسَيطِرًا تمامًا على اقتصاديَّاتِِ البلدانِ العربيَّة ومواردِها البشريَّة والطبيعيَّة، بما فيها النِفطُ، وبالتالي مسيطِرًا على سياساتِها الداخليَّة والخارجيَّة.
ومن جهةٍ أُخرى، فأَنا لا أَدَّعي أَنَّني أُصيبُ كبدَ الحقيقةِ في كلِّ ما أَكتُبُ؛ ذلك أَنَّ جميع الأَفكارِ قابلةٌ للمناقشةِ والمراجَعة. وعليه، فأَنا بحاجالتاريخ العربيُّ الإسلاميُّ كُتِبَ في العصر الحديث بأَقلامِ المُستشرقين بوجهٍ خاصّ؛ ومع الاعتراف بأنَّفكافح عوائقها وسخَّرها لأغراضه، بعد أن اكتشف الزراعة، الأمر الذي أدَّى إلى إنشاء الحضارة المصريَّة الرائعة. كما إنَّ انتقالَ بعض الجماعات من شِبه الجزيرة العربيَّة إلى أهوار جنوب العراق والفُرات الأسفل تمخَّض عن انبثاق حضارات ما بين النهرَين، كما أسلفنا. وبعبارةٍ أُخرى فإنَّ هذه الجماعات قد استجابت إلى التحدِّي الطبيعيِّ بأساليبَ مُختلفة: منها بالبقاء في أرضها وتحوُّلها إلى قبائل بدويَّة، أي كانت استجابتُها سلبيَّة، ومنها بالرحيل إلى مناطقَ جديدة مُختلفة قريبة من الأنهار، حيث أسَّست تلك الحضارات الأُولى، أي كانت استجابتُها
ما سبقَ كان لمحةً مُختصرة جدًّا عن تفسير تُوينبي لنشوء الحضارة وسقوطها، كنتُ أتمنَّى أن يتَّسعَ المقامُ لبسطها وإغنائها.
فؤاد
رد: أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي
مُساهمة الإثنين أبريل 17, 2017 8:29 pm من طرف فؤاد

مصيُر الحضارة الإسلاميَّة والعربيَّة في نظَر تُوينبي[عدل]

يرى توينبي أنَّ العَالم الإسلاميّ بما فيه العَالَم العربيّ يُواجه اليوم التحدّي الغربيّ بطريقتَين: الأُولى سَلَفيَّة منغلِقة (استاتيكيَّة) تُمثِّـلُها الحركاتُ الوهَّابيَّة والسنوسيَّة والمهديَّة وما جرى مجراها من حركاتٍ سَلَفيَّة حديثة؛ أمَّا الطريقةُ الأُخرى فهي تقدُّميَّة منفتحة ظهرت في نهضة محمَّد عليّ في مصر. ويَرى أنَّ الموقف السَلَفيّ يُمثِّلُ انحلالاً حَضاريًّا، بينما يُمثِّلُ الموقفُ التقدُّميّ حركةً دينيَّة بما فيها العربيَّة حضارةٌ تمرُّ في دَور الانحلال، وأنَّ مُحاولات إنقاذها كانت غير كافية ومُجدية في تحقيق التقدُّم واللحاق بالحضارة الغربيَّة. ولكنَّه مع ذلك كان مُتفائلاً في السنوات الأخيرة من حياته بالنهضة العربيَّة والوحدة العربيَّة حينما زار مصر وبُلدان المَغرب العربيّ خلال السنوات 1961–1964. فقد توقَّع أن تتحقَّق الوحدةُ العربيَّة قريبًا وقال: “إنَّ كلَّ دولةٍ عربيَّة تمتلك مواردَ من شأنها أن تُفيدَها جميعًا إذا كُدِّست في كومةٍ واحدة.” 31 ولاسيَّما إذا استُغلَّت عوائد النفط استغلالاً اقتصاديًّا شاملاً واستُزرعت الأراضي الشاسعة، وأُقيمت صناعاتٌ عربيَّة مُتقدِّمة.
تقويمٌ وتحليل بيَّة المُتعصِّبة، ولاسيَّما بعض الكتَّاب اليهود الصهاينة، لأنَّه انتقدَ إسرائيل وسياستَها التوسُّعيَّة غير الإنسانيَّة إزاءَ شعب فلسطين32. وسأتعرَّض هنا باختصار لتحليل وتقييم بعض آرائه ونظريَّاته بما يسمحُ به المَقام.
تنبثقُ أهمِّـيَّةُ نظريَّة تُوينبي في التحدِّي والاستجابة من كَونها نظريَّة مُتحدِّية فعلاً، لأنَّها تفترضُ أنَّ الشعوبَ نفسها هي التي تَخلقُ الحضارة. فالظروف المناخيَّة أو الجغرافيَّة ليست ذاتَ أثر حاسم بدليل وجود أماكن أُخرى في العَالم يُشابه مناخُها وظروفُها الجغرافيَّة مواقعَ الحضاراتِ الأُولى، مثل حوض مُري ودارلنغ Murray & Darling الذي يُشابه وادي الرافدَين والنيل. ومع ذلك لم تنشأ فيه حضارةٌ حتَّى استوطنه الأوروبيُّ الحديث.إذاً هناك عاملٌ آخَر: هو ذلك التفاعُل الخلاَّق بين العوامل الجغرافيَّة والعوامل البيولوجيَّة كما يذكر توينبي، أو بالأحرى ذلك "الدافع الحيويّ" الذي يؤدِّي إلى الاستجابة الظافرة للتحدِّيات الطبيعيَّة أو التحدِّيات البشريَّة.
ويرى تُوينبي أنَّ النكبات تُعتبرُ تحدِّيات جديرة بالاعتبار، لأنَّها قد تدفع الشعبَ المنكوب بالهزيمة والدمار إلى استعادة عافيته بعد فترة. ويُعطي أمثلةً كثيرة، منها هزيمة ألمانيا في الحرب العالميَّة الثانية. كما يستعرض “دافع العقوبات” ويقول إنَّ الاضطهادَ يحفزُ أولئك المحرومين على التعويض عمَّا فقدوه، كما يُعوِّض المحرومون من البصر عن هذه الحاسَّة باستخدام إمكانات سائر حواسِّهم الأُخرى في مجال العمل والإنتاج. ويقدِّمُ اليهودَ كمثالٍ على هذا التعويض.
ولدينا مُلاحظاتٌ مُتعدِّدة على هذه النقطة، منها أن نتساءل لماذا لم يعوِّض سُكَّان أمريكا الأصليُّون عن النكبات التي أصابتهم، بأيِّ شكلٍ من الأشكال؟ ولماذا لم يُعوِّض العربُ عن النكبات التي أصابتهم على أيدي اليهود الصهاينة الذين احتلوا أرضَهم وشرَّدوا الشعب العربي في فلسطين الذي عاش على أرضه هذه منذ آلاف السنين؟ لذا أرى أنَّ هناك شروطًا أُخرى يجبُ أن تتوافر لدى الشعب الذي يتعرَّض للنكبة، من أجل أن يستطيع أن يُعوِّض عنها ولو على المَدى البعيد. ومن هذه الشروط، بالإضافة إلى وَعي الشعب المنكوب لنكبته، توفُّر العقليَّة المتطوِّرة، أو بالأحرى العقليَّة التي يُمكنها أن تحوِّلَ ذلك الوعي، وتلك الطاقة الكامنة أو الدافع الحيويّ، من وجودٍ "بالقوَّة" إلى وجودٍ "بالفِعل" بتعبير أرسطو. وهذه العقليَّة لا يُمكن أن تتحقَّق إلاَّ من خلال مُعايشة الحاضر والتفاعُل مع الحضارة القائمة، وتفهُّم فلسفتها، وروحها، ولا أقصد تقليدها وحذوها حذو النعل للنعل، كما تقول العرب. ولنا من اليابان مثالٌ واضحٌ على ما أقول. فقد خرجت من الحرب مُدمَّرة، شأنها شأن ألمانيا، ومع ذلك تمكَّن هذا الشعب خلال نصف قرن من استعادة عافـيَّـتة ، بل أصبح يُنافس الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. ولتُوينبي تفسيرٌ لحالة اليابان سأُبيِّنه فيما بعد.

  • * *


وقد يجوز أن نتساءل الآن: كيف حاول تُوينبي الإجابة عن بعض الأسئلة الواردة في المقدَّمة؟
في ما يتعلَّقُ بسبب نشوء الحضارة وانتقالها، رأينا تُوينبي يقول إنَّ عنصرَي الحركة والجمود يُشكِّلان مناطَها. فالديناميكيَّة (الفعَّاليَّة، الحركة، الصيرورة، التغيير، الإبداع) هي السِمَة التي تنقل المُجتمع من التخلُّف إلى الحضارة، في حين أنَّ الاستاتيكيَّة (الركود، الجمود، المحافظة على القديم بل تقديسه) تجعل المُجتمعَ مُتخلِّفًا أو بدائيًّا. وهكذا إذا استجابَ المُجتمع إلى أيِّ تحدٍّ ُمناخيٍّ أو بَشريٍّ استجابةً ديناميكيَّة، بالتكيُّف والتغيُّر والتحوُّل، فإنَّه يسيرُ في طريق الحضارة. أمَّا إذا استجابَ له بطريقةٍ استاتيكيَّة، إمَّا بالتمسُّك بتقاليده أو بالمُحافظة على طريقة عيشه، فإنَّ ذلك يُعتَبرُ تخلُّفًا، وهذا يُؤدِّي إلى تدهور الحضارة ثمَّ انهيارها.
وإذا قارنّا بين العَالم العربيّ واليابان بمنظور توينبي في هذا المَجال، فإنَّنا سنلاحظ أنَّ اليابان قد جابَهَ الغزوَ الغربيَّ الوشيك الذي شعرَ بخطره بشكلٍ مُباشر في مُنتصف القرن الماضي بتبنِّي التكنيك الغربيّ ومُؤسَّساته، لا باعتباره أمرًا مَرغوبًا فيه بل لأنَّه أهونُ الشرَّين. ويقول توينبي في كتابه “العَالم والغرب”: “وهكذا كان تبنِّي رجالِ الدولة في الشرق الأقصى للتكنيك الغربيّ في القرن التاسع عشر شرًّا لا بُدَّ منه. وهذا يُفسِّر لنا لماذا أخذوا، في تلك الحِقبة، عن الغرب ما كان يبدو لهم بَالغ الضَرر، ولكنَّه مع ذلك أفضل من الاحتلال والخضوع لإرادة الأجنبيّ الغربيّ. لقد قرَّروا إذًا أن يتبنَّوا أسلحة هذا الغرب لتكونَ درعًا واقيًا عسكريًّا وسياسيًّا.” 33

خاتـمة[عدل]

بمناسبة الذكرى السَّنويَّة العاشرة لتأسيس مجلَّة “الصناعيّ” (لسان حال اتِّحاد الصناعات العراقيّ)، نشرَت هذه المجلَّة، في أعقاب نكسة حزيران/يونيه 1967، مقالاً افتتاحيًّا، كـَـتـبْـتـه بصِفتي رئيسًا لهيئة التحرير، تحت عنوان “التـقـنيَّة، التصنيع والمعركة”، قُلتُ فيه، بين أمورٍ أُخرى:
“إنَّنا لا نفتـقرُ إلى المُـقوِّمات المادِّيـَّـة الرئيسيَّة للتصنيع بقدر ما نفتقرُ إلى مُقوِّمات ٍ ذاتـيَّـةٍ، فكريَّة وفلسفيَّة، من طبيعةٍ أُخرى.
“وقد يُعزى ذلك إلى الإدراك الهزيل للترابط العميق الكامِن بين قضيـَّتـنا وقضيَّة الحضارة العصريَّة القائمة على التـقـنيَّة الصناعيَّة كأهمِّ دعامةٍ فيها.
“واعتماد إيديولوجيَّة التـقـنيَّة الصناعيَّة لا يعني ببساطة استيرادَ الآلات الحديثة ثمَّ تشغيلَها وإنتاجَ ما يُمكن إنتاجُه من السِّلَع الاستهلاكيَّة بوجهٍ خاصّ، إذ إنَّ ذلك سيتحوَّل إلى استعباد مثاليّ بثوبٍ جديد. بل ما نقصدُه بالتقنيَّة الصناعيَّة إنَّما هو نظامٌ كاملٌ يقومُ على فلسفةٍ جديدة يُمكن أن تنقلَ المُجتمعَ العربيّ من مُجتمعٍ زراعيٍّ، بل بدويٍّ جامد ومُتخلِّف إلى مجتمعٍ صناعيٍّ تبرزُ فيه طاقة ُالإنسان الخلاَّقة وقدرتـُه على التحويل والتغيير والإنشاء والتطوير. فينطبع الإنسان العربيُّ بإيديولوجيَّةٍ صناعيَّةٍ ديناميكيَّةٍ تُمكِّنه من مُواجهة حضارة الغرب وتحدِّياته بذات أسلحته”(انتهى الاقتباس).
وأرى أنَّ صراعنا مع إسرائيل والغرب يُمثـِلُ صِراعًا حضاريًّا في المقام الأوَّل. وقد آن الأوان أن نعترف، بشجاعة، بأنَّ إسرائيل تُمثـل جزءًا من الحضارة الغربيَّة الصاعدة، في حين أنـَّنا نُمثـِل حضارة عربيَّة إسلاميَّة هابطة، كما يقول تُوينبي. لذلك فشِلنا في جميع حروبنا مع إسرائيل تقريبا، على الرغم من كثرة عددنا وعُدَّ تـنا، لأننا نفتقرُ، على الأرجح، إلى ذلك العقل التِقنيّ الحضاريّ، ولأننا كما أشارَ موشي دايان، كما سمعته بأذني عَشيَّـة حرب حزيران/يونيه 1967، من محطة إذاعة إسرائيل، فقال: “إنَّ العرب يُخطِّطون لكلِّ شيء... إلاَّ للهزيمة.”
وأُرجِّح أنَّ محوَر المُعضلة التي كانت—وما بَرحت—تُواجه العرب، منذ اصطدامهم المفزع بالحضارة الغربيَّة، في بداية القرن الماضي، هو تصوُّرهم أنَّ الأخذ بمُقوِّمات الحضارة الغربيَّة سيُهدِّد دينَهم وتقاليدَهم وهويتهم المتميِّزة، على الرغم من مُحاولة كِبار المُصلحين، أمثال الأفغانيّ ومحمَّد عبده وغيرهم، إثباتَ عكس ذلك.
ولنتساءلْ: هل تخلَّت إسرائيل عن دينها إكرامًا للحضارة التكنولوجيَّة الحديثة؟ وهل تركَ الشعبُ اليابانيُّ تقاليدَه وعاداتِه وشخصيَّته المتميِّزة إكرامًا للحضارة التـقـنيَّة الصاعدة، التي بزَّ بها الغربَ أحيانًا!؟ تـُرى لماذا لم يفقه العربُ هذه الحقائق!؟ قد يكون سببُ ذلك، على ما أظنُّ، أنَّنا ما نزالُ نخضعُ لقَدْرٍ كبيرٍ من القِيَم والعقليَّة البدويَّة الموروثة التي تظلُّ تتمسَّكُ بقاعدة الثبات (الاستاتيكيَّة) بدل قاعدة التغيُّر والصيرورة المُستمرَّة (الديناميكيَّة)، التي يقوم عليها صَرحُ الحضارة الحديثة، بل كلّ حضارة سَالِفة.
وختامًا، فإنَّ الآراء الواردة في هذه الدراسة مفتوحة للمُناقشة بلا تحفُّظ، بما في ذلك التفنيد أو التعديل، وكاتبُها يتيمَّن بقول فُقهائنا المسلمين “مَن اجتهدَ فأصابَ له أجران، ومن اجتهدَ ولم يُصِبْ فله أجرٌ واحد.”«

المراجع والحواشي[عدل]

1.Samuel Noah Kramer. History Begins at Sumer, Twenty-Seven "Firsts" in Man's Recorded History. New York: Doubleday, 1959.
2. يُقسِّم توينبي الحضارات عدَّة أقسام، منها الحضارات المنقطعة أو الأصليَّة، أي التي لا ترتبط بأيِّ حضارة قبلها، من مِثل الحضارة السومريَّة والأكَّديَّة والمصريَّة والإيجيَّة والأندوسيَّة (نسبةً لنهر وادي الأَندوس في باكستان ومُحيطها)، والحضارات المُتَّصلة، من مِثل الحضارات السريانيَّة والهيلينيَّة (أو اليونانيَّة) والأرثوذكسيَّة المسيحيَّة والإسلاميَّة وغيرها. أنظر:
Arnold Toynbee. Study of History. Abridged, (New York: Portland House), p. 72.
3. خلال أقلّ من مائة عام، ومنذ فتح مكَّة في عام 630 ميلاديَّة إلى عام 711، امتدَّت الإمبراطوريَّة العربيَّة الإسلاميَّة من نهر السند شرقًا إلى إسبانيا والمحيط الأطلسيّ غربًا، ومن بحر العرب جنوبًا إلى حدود القسطنطينيَّة والبحر الأسود وأرمينيا وجورجيا شمالاً، وحملَت معها دينًا وتشريعًا ولغةً مُتقدِّمة.
4. أنظر المؤلَّف القَيِّم الذي وضعه قسطنطين زريق تحت عنوان “في معركة الحضارة”، (ص 39)، وفيه بحثٌ واسع عن تعريف الحضارة في مُختلف الكتابات والتمييز بينها وبين الثقافة. وقد أشرنا إلى هذا المرجع في الحاشية (6) أدناه.
5. ويل ديوارنت، “قصَّة الحضارة”، ترجمة زكي نجيب محمود، ج1، ص 3.
6. قسطنطين زريق، “في معركة الحضارة” (بيروت: دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة، 1981)، ص 41.
7. أنظر دائرة المعارف الإسلاميَّة: Encyclopedia of Islam. (Leiden, Netherlands: Brill), 1913­-1936.
إنَّ هذه الموسوعة كٌتِبت في معظمها بأقلام المستشرقين الأجانب، وتُعتَبر أكمل مَصدر لتاريخ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة. إنِّ تلكّؤ العرب في إخراج موسوعة عربيَّة أصيلة يُعتَبر وصمةً في جبين كلِّ مثقَّفٍ عربيٍّ واعٍ، لأنَّه يعكس تخلُّفَنا الفكريَّ والعلميَّ والحضاريّ. لذلك دَعَونا المثقَّفين منذُ سنوات إلى إخراج موسوعة عربيَّة أصيلة (لا مُترجمة كما حصل الآن “للموسوعة العربيَّة العالميَّة” التي أصدرها مكتب الشويخات في الرياض). أنظر بحث كاتب هذه السطور تحت عنوان “لمناسبة صدور الموسوعة العربيَّة العالميَّة: تعدُّد الأعمال الموسوعيَّة إثراءٌ للفكر العربيّ المُعاصر”، صحيفة “القدس العربي”، 4/5 كانون الثاني (يناير) 1997.
ومع ملاحظة ما يشوب دائرةَ المعارف الإسلاميَّة من هَنات، فهي جديرة بالاعتبار، خاصَّة من حيث أنَّها قد تُشكِّل تحدِّيًا للمثقَّفين العرب عامَّة والمسلمين خاصَّة لإخراج ما يُوازيها على الأقلّ. ومع شكوى الكثيرين من الكُتَّاب العرب من المستشرقين الذين بخسوا حقَّ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، يجبُ التنويه بكتابات بعضهم، مِثل المؤلَّف القيِّم ALLAHS SONNE UBER DEM ABENDLAND, UNSER ARABISCHES ERBE لسكريد هونكه Sicrid Hunke، حيث بيَّنت الكاتبة دورَ العرب والمسلمين في نشوء الحضارة الأوروبيَّة كما يبدو من عنوان الكتاب “شمس الله تسطع على الغرب، تراثنا العربي”. وقد تُرجمَ إلى العربيَّة تحت عنوان مُحرَّف هو “شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة في أوروبة”، والأصحّ الترجمة الفرنسيَّة Le soleil d'Allah brille sur l'occident, notre héritage arabe .
أنظر أَيضًا المُؤلَّفَ الثمين الذي أَعدَّه وترجمَه المُفكِّرُ هاشِم صالح تحت عنوان “الاستشراق: بين دُعاته ومُعارضيه، بأقلام محمد أركون و مكسيم رودنسون وآلان روسيُّون و برنارد لويس وفرانشِسكو غابريِلِّي وكلود كاهين، بيروت: دار الساقي، ط 1، 19944.
8. أنظر إدوارد سعيد “الاستشراق”، Edward Said. Orientalism, New York: Random House, 1979.
9. أنظر محمد حسين هيكل ، “حياة محمَّد”، مصر: دار القلم، 1935. مع احترامي الشديد وتقديري البالغ لهذا العمل العظيم، فإنَّني أشعر، وقد يشعر مُعظم القرَّاء، أنَّه كُتِبَ بدافع الردّ على المستشرقين والكتَّاب الذين افترَوا على الإسلام. (أنظر المُقدِّمة، وخاصَّة ص 100 وما بعدها) كما إنَّه يتضمَّن بعض الثغرات، وخاصَّة عدم تعرّضه (وهو الذي يتحدَّث عن حياة محمَّد (ص) بالتفصيل) بالتحليل الدقيق والكافي للحَدث المهمّ الذي غيَّر وجهَ الإسلام وربَّما مصيره، وأقصد “الهجرة” في حين عالجها الكثيرون من المؤرِّخين؛ منهم المؤرِّخ البريطانيّ المعروف أرنولد توينبي الذي يعتبرها “بدءَ انحدار الإسلام لا بدء تأسيسه كما هو شائع بين المؤرِّخين”. (أنظر منح خوري، “التاريخ الحضاريّ عند توينبي”، دار العلم للملايين، ص 63، والردّ على رأي توينبي في هذا الشأن في الصفحة 118. كذلك أنظر آراء توينبي في الإسلام في كتابه “دراسة للتاريخ”، (الموجز) المُشار إليه في الحاشية رقم (2) أعلاه، في الصفحات 537، و348، و264، و338، و336).
10. أنظر في هذا الصدد، دراسات ومقالات كاتب هذه السطور المتعدِّدة المنشورة في صحيفة “القدس العربيّ”، لندن، ومنها: “نظريَّة التحدِّيات الحضاريَّة المباشرة وغير المباشرة وتطبيقها على كوارث العالم العربيّ”؛ “خطابُنا تخديريّ سطحيّ اتِّهاميّ نِفاقيّ تهوينيّ تأثيميّ” (دراسة نُشرت في ثلاث حلقات، في 7 و8 و9 تمُّوز/يوليه 1997)؛ “على هامش نظريَّة العقل؛ اللاشعور المعرفيّ للفرد والمجتمع”؛ “فشلَت نهضتنا لأنَّنا أهملنا استخدام عقلنا الفاعل”؛ “نظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعل وتأثيرها عربيًّا” (دراسة في ثلاث حلقات في 16و 17و 18 حزيران/يونية 1997)؛ “محاولة تطبيق نظريَّة توينبي في التحدّي والاستجابة على كوارث الوطن العربيّ” (القدس العربيّ، 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1996)؛ “خواطر في العقل الفاعل والعقل المنفعل من لالاند إلى الجابريّ” (القدس العربيّ، في 18 شباط/فبراير 1997)؛ “معالجة غياب المشروع النهضويّ العربيّ للقرن الحادي والعشرين” (2 أيَّار/مايو 1996)؛ “الإبداع والاتِّباع عند العرب؛ فقدان الإيداع إلى جانب الهيمنة الداخليَّة والخارجيَّة علَّة تخلُّفنا” (دراسة من حلقتين نُشرت في نفس الصحيفة في 21و 22 كانون الثاني/يناير 1998)؛ “حرِّروا الإنسان قبل الأرض؛ كوارث الوطن العربيّ بعد الاستقلال ترتبط بإشكاليَّة تحرير الفرد العربيّ والعقل العربيّ” (21 تشرين الأوَّل/أكتوبر 1996)، وغيرها. وكلُّ هذه الموضوعات تدور في محور تحدِّيات الحضارة الحديثة للأمَّة العربيَّة، وتجذير أسباب كوارث الأمَّة.
11. في هذا السياق، أنظر مؤلَّفات عدد من المُفكِّرين العرب المُعاصرين، منهم محمَّد عابد الجابري، في ثلاثيَّته “نقد العقل العربيّ”، وخاصَّة “ تكوين العقل العربيّ ” ؛ وعبد الله العرويّ، وخاصّة في كتابه “العرب والفكر التاريخيّ”؛ وزكي نجيب محمود، في كتابه “تجديد العقل العربيّ”، وقسطنطين زريق في كتابه “في معركة الحضارة”. وأنوِّه بوجه خاصّ بوقائع ندوة “أزمة التطوُّر الحضاريّ في الوطن العربيّ” التي نظَّمتها جامعة الكويت في عام 1974، وما وردَ فيها من أبحاث ودراسات جديرة بالاهتمام.
12. نشرَ كاتبُ هذه السطور سلسلةً من المقالات والأبحاث بشأن مشروع الموسوعة العربيَّة الجامعة منها: “الموسوعة العربيَّة الجامعة، مسؤوليَّة المثقَّفين العرب في المهجر” (القدس العربيّ، 20/3/1996) و “الموسوعة العربيَّة في المهجر، مُحاولة شابَّة بين عدَّة محاولات هَرِمة” (القدس العربيّ، 25/7/1995). وفي معظم هذه الأعمال طرحنا فكرة إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ كجزءٍ من أهداف مشروع المؤسَّسة الموسوعيَّة، كما وردَ في ورقة العمل الموضوعة بهذا الشأن.
13. عبد الرحمن بن خلدون، “المقدِّمة”، التي تشكِّل الجزء الأوَّل من كتاب “العِبَر وديوان المبتدأ والخبر، في أيَّام العرب والعَجَم والبربر، ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، (بغداد: طبعة مكتبة المثنى، بدون تاريخ)، ص 3.
14. المرجع السابق، المقدَّمة ص 95–96. كما أشار إلى هذه النقطة الهامَّة فايبلمان Feibelman في كتابه “فهم الحضارة”: J. Feibelman. Understanding Civilization. (New York: Horizon Press), p. 70.
15. ابن خلدون، “المقدِّمة”، ص 42.
16. المرجع السابق، ص 82.
17. أنطون غطَّاس كرَم وكمال اليازجيّ، “موسوعة أعلام الفلسفة العربيَّة” (بيروت: مكتبة لبنان، 1990)، ص 819. أعترف بأن نظرية ابن خلدون في نشوء الحضارة وسقوطها، بحاجة إلى توسع أكثر، ولكنني حاولت أن أعتصر بعض ملامحها الرئيسية، وأستميح القارئ عذرا إن كان هذا الإيجاز لا يشفي الغليل.
18. عبد الرحمن بن خلدون، “المقدِّمة”، ص 151–152. يكرِّر ابنُ خلدون هذا المعنى أو ما يشابهه في عدَّة مناسبات، مثلاً في فصل “إنَّ العرب لا يتغلَّبون إلاَّ على الساقط”، ص 149، وفي هذا إجحافٌ لأنَّ العرب قد تغلَّبوا على دولة الروم ودولة الفرس، أعظم إمبراطوريَّتين في العالم في ذلك الوقت. أنظر كذلك الفصل الذي يليه تحت عنوان “إنَّ العرب إذا تغلَّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب”، والسبب في ذلك أنَّهم أمَّة وحشيَّة لاستحكام عوائد التوحُّش... الخ.. وهناك عدَّة مُبرِّرات وتفسيرات لكلمة العرب عند ابن خلدون منها أنَّه يقصد الأعراب، أو البدو. أنظر ساطع الحُصَريّ، “دراسات عن مقدمة ابن خلدون”، مكتبة الخانجي، القاهرة 1961، ص 166. ومنها أنه “كان ينطق بلسان الوطن البربريّ الذي غزاه العرب”. أنظر محمَّد عبد الله عنَّان، “ابن خلدون، حياته وتراثة” (القاهرة: المكتبة التجاريَّة، 1953)، ص 121... وغير ذلك.
19. ابن خلدون، “المقدِّمة”، المرجع السابق، ص 543.
20. ناجي معروف، “عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجميَّـة”، بغداد: مطبعة الشعب، 1974.
21. نُشرت هذه الدراسة في صحيفة “القدس العربيّ” في عدَّة حلقات تحت عنوان رئيسي ، هو: “نقدُ الحسّ النقديّ عند العرب، مدخل لتحليل بعض جوانب تخلُّفنا الفكريّ”، 11/11/1996. وتحت عدَّة عناوين فرعيَّة أخرى، منها “انتقال العرب السريع من البداوة إلى الحضارة أسفرَ عن آثار نفسيَّة واجتماعيَّة ظلَّت تواكبهم حتَّى الآن” (12/11/1996)، فضلاً عن حلقتين إضافيَّتين للردِّ على المعترضين والمهاجمين نُشرتا في 21 و22 كانون الثاني 1997، تحت عنوانين: “مصيبة الإرهاب الفكريّ والفَوقيَّة الأَبويَّة مُقابل ميزة التعدُّديَّة والاختلاف في الرأي”، و “الصراع بين البداوة والحضارة صراعٌ مستمرٌّ حتى اليوم ما بين العرب المغتربين.”
22. أحمد أمين، “ضحى الإسلام”، (بيروت: دار الكتاب العربيّ، ط10، ج1)، ص6، نقلاً عن رسائل الجاحظ، ص41.
23. أحمد رفاعي، “عصر المأمون”، (القاهرة: دار الكتب المصريَّة، 1928، ط4، ج1)، ص1.
24. علي الورديّ، “دراسة في طبيعة المجتمع العراقيّ”، ص80. والأهمّ من نسبة عدد البَدوْ للحضر، هو انتشار القِيَم البدويَّة خاصَّة في الخليج، فالقبائل لا تتزاوج مع الذين لا ينتمون إلى قبيلة معروفة مثلاً، وحتَّى الانتخابات التي جرت في الكويت في 3/7/1999، قامت على أساس قَبَليّ. يقول حامد أحمد الحمود (باحث كويتيّ)، “تظلُّ القبيلة في الكويت كما هي في معظم أقطار المشرق العربيّ مؤسَّسة لها ثِقلُها الاجتماعيّ والسياسيّ وإن كانت غير رسميَّة.” أنظر مقاله المهمّ تحت عنوان “القبيلة والطائفة والعائلة” صحيفة “الحياة” 16/6/1999.
25. أحمد أمين، “ضحى الإسلام”، المرجع السابق، ج1، ص 19.
26. إعتمدنا في عرض آراء توينبي، بوجهٍ خاصّ، على كتابه المُشار إليه في الرقم 2 من المراجع، فضلا عن كتابه “العالَم والغرب”، ترجمة نجده هاجر وسعيد الغُرّ. كما رجعنا إلى كتاب منَح خوري “التاريخ الحضاريّ عند تُوينبي” (بيروت: دار العلم للملايين، 1960).
27. المرجع السابق، منح خوري، ص 35–36.
28. المرجع السابق، ص 39–40.
29. المرجع السابق، ص 127.
30. أرنولد توينبي، “العالم والغرب”، ص 16–17.
31. أرنولد توينبي، “الوحدة العربيَّة آتية”، ترجمة عمر الديراوي أبو حجلة، (بيروت: دار الآداب، 1968)، ص 178.
32. كنموذج واحد من الهجمات التي وجهتها الأوساط الصهيونية ضد توينبي، أنظر الهجوم الشديد الذي ورد في محاضرة سفير إسرائيل في الولايات المتحدة، آبا إيبان بعنوان The Toynbee Heresy،(هرطقة توينبي)، وقد ألقاها في بنيويورك في معهد إسرائيل في جامعة يشيفا، في 18/1/1955؛ وردت في كتاب:
M. F. Ashley Montagu (Editor). Toynbee and History: Critical Essays
33. توينبي-*، "العالم والغرب"، المرجع السابق، ص62.
فؤاد
رد: أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي
مُساهمة الإثنين أبريل 17, 2017 8:30 pm من طرف فؤاد

الفصل الثالث: تحرير العَقلِ العربيّ لتحرير الإنسان العربيّ[عدل]

العنوان يـُثيرُ عدَّة تساؤلات:
– ما معنى العَقل؟ وما الفرقُ بين العَقل والفِكر؟
– هل يُمكنُ التحدُّث عن عَقل عربيّ مُتميِّز؟
– هل العقلُ العربيّ سَجينُ لاتاريخيَّته: تُراثِه وثقافتِه؟ أم سجينُ قَهره السياسيّ والاجتماعيّ؟ أم سجينُ تخلُّفه الحضاريّ الذي استمرَّ ما يُربي على ستَّة قرون؟
– هل أسفرَت صدمةُ العقل العربيّ-الإسلاميّ بالحضارة الغربيَّة الحديثة، منذ حملة نابليون على مصر، ثمَّ هزيمة الأُمَّة العربيَّة بأسرها أمام إسرائيل، إلى “نكوص” ذلك العقل، ولجوئه إلى الماضي، تعويضًا عن فشله وعن واقعها المُرّ ؟
– هل ثمَّةَ “عَقل مُجتَمعيّ” قاهر يتحكَّم في عقولنا إلى الحدِّ الذي نُصبح فيه دُمًى يُحرِّكُها بخيوطه؟
– ما السبيل لتحرير العَقل العربيّ من سِجنه اللاشعوريّ المؤبَّد، وإطلاق طاقاته الجبَّارة من عِقالها؟
– هل يؤدِّي إحلالُ استخدام العَـقـل الفاعِل محلَّ استخدام العَقل المنفعِل إلى تحقيق طفرة فكريَّة واجتماعيَّة قد تُـنـقِـذ هذه الأُمَّة من هذه الغمَّة؟
– ما وجهُ الترابُط العُضويّ بين تحرير العقل العربيّ وتحرير الإنسان العربيّ؟
سنُحاول الإجابة عن هذه التساؤلات الخطيرة والواسعة، بقدر ما يسمح به المقام، وأرجو أن أستميح القارئ عُذرًا لأنَّني قد أُقصِّر في إيفاء هذا الموضوع حقـَّّـه من العَرض والبحث، ومع ذلك، فإنَّ “ما لا يُدرَكُ كـُـلّـُه، لا يُترَكُ جـُـلـُّه” كما قال أسلافـُنا المجتهدون

أَوَّلاً: ما هو العَقل؟ وما الفَرقُ بين العَـقـل والفِكْر؟[عدل]

في العربيَّة: ورد في "لسان العرب" أنَّ العقل هو الحِجْرُ والنُّهى، ضدّ الحُمق؛ والعاقل هو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقـَلتُ البعير إذا جمعتُ قوائمَه؛ والعاقـل من يحبسُ نفسه ويردُّها عن هواها …واعتـُـقـِلَ لسانـُه إذا حُبِسَ ومُنِعَ الكلام …وسُمِّيَ العقلُ عقلاً لأنَّه يعقِلُ صاحبَه عن التورُّط في المهالك …
أمَّا في القرآن الكريم فلم تَرِدْ كلمة "العَقل" كاسم، بل وردَت بصيغة الفِعل: "وإذا قـيل لهم اتَــبِعوا ما أنزَلَ الله ، قالوا بل نتـَّبع ما ألفَينا عليه آباءَنا، أَوَ لو كان آباؤهم لا يَعـقـلون شيءًا ولا يهتدون." (سورة البقرة: 170(
في الإنكليزيَّة:mind أصلُها من اللغة الجرمانيَّة Menos بمعنى روح أو نشاط. ورَدَت في اللاتينيَّة بلفظة Mens بمعنى العَقل؛ أَمَّا أُصولها فتعود إلى اللُغات الهنديَّة- الأوروبيَّة حيث يمكن وضعُها بالحروف اللاتينيَّة بشكل men، بمعنى العقل أيضًا. وكلمة mind بالإنكليزيَّة لها عدَّة معانٍ أو مُقابلات بالعربيَّة؛ منها الذاكرة، والنيَّة، والرأي، والمزاج، والمقدرة العقليَّة، بالإضافة إلى “العقل” المُراد بهذا البحث. بَيد أنَّ صاحب “المُعجَم الفلسفيّ” لا يورد كلمة mindبما يقابل كلمة “عَقل”، بل يورد ألفاظًا أُخرى؛ منها reason وintellect وunderstanding، و.intellectual powers1 وقد صدَر كتابٌ بالإنكليزيَّة تحت عنوان The Arab Mind ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ هذه اللفظة مُستعمَلة بالمعنى الذي نُريده وما سنـُبـيـّـِنـُه فيما بعد.2 وتعترف موسوعة الفلسفة بصعوبة تعريف “العقل” The mind، وتورِد عدَّةَ تعريفات وشروح تفصيليَّة لا مجالَ للدخول فيها. لذلك نُـشـير فقط إلى تعريف هيوم Hume الذي يقول: “ليس العقل إلاَّ مجموعة من المُدركات المختلفة”. أمَّا وِليام جايمس William James فإنَّه يُعرِّف العَقل بأنه “ دَفـْـقٌ من الشعور أو الوَعْي” 3 .

  • في اللاتينيَّة :intellectus من الفِعل intelligere بمعنى يفهم. وقد ميــَّز الرومان بين العقل والروح، فأطلقوا لفظmens على العَقل، ولفظَ anima على الروح.4 كما استُعمِلت كلمة ratio بنفس المعنى في اللاتينيَّة؛ وهي تعود إلى لفظة ratus اسم المفعول من الفعل reor بمعنى يتفكَّرcroire penser,.



  • في الفرنسيَّة raison ؛ وهو كما يقول ديكارْت Descartes"القدرة على الُحكْم الجيِّد"، أي التمييز بين الخير والشر، الحقّ والباطل، والجميل والقبيح.5


في الفلسفة العربيَّة-الإسلاميَّة يتضمَّنُ العقل عدَّة معانٍ؛ منها:
– أنَّ العَقل جوهرٌ بسيط مُدرِكٌ للأشياء بحقائقها (الكِنْديّ، "رسالة في حدود الأشياء ورسومها").
– والعَقل هو جوهرٌ مُجرَّد من المادَّة في ذاته مُقارِنٌ لها في فِعله، وهو النفس الناطقة التي يُشير إليها كلُّ أحد بقوله: أنا (الجُرجانيّ، في "كتاب التعريفات"). ويلاحظ أن هذا التعريف مأخوذ من ابن سينا مع تعديل بسيط.
– العَقل قوَّة تجريد تـنـتـزع الصُّوَر من المادَّة وتُدرك المعاني الكـُـلـِّـيَّة كالجوهر والعَرَض، والعِـلـَّة والمعلول، والغاية والوسيلة، والخير والشرّ إلخ. 6
أخيرًا، قد نتمكَّـن من تعريف العقل اصطلاحًا، وبقدر ما يتعلّـَقُ بهذا البحث بوجهٍ خاصّ، بأنّه المَلَكة التي يحكمُ المرءُ بواسطتها على الأُمور، على صعيدَي الموضوع والذات، عن طريق إدراك العلاقات والروابط بين الأَشياء (الأَعيان والمُجرَّدات)، وتفهُّم الأَسباب والنتائج... وبعبارة مُختصَرة ومُجرَّدة أَكثر هو الأداةُ الفكريَّة التي يستخدمُها المرءُ للحُكم على الأُمور أو التميـيز بينها. ونحن نُحاول، في هذا التعريف، تغطيةَ الجانب الإبستمولوجيّ (المَعرِفيّ المُجرَّد) للعقل، فضلاً عن الجانب الإيديولوجيّ التابع لمفاهيمَ واعتباراتٍ قـَبـْليَّة، وذلك بالإضافة إلى تغطية كلٍّ من الجانب الموضوعيّ والذاتيّ.7 وتتكوَّن هذه “الأداة” الفكريَّة منذ أن يولدَ الإنسان، تدريجيًّا، وتظلُّ تنمو معه أو تتضاءل حتَّى الممات. وتتشكَّل من تفاعُل عنصرَين أساسيَّين هما: الوراثة والبيئة، أو التكوين الجينيّGenetics والمحصول التربويّ. ويدخل في الأخير كلُّ ما يتلقَّاه الإنسانُ من مُؤثِّرات خارجيَّة، بما فيها تربيتُه البيتيَّة والمدرسيَّة و "الشارعيَّة" (نسبة إلى الشارع)، وعلاقاته الاجتماعيَّة، والمؤثِّرات المُجتَمَعيَّة. إنَّ التفاعُلَ المُركَّب والمُعقَّد بين هذَين العنصرَين المنفردَين يتمخَّض عن “عقل الإنسان”، أو بالأحرى عن "الإنسان ذاته"، في تفكيره وسلوكه.
لذلك يُمكن أن يُقالَ إنَّ الإنسانَ "يُفكِّر بعقله"، أي يتَّخذ قراراتِه التي تتجسَّم في تصرُّفاته، من خلال تفكيره بهذه "الأداة" الموصوفة أعلاه. بَيد أنَّ هناك نمطًا آخر من التفكير “لا بالعقل” كما هو معروف، بل "في العقل". أي بدل أن يتفكَّرَ الإنسان في الأشياء أو الأعيان، أو بالأحرى "الموضوع"، بتلك "الأداة" (العقل)، فإنَّه يتفكَّر في تلك الأداة (أي العقل)، التي تصبح في هذه الحالة هي "الموضوع"، أو يتفكَّر في الذات كموضوع بدل أن يتفكَّر في الموضوع خارج الذات. فالنمطُ الأوَّل من التفكير، أي التفكير بالعقل في الموضوع، هو تفكير بـ"العقل المنفعل"، على الأغلب. أمَّا النمطُ الثاني، أي التفكير بالعقل في العقل، فهو تفكير بـ"العقل الفاعل"، بدرجات ومستويات مختلفة.
من هنا تبرزُ أهمّـِيَّة " نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعِل"، باعتبارها تـُحاول أن تُحلّـِل وتُفسِّر طُرُقَ التفكير، وبالتالي سُبل السلوك التي يتَّخذُها جميعُ البشر، كما تُحاول أن تُلقيَ ضوءًا على أبعاد "زنزانة" السِّجن التي يقبع فيها العقلُ البشريّ، إن صَحَّ التعبير، كما سنُحاول إيضاحَه فيما سيأتي ذكرُه (وبخاصَّة في الحلقة الثانية من هذا البحث، أي الفصل الرابع).

التمييزُ بين العَقل والفِكر[عدل]

الفِكر، في الإنكليزيَّةthought ، وفي الفرنسيَّـة pensée ، يعني عند ابن سينا "إجماع الإنسان أن ينتـقـل من أُمور حاضرة في ذهنه إلى أُمور غير حاضرة فيه. وهذا الانتقال لا يخلو من ترتيب" (الإشارات والتنبيهات). وعند كانط E. Kant، قوَّة نقديَّة للأحكام.
والفِكر إعمالُ العقـل في الأشياء للوصول إلى معرفتها، وهو مُرادِف للنظَر العقليّreflexion والتأمُّـل meditation، ومـُـقابل للحَدس intuition .
ويطول الحديث عن الفِكر8 ، ويختلط أحيانًا بالعقل إلى الحَدِّ الذي اعتبره "الجابِريّ" مُرادِفًا له عندما يُستخدَم كـ"أداة". فهو يُشير إلى أنَّه كان بإمكانه استخدام لفظة "فِكر" بدل "عَقل" في رباعيته المعروفة بـ" نَقد العقل العربيّ"، لولا أنَّ هذه الكلمة "تعني في الاستعمال الشائع اليوم مضمونَ هذا الفكر ومُحتواه، أي جملة الآراء والأفكار التي يُعبِّر بها، ومن خلالها، [أيُّ] شعب، عن اهتماماته ومشاغله، وأيضًا عن مُثُله الأخلاقيَّة ومُعتقداته المذهبيَّة وطموحاته السياسيَّة والاجتماعيَّة " .9
وهكذا فإنَّ الفكرَ يعني كذلك ما أنتجه أيُّ شعب من أدَب وعِلم وفلسفة، أي من ثقافة؛ لذلك يُقال "الفِكر العربيّ"، أي حصيلة ذلك الفكر، أو "الفكر الفرنسيّ"، أي حصيلـتـُه من أدب وفن وفلسفة إلخ. ولكن مع ذلك فإنَّ هناك جانبًا آخر من "الفِكر" هو الجانب الذي يُستخدَم "كـأداة" لا كـ"مُحتوى" أو "ناتج"، ويُمكن أن يختلطَ بالعقل؛ لذلك يقول الجابريّ: "إنَّ ما سنهتمُّ به في هذا الكتاب ليس الأفكار ذاتها، بل ’الأداة‘ المُنتِجة لهذه الأفكار10، أي العقل ".

ثانيًا: هل ثمَّةَ عقلٌ عربيّ مُتميِّز؟[عدل]

قلنا، لدى تعريفنا للعقل، إنَّ العقل يتكوَّن من تفاعُل عنصرَين أساسيَّين هما الوراثة والبيئة. ونترك الوراثة الآن جانبًا، وإلى حين، فنُحلِّل عنصرَ البيئة الذي يتكوَّن من جميع ما يتلقَّاه الكائنُ البشريُّ من انطباعات ومُؤثِّرات خارجيَّة، ابتداءً من لحظة ميلاده حتَّى مماته؛ وتدخل فيها، كما أسلفنا، التربيةُ البيتيَّة والمدرسيَّة وعلاقاتُه الاجتماعيّة إلخ. ولا شكَّ بأنَّ بيئةَ الإنسان العربيّ تختلف عن بيئة الإنسان الصينيّ، أو الأُوروبيّ، تمامًا كما تختلف بيئةُ الفرد الهنديّ عن الفرد الزمبابويّ، وهكذا …
وبالتالي فإنَّ عقولَ هذه المجموعات المختلفة من البشَر ينبغي أن تكونَ مختلفة بعضَ الاختلاف. وهذا لا يعني أنَّنا نقضي بذلك على المبدإ القائل بتجانُس العقل البشريّ، أي أنَّه لا يختلف من حيثُ أنَّه عقلٌ بشريّ، ويتميَّز عن عقل الحيوان، بل نعترف بهذا التجانس العامّ؛ ولكنْ ما إن ندخلُ في الخاصّ، وخاصّ الخاصّ، حتَّى تبدو الفروقات، بل تتجلَّى تلك الفروقات بين طباع البَشر أو عقولهم، باختلاف البيئات، والمجتمعات الكبيرة والصغيرة.
يقول الجابريّ: “بما أنَّ الحياةَ الاجتماعيَّة ليست واحدة، ولا على نمطٍ واحد، فمن المنتظر أن تتعدَّدَ أنواعُ القواعد العقليَّة—ولنقُلْ أنواع المنطق—بتعدُّد وتبايُن أنماط الحياة الاجتماعيَّة. من هنا كان للشعوب المُسمَّاة "بدائيَّة" منطقُها(أو عقلُها) وكان للشعوب "الزراعيَّة" منطقها، وكان للشعوب التجاريَّة الصناعيَّة منطقُها؛ ومن هنا أيضًا، ولنفس السبب، كان لكلِّ مرحلة تاريخيَّة منطقها."11
وهكذا يُمكن القول بأنَّ هناك عقلاً عربيًّا مُتميِّزًا، لأنَّ المجتمع العربيَّ مرَّ بأدوار تختلفُ عن أيّ مجتمع آخر، تراكمَت خلالها الأحداثُ والوقائعُ والقِيَم، فأصبحت جزءًا من الثقافة التي تُشكِّلُ العقلَ العربيّ.
يقول جورج طرابيشي: “إنَّ العقلَ البشريَّ عندنا هو ثمرة تراكُم تاريخيّ، ومثَـلـُه مثَـلُ ’ الرأسمال‘ عند مارْكس، فإنَّه لا يمكن فهمُه في أطوار تطوُّره اللاحقة بدون أن تؤخَذَ في الاعتبار سَيرورةُ تراكُمِه البدائيّ." 12
وفي مُناسبات سابقة13 تصوَّرتُ أنَّ لكلِّ أُمَّة "عقلاً مُجتمَعيًّا لاشعوريًّا مستقلا ً" يُمثــّـِلُ حصيلة تاريخها وتُراثها وثقافـتها، يُشابِه، إلى حدٍّ بعيد، عقلَ الفرد اللاشعوريّ الذي تتراكمُ فيه حصيلة تجارب ذلك الفرد. كما قارنتُ سيرة الفرد الشخصيَّة التي تـُكوِّن، "عقلَه الشعوريَّ واللاشعوريَّ "، بمسيرة المجتمع التاريخيَّة التي تـُكوِّن بدورها "عقلَ المجتمع اللاشعوريّ " الذي يُشـكـّـِلُ بدوره "عقلَ الفرد الذي يعيش في ذلك المجتمع. فيُصبح الفردُ مُمثِــّلا ً لنفس المجتمع بل الناطق بلسانه، مع ملاحظة اختلاف الأفراد في التعبير عن عقل المجتمع تبعًا لوضعهم الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والثقافّي إلخ. بيد أنَّ هناك في كلِّ المجتمعات فئة معيَّنة محدودة من الأشخاص قد تكون قادرة على تحويل "مخزون العقل المجتمعيّ" من المستوى اللاشعوريّ إلى المستوى الشعوريّ، بعد إلقاء الأضواء عليه بغرَض كشفه أو فَضحه.14

ثالثًا: العقلُ العربيُّ السجين[عدل]

قلنا إنَّ عقلَ الإنسان يُمثـِلُ الحصيلةَ النهائيَّة لِما مَرَّ به من أحداثٍ وتجاربَ خلال فترة حياته وتفاعُـل تلك الحصيلة مع العوامل الوراثـيـَّة أو الجيـنـيَّة الطبيعيَّة (انظرْ: أوَّلاً، التعريف الاصطلاحيّ للعقل). كما افترضنا أنَّ للمجتمع "عقلاً لاشعوريًّا"، تكوَّنَ نتيجةَ تراكُم الماجَريات التي مرَّت على المجتمع خلال مَسيرته التاريخيَّة. (انظرْ: ثانيًا، في الفقرة الأخيرة السابقة). وهناك علاقة جَدَليَّة مُتشابكة بين عقل المجتمع وعقل الفرد، من حيث تأثيرُ الأوَّل في الثاني على نحوٍ متواصل ومُكـثــَّف إلى الحدِّ الذي يُصبح فيه الفردُ صورة ً مُصغَّرة "للعقل المجتمعيّ ". كما قد يُؤثِّر العقلُ الفرديُّ في العقل المجتمعيّ أحيانًا، ولكن بدرجةٍ أقلّ وفي حالاتٍ مُحدَّدة ؛ عِلمًا بأنَّ عقلَ الفرد يخضعُ للعقل المُجتمَعيِّ لاشعوريًّا، في الغالب. وهذا الأمرُ لا ينطبق على الفرد العربيّ والمجتمع العربيّ وحسب، بل يعمُّ جميع المجتمعات. وهكذا فإنَّ العقلَ البشريَّ محكومٌ عليه بالسَّجن المُجتمعيّ المؤبَّد، دائمًا وأبدا، مع اختلاف في خصائص تلك السجون ومدى قساوتها أو رحابتها، ثمَّ مدى صرامة العقوبة التي تقع على مَن يُحاول الإخلالَ بقواعد السلوك في هذا السِّجن أو ذاك، ناهيك عن عقوبة منْ يحاول الهربَ من السجن أو التحريض على الهرَب، أو على الشغب والثورة على إدارة السِّجن.
وكنموذجٍ للمقارنة بين نوعَين من السجون نـُشير، على سبيل المثال لا الَحصر، إلى أسماء بعض "المُجرمين" العرَب الذين قاموا بأعمال شغب، اعتـُـبـِرَت انتهاكا ً لقواعد السلوك داخلَ السِّجن العربيّ "الرَّحب"، فضلاً عن كونها قد تـتـَّسمُ بالتحريض على الهرب أو على بَثِّ روحِ التمرُّد على الأقـلّ. منهم الدكتور طه حسين، مُؤلـِف كتاب "في الشعر الجاهليّ"، وغيره؛ والشيخ عَليّ عبد الرازق، مُؤلِف كتاب "الإسلام وأُصول الحُكم"؛ والدكتور نَصر حامد أبو زيد، مُؤلِف كتاب "مفهوم النصّ"، و"إشكاليَّات القراءة وآليَّات التأويل"، وغيرهما؛ والدكتور صادق جلال العَظم، مُؤلِف كتاب " نقدُ الفِكر الدينيّ"؛ والدكتور فرَج فَوده، الذي تجرَّأ على مُناقشة بعض المبادئ المعتمَدة لدى العقل المُجتمَعيّ مِمَّا قد يؤدِّي إلى التشكيك فيها؛ والدكتور لويس عوض، مُؤلِّف الكتاب الهامّ في "فقه اللُغة العربيَّة". وقد عوقِبَ هؤلاء "المجرمون" بعقوباتٍ مختلفة تتراوحُ بين التعزير (طه حسين)، والطرد من التدريس في الجامعة (علي عبد الرازق)، والطرد وتطليق الزوجة والتشريد (نَصر أبو زيد)، أو حتى الإعدام (فرَج فوده). أمَّا الأستاذ لويس عوض، فقد حوكِم، وحُجِزَ كتابُـه، ومُنِعَ من التداوُل .
والملاحَظ أنَّ مِثلَ هؤلاء الأشخاص لا يُعتَبرون "مجرمين"، في سجونٍ مُجتمَعيَّة أُخرى مثل "سِجن المجتمع الغربيّ" إلاَّ إذا اقترنَت أعمالُهم باستخدام "الذخيرة الحيَّة"؛ أمَّا المناقشة والكلام والنَّشر والتبشير بآراء جديدة أو مُخالفة لإدارة السّجن، فلا تـترتب عليها عقوبة عادة.
وهكذا فإنَّ العقـلَ العربيّ، وبالتالي الإنسان العربيّ العادي، سجين في سجون منيعة متعددة الأصناف والأسوار. وما أن يظهرَ بعضٌ من ذوي الأفكار الثورية النيّرة لتحرير الناس من سجونهم المركبة، حتى يتعاون على قمعه ورفضه وإلغائه كلٌ من السلطة الحاكمة(السجّان)، والمجتمع بأفراده السجناء أنفسهم الذين ألِـفوا سجنهم الدائم، واستساغوا قهرهم الأبدي. بل أن معظمهم لا يعيَّ سجنـَه، أي لا يدري أنه سجين أصلا ً، لأنه ولد وعاش في هذا السجن ِالكبير وسيموتُ فيه.
وإثباتا ً لدعوى "سجن العقل العربي" نقدم بعضا من الأمثلة التي تبـيّـنُ مدى مسجونية العقل العربيّ أو الإنسان العربيّ المعاصر، وما هيّ أصناف السجون التي يخضع لها:
فالعقل العربيّ سجينُ سلطات متعددة ، سواء رسميّة أو مجتمعيّة، ثقافيّة ودينيّة، خارجيّة أو ذاتيّة، وكلها تتعاونُ وتتفاعلُ للتأثير المركبِ على طريقة تفكيره ثم على سلوكه وتصرفه ونظرته إلى الأمور، مثلا:
العقلُ العربيّ سجينُ السلطة الحاكمة القاهرة التي تواصلت منذ أكثر من ألف عام: الخلافات (جمع خِلافة) الفاسدة، والحكم المملوكي، والحكم العثماني، والحكم الاستعماري، وأخيرا الحكم الوطني الجائر الذي تجاوز في قهره وعسفه أحيانا جميع العصور السابقة.
العقلُ العربيّ سجينُ قَهره السياسيّ الذي يفرضُ عليه أن يُصفِـقَ للحاكم بأمره، أو ينتخبَه مثـنىً وثـلاثَ ورُباع، ويـُسبّـِح بَحمدِه جهرا ويلعنه سرا.
العقلُ العربيّ سجينُ ضرورات وحاجات الجسد اليومية من غذاء ودواء وبحث عن عمل يعيله وأسرته.
العقلُ العربيّ سجينُ تخلـُفِه الحضاريّ الذي دام أكثر من سبعة قرون، وخاصة منذ سقوط بغداد.
العقلُ العربيّ سجينُ قَهره الاجتماعيّ الذي يفرضُ عليه أن يُفكِّرَ ويتصرَّفَ ويسلكَ تبعًا لِمُستلزماتٍ ومُحدَّدات ومسلمات العقل المجتمعيِّ السائد. والمفارقة الكبرى أن الإنسان العربي يخضع لهذه المسلمات القاهرة دون وعي، بل تصبح جزءا من عقله الواعي يدافع عنها ويتزايد عليها باعتبارها تمثلُ قيـَّمه الخاصة، كما سأفصله في الحلقة الثانية (الفصل التالي).
العقلُ العربيّ سَجين في “زنزانة” مُحكـَمة لا يرى فيها سوى أشباح السلـَف الصالح الذي عاش ومات قبل أربعة عشر قرنا، وهو لا يزال يتوسَّـل إليه وبه عبثا ً لحـّـِل مشاكل عصره الراهن!
العقلُ العربيّ سَجين لاتاريخيَّـته، التي تفرضُ عليه حضورَ القديم جنبًا إلى جنب مع الجديد، حضوراً يُنافسه بل يـُكـبِّـله. فالإنسان العربيّ يعيش ماضيه لا باعتباره يـُـشكلُ جزءًا أساسياً من حاضره وحسب، بل حتى من مستـقـبله أيضًا.
العقلُ العربيّ سجينُ خلافاته الدينيَّة والمذهبيَّة والطائفيَّة والإيديولوجيَّة، التي تمتدُّ جذورُها إلى الصراع الدَّمَويّ بشأن الخلافة منذ أكثر من 1400عام.
العقلُ العربيّ سجينُ تمزُقه بين عصرٍ متقدِّم يغلي بالحركة والتطوُّر، وعصرِه الثابت التالد، الذي لا يزال يعيش فيه في كنف الخليفة الراشد عُمر بن الخَطاب، والخليفة الصالح عُمَر بن عبد العزيز...
العقلُ العربيّ سجينُ بداوتِه العريقة التي لا تزال تفرضُ قِيَمَها العشائريَّة المؤدِّية، بين أُمورٍ أُخرى، إلى تفضيل النـَّسَب، والحسب والجاه ، لا الكفاءة، أساسًا لاختيار الرجُل الصالح في المنصب الملائم، كما إلى تمجيد السلف، واحتقارِ المِهنة (من فعل مَهَنَ أي حقـّرَ وأضعفَ).15
العقلُ العربيّ سجينُ النظام الأبَويّ Patriarchy system الذي يفرضُ التراتب والفَوقيَّةَ الشموليَّة، وتمجيد الزعيم الأوحد، وينتظر المستبد العادل، فضلا عن احترام الراعي والأكبر والأقوى. كما يقبل سيادة الرأيَ الواحد، ويُحاربُ النقدَ والتعدُّديَّة الإيديولوجيَّة والاختلافَ الفكريَّ الذي يُؤدِّي إلى الإبداع والتقدُّم. 16 ومن هنا أيضا يأتي وضعُ المرأةِ في مستوى أقل من الرجل دائماً.

رابعًا: صدمة العقلِ العربيّ[عدل]

العقلُ العربيّ، وبالتالي الإنسان العربيّ أُصيبَ بصدمةٍ عنيفة trauma ، منذ حملة نابليون على مصر في عام 1798، وتكرار الهزائم أمام الغرب المتقدم. ثمَّ تفاقمت هذه الصدمة في واقعيَّة الهزيمة الكـُبرى في حرب 1967، وازدادت تفاقمًا وتأزُّمًا بعد "عواصف الصحراء". أصيب العقل العربي بتلك الصدمة العنيفة بسبب فشله في مواجهة "الأخر"، وقد يُبرر الإنسان العربيّ هزائمَه أمام الغرب لأنه يمثل دولا ًكبرى، فكيف يبرر هزائمه المنكرة أمام الكيان الصهيوني أو الدويلة القميئة أو العصابات الصهيونية، كما كان يقال عنها أحيانا؟
في نظريته الشهيرة حول "التحدي والاستجابة"، تأثر آرنولد توينبي بنظرية كارل يونغ Carl Jung —وهو من عُلماء النفس المعروفين— الذي يُـشير فيها إلى أنَّ الفردَ الذي يتعرَّضُ لصدمةٍ قد يفـقـدُ توازنـَه لفترةٍ ما، ثمَّ قد يستجيبُ لها بنمطَين من الاستجابة: الأَوَّل تـقـبُـلُ هذه الصدمة والاعترافُ بها وعَـقـلـَنـتــُها، ثمَّ يحاول التغلـُبَ عليها باتِّخاذ مواقفَ جديدة أكثرَ مُلاءَمة، أو حتَّى العمل على تغيير نمَطِ حياته وتكييف وسائلِ تعامُـلِه مع نفسه ومع الآخرين، فيُسمَّى في هذه الحالة شخصًا “انبساطيًّا “ extrovert. أمَّا النمطُ الثاني من الاستجابة فتظهرُ بأنواع الانحرافات النفسيَّة أو العقليَّة التي يؤدِّي بعضُها إلى انطواء المريض على ذاته، فتكون حالتـه، إذ ذاك، “انطوائيَّة” introvert، أو إلى رجوعه إلى فترة صِباه أو طفولته، ليعيشَها فعلاً في مُخيّـلتـِه، وهكذا يستعيدُ الماضي مُعظـِّمًا إيَّاه ، مُتمسِّـكًا به تعويضًا عن واقعه المُرّ، فتـُسمَّى هذه الحالة الارتداد أو النكوص regression. 17
من أقوال الإمام جمال الدين الأفغانيّ المشهورة إنَّ: “العربيَّ... يُعجَبُ بماضيه وأسلافه … وهو في أشدِّ الغفلة عن حاضره ومستقبله“.
وهكذا ترانا كنَّا، ولا نزال، نعيش على أمجادنا السالفة (نكوص). إنَّ ارتباطنا بهذا الذي نُطلق عليه تارة ًماضينا التليد أو تاريخنا المجيد أو تراثـنا الثرّ، أو سلفـَنا الصالح، ليس له ما يضارعه أو يُعادله لدى أيِّ أمَّة من أُمَم الأرض، على حَدِّ علمي. إنَّ الإلحاح في التنويه بماضينا التالد وفضله على العالم عامَّةً، وعلى الغرب خاصَّة، قد يُعتـَـبـَرُ ظاهرةً مَرَضيَّة، إنْ لَم يقـترن بالعَمل الجادّ والإبداع الفكريّ والحضاريّ، بما فيه العلميّ والتكنولوجيّ على وجه الخصوص، لمواكبة الحضارة الحديثة القائمة على هذه المُعطـَيات.
بل أصبح ذلك التراث يُشكـّـِلُ بالفِعل عاملاً مُعوِّضًا ومُعَـوِقـًا، أو بالأحرى مُخدِّرًا، يُضاعِف أسبابَ تخلـُّـفنا، لأنَّه يُعمينا عن إدراك أُسُس الأزمة التي تـُواجهنا والكارثة التي تـنتـظرنا. إنَّ عدمَ الوعي بمدى تخلـُّـفنا وأبعاده ونتائجه القريـبة والبعيدة، وبالفجوة المتزايدة في سعَتِها وعُمقها بيننا وبين الحضارة الغربية التي تتضاعف وتائرُ سرعتها بمرور الزمن— أسفر عن زيادة نفوذ القوى العظمى على مـُـقـدَّراتـنا، وهَيمـنـتِـها على مواردنا الطبيعيَّة والبشريَّة ونهبها أو استنزافها، فضلاً عن إذلالنا وتركيعنا، وهذا ما هو حاصل بالفِعل18.

ومن جهة أخرى، فإنَّ التـنويه بالسَـلَف واحترام التراث يقتضي، قبل كلِّ شيء، إعادة دراسته وتحليله بتعمُّق واستكناه، انطلاقًا من أُسُس أبستمولوجيَّة (مَعرِفـيَّة)، لا إيديولوجيَّة، مِمَّا يصعبُ أو يتعذَّرُ تحقـيـقـُه بهذا “العقل العربيّ السجين” (انظر: ثالثًا، أعلاه)؛ الأمر الذي يوقِعـُـنا في “مسألة الدَّور” أو “الحلقة المُفرَغة”. لذلك كنَّا ولا نزال نُبشِّرُ بأهمِّيـَّة إنشاء المؤسَّسة الموسوعيَّة في المهجر، بغيةَ كَسر هذه الحلقة، عن طريق إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ، كما وردَ في ورقة عَمل ذلك المشروع.(أنظر الحاشية 12 من الفصل الثاني)
وليس بوسعي أن أتذكـَّر أيَّ أُمـَّـة لها مثلُ حضارتنا العريقة، أضرَّ بها ماضيها التالد إلى الحدِّ الذي أضرَّ بالأُمَّة العربيَّة. فنحن ننشأ منذ نعومة أظفارنا على تمجيد وتعظيم ماضينا وأسلافنا: في أُسرتنا أوَّلاً، ثمَّ في مدرستـنا، ومن خلال أدبنا شعرًا ونثرًا، وتمثـيـليَّاتـنا، وتاريخنا المكتوب بسطحيَّة إلخ... فننشأ مُشبَعين بفخر الأجداد وتعظيم السَّـلَف وتمجيد الماضي بل حتّى وضعه في منزلة تفضلُ منزلةَ الحاضر. ولا رَيبَ في أنَّ المقصودَ بكلِّ ذلك تحقيقُ أهدافٍ نبيلة؛ منها حَفزُ الهِمَم وإيقاظ العقول لاستعادة مجد الأجداد، وتحقـيق التـقـدُّم. بَيد أنَّ هذا التأكيد أَو التنويه الذي جرى على هذا النحو المكـثــَف، وبدون أن يقترن بالنقد العلميّ الموضوعيّ، قد أدَّى إلى عكس المطلوب تمامًا. فقد أسفر عن إمعاننا في التـلـذُّذ بأحلام الماضي وأمجاده وشخصيَّاته، غافلين واقعَنا الذي يزداد تخلـُفا. وفي هذا السياق، يقول الجابريّ:
"ماذا تغيَّر في الثقافة العربيـَّـة منذ الجاهلية إلى اليوم؟... آية ذلك أنـَّـنا نشعر جـميعًا بأنَّ امرأَ القـيس و عنترة و زهير و لبيد … و ابن عباس و علي بن أبي طالب و سيبويه و الشافعي والغزالي و ابن حنبل … والجاحظ tt و الأصمعي والغزالي و الجُنَيد و ابن تَيميَّة ... و الطبري و المسعودي ... والفارابي و ابن سينا و ابن رشد و ابن خلدون إلخ... نشعر بهؤلاء جميعًا معنا هنا، أو يقـفـون هناك أمامنا على خشبةِ مسرح واحد، مسرحِ الثـقافـة العربيَّة الذي لم يُسدل الستارُ فيه بعد، ولو مرَّة واحدة" 199 .
وقلنا في مناسبة أخرى:
ونحن لا نريد، بل ليس من صالحنا، أن نسدلَ الستار على هذا المسرح العظيم لذلك التاريخ الحافل بكلِّ ما فيه من صفحات بيضاء وسوداء، وبكلِّ ما بينها من صفحات متـدرِّجة في العـتمة والبـياض، وبكلِّ ما فيه من مجدٍ ومآسٍ وانتصاراتٍ وانكسارات، بل يجب أن نُعيدَ كتابة هذه المسرحيَّة، ونُعيدَ إخراجها بعقولٍ ناضجة، بعـقـول العـصر الذي نعيشُه، بعقولٍ نقديَّة، صارمة في موضوعيَّتها وعلميَّتها،20 وأَلاَّ نظلَّ نُكرِّر عرضَ هذه المسرحيَّة كما كُتِبت وأُخرِجت في عصرها قبل أكثر من ألف عام، وعُرِضت مئات، بل آلاف المرَّات، بنفس الطريقة القديمة، فراحت تُؤثِّرُ وتُخاطبُ الجانبَ الساذج من عقولنا، فنـتأثـر بها كما يتأثر الطفلُ عندما يُشاهد مسرحيَّة رومانسيَّة أو شريطًا سينمائيًّا مثيرا، فيظـلُّ يعيش قصّـته وكأنَّ شخصيَّاتِه أحياء يُرزَقون، يأكلون ويشربون معه كلَّ يوم... وهذا ما حصل عندنا نتيجةَ كثرة التنويه والإشادة أو الاقـتباس من تاريخنا. فـنظرتـُنا إلى التاريخ لا تزال تعكس عـقـلـيـَّتـَنـا اللاتاريخيَّة، أي عدم إدراك السَّيرورة العاديَّة للزمن، وأنَّ اللحظةَ الراهنة تختلف عن أيِّ لحظة سابقة، يستحيل استرجاعها. وهذه السيرورة ترتبطُ بالتغيـيـر والتطوُّر الكونيّ؛ فكلُّ شيء في تغيُّر مستمرّ حتَّى الأشياء التي تبدو ثابتة مثل الجمادات.21
بَيدَ أنَّ التغيُّـرات التي تطرأ على المجتمعات والأفراد تكون أَشدَّ وأسرعَ وتيرةً من التطوُّرات التي تحدثُ في مملكة الجماد والحيوان، ولا سيَّما في العصر الحديث، بعد الثورة العلميَّة الأخيرة، حيث يقطعُ التقدُّمُ العلميُّ والتقـنيُّ خلال عقْدٍ من الزمان ما كان يقطعُه خلال ألف عام قبل القرن العشرين أو أكثر. ومع ذلك، فإنَّ العربَ في غَيبوبة عن هذا التقدُّم المذهِل، بل لا يزالون يستوردون حتَّى غذاءَهم وكساءَهم ودواءَهم من الغرب، فضلاً عن حاجتهم من وسائط النقل والأجهزة والمعدَّات الحديثة التي أصبحت من الضروريَّات في كلِّ الأوساط؛ علمًا بأنَّ عددَ الجامعات في البلدان العربيَّة أصبح يقارب 200 جامعة، خرَّجت ما يزيد على اثني عشر مليون خِرِّيج، منهم حوالى مليونَين من حَمَلة شهادة الدكتوراه و/أو المتخصِّصين في مختلف الفروع العلميَّة والهندسيَّة والتـقـنيَّة22. ومع ذلك، لم يُقدِّم هذا الجيشُ العظيم من الخِرِّيجين إلى الإنسانيَّة أيَّ إنجاز علميّ أو فكريّ خارق23، كما لم يـُـقـدِّم، على الصعيد الوطنّي، أيَّ عمل مُـتميّـِز يُحقـِق إنجازاتٍ عمليَّة يفيدُ منها العربُ على النطاق الإقليميّ أو القُطريّ... وذلك لأنَّ العقل العربيَّ يُعاني من التقليد والثبات وعدم إدراك أبعاد أهمِّـيَّـة الإبداع والتجديد. إنَّ استـيرادَ بعض المناهج الدراسيَّة من الغرب وتطبيقَها في مدارسنا وعلى طَلَبَتِنا يُشكِّلان هما الآخران نمطًا من أنماط التقليد والاتِّباع. إنَّ عقلَنا لم يُدركْ بعد، أنَّ التقليد، مهما كان، سواء تقليد السَّلَف (الأنا) أو تقليد الغرب (الآخر)، يُشكِّل انتهاكًـا لشرف العقل الذي دسناه بأقدامنا، في الوقت الذي نتسابقُ ونتزايد ونتباهى بقتل بناتنا غسلا للعار بمجرد الشبهة لحِفظ شَرفِنا الذي هوى إلى وانطوى، بدون خجل، في عُـذرية بناتنا وحجاب نسائنا، ناسين شرفـَنا الذي يُـنـتَهـَـكُ يوميًّا في فلسطين وفي العراق وفي لبنان وفي جميع أرجاء الأُمَّة العربيَّة، بل شرفنا الذي يُـنـتهَـكُ يوميًّا بفرار الملايين من أبنائنا، نساءً وأطفالاً ورجالاً، من جحيم معظم أجزاء العالَم العربيّ والإسلاميّ، وركوب الأخطار والتعرض للموت، فرارهم إلى ذات الدول التي استعبدتـنا وأذلتنا وانتهكت حرماتنا، طلبا لكسرة الخبز أو فتات الموائد، أو سعيا للحصول على الحرية بأنواعها، وخاصة حرية الفكر والتعبير والنشر والتنظيم والعمل. أو سعيا لمجرد العيش بكرامة دون تهديد أو وعيد.

  • * *


إستعرضنا في هذه الحلقة معانيَ كلمة “العقل” وتعريفاتها في اللُغات العربيَّة والإنكليزيَّة والفرنسيَّة واللاتينيَّة، ثمَّ أتينا على المعنى الاصطلاحيّ لهذه الكلمة المستعمَل في هذا البحث، ثمَّ مـيَّـزنا بين العقل والفِكر، وتساءلنا عن وجود عقلٍ عربيّ مُتميِّز يتَّصلُ بالبيئة العربيَّة وبالتاريخ العربيّ–الإسلاميّ. وتحدَّـثـنا عن العقل العربيّ السجين في زنزانة القَهر الاجتماعيّ والسياسيّ، فضلاً عن التخلُّف والـتـبَعيَّة. ثمَّ انـتـقـلنا إلى صَدمة العقل العربيّ منذ حملة نابُليون على مصر في عام 1798، مرورًا بهزائم العرب أمام إسرائيل، ووصولاً إلى عواصف الصحراء التي أسفرت عن نكوص العقل العربيّ ولجوئه إلى الماضي والسَّلَف الصالح تعويضًا له عن فـشَـلِه وعن واقعِه المُرّ.
وسنُفصِّل في الحلقة القادمة مفهومَ “العقل المُجتمعِيّ اللاشعوريّ” الذي يتحكَّم في “العقل الفرديّ” للإنسان العاديّ، من حيث لا يدري، ويفرض عليه مفاهـيمَه وقـِـيـَمَه التي تمخَّضت عن السَّيرورة التاريخيَّة لذلك المجتمع. ثمَّ نُحاول تبيانَ أهمِّيـَّة استخدام “العقل الفاعل” في تخفـيف “سلطة العـقل المُجتَمَعيّ المطلقة”، من خلال استعراض "نظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعِل"، وذلك استكمالاً لتحـقـيق النَّهج التـنظـيريّ الذي يمكنُ من خلاله النظرُ في تحرير العقل العربيّ، وبالتالي تحرير الإنسان العربيّ.

المراجع والحواشي[عدل]

1. جميل صليبا، “المُعجَمُ الفلسفيّ” (بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1973)، ج 2، ص 84.
2. انظرRaphael Patai, The Arab Mind (New York: Charles Scribner's Sons, 1986) :
3.Paul Edwards, Editor, The Encyclopedia of Philosophy (New York: Macmillan Publishing, 1967), Vols. V & VI, p. 337.
4. مراد وهبة، “المعُجم الفلسفيّ” (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998)، ص 457.
5.A. Lalande, Vocabulaire Technique et Critique de la Philosophie, (Paris: Presses Universitaires de France, 6ème éd., 1988), article: “Raison”.
6. جميل صليبا، “المُعجَمُ الفلسفيّ”، المرجع السابق، ص 84 و85.
7. نعترف بأَنَّ هذا تعريفٌ تقريبيّ ناقص. ومع ذلك فإنَّنا لا نميل إلى التعريف “الجامع المانع” كما يُريدُه المناطقة التـقـليديّـُون، بل نُـفـضل التعريفَ المُتحرِّك والمُتطوِّر الذي يتقرَّب من مفهوم المعرَّف باستمرار، بل يُحاول أَن يُقدِّمَ فكرةً موجَزة عن المُعرَّف أحيانًا. لا سيَّما ولأنَّ اللغة تظلُّ تلهثُ وراءَ الفكر، وليس العكس، ولأنَّ الكلامَ سيأتي فيما بعد للإيضاح والتعميق. ومن جهةٍ أُخرى لا يسعُنا، في هذا المقام، الدخول في مُناقشات مفاهيم العقل التي بدأَت من هراقليطس وأنكساغوراس مرورًا بكبار الفلاسفة اليونانيِّين والعرَب، وانتهاءً بديكارت وسبينوزا وكانط وهيغِل وغيرهم من الفلاسفة المُحدَثـيـن.
8. أُحيل القارئ إلى المراجع المذكورة أعلاه للاستزادة، فضلاً عن The Cambridge Dictionary of Philosophy.
9. محمَّد عابد الجابريّ، “نقدُ العقل العربيّ: تكوين العقل العربيّ” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 5)، الجزء الأوَّل، ص 11.
10. المرجع السابق، ص 11 و12.
11. المرجع السابق، ص 24.
ملاحظة هامَّة: سنتحاشى الَخوضَ في خضمِّ النقد المكثَّف الذي يضطلع به المفكِّرُ الكبير جورج طرابيشي لأعمال محمَّد عابد الجابريّ، وخاصّةً ‘‘تكوين العقل العربيّ”. ومع أنَّنا قطعنا شوطًا كبيرًا في الاطِّلاع على ذلك النقد ودراسته، إلاَّ أنَّ ذلك لا يُخوِّلُنا تقديمَ أيِّ رأي سريع، أو بالأحرى مُبتسَر فيه، خاصَّةً أنَّ كِلا المفكِّرَين عزيز على نفس كاتِب هذه السطور وفكرِه. فقد أتحفني الطرابيشي من خلال كتابه الهامّ “المثقَّفون العرب والتراث” بحصيلةٍ ممتازة من الأفكار والمعلومات التي رجعتُ إليها في كثير من كتاباتي؛ بل اقتبستُ منه بعض العبارات نصًّا، وأشرتُ إليه في كثير من المناسبات. كما أوحى إليَّ الجابريّ بثروةٍ عظيمة من الأفكار التي لا أزال أعتزُّ بها. على أنَّ مقولةَ الجابريّ هذه التي اقتبسنا منها ما اقتبسنا في المَتن، لم يتعرَّض، على حدِّ علمنا حتَّى الآن، لها الطرابيشي الذي صرفَ ما لا يقلُّ عن عقدٍ من حياته لنَقد الجابريّ، فأخرج لنا مؤلَّفَين مهمَّين يحتويان على ثروة هائلة من الأفكار والمعلومات والمراجع الشديدة الأهمِّـيَّة لكلِّ باحث. انظر “نقد نقد العقل العربيّ، نظريَّة العقل”، و“نقد نقد العقل العربيّ، إشكاليَّات العقل العربيّ”، (بيروت/لندن: دار السافي، 1996، و 1998).
12. جورج طرابيشي، “نقد نقد العقل العربيّ، نظريّة العقل” (بيروت/لندن: دار الساقي، 1996)، ص 57.
13. علاء الأعرجي، “على هامش نظريَّة العقل: اللاشعور المَعرِفيّ للفرد والمجتمع”، دراسة نُشِرت في ثلاث حلقات تحت عناوين فرعيَّة: “فشلَت نهضتُنا لأنَّنا أهملنا استخدامَ عقلنا الفاعل”، و“العقل التاريخيّ عند العرب يكاد يكون مفقودًا” و“نظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعِل وتأثيرها عربياًّ” (انظر صحيفة “القدس العربيّ” لندن في 16 و 17 و 18 حزيران/يونيه 1997).
14. حاولنا مثلاً في الدراسة المُشار إليها سابقًا (في المرجع 13) أن نعملَ على توظيف وتَبيئة التعبير الذي استخدمَه بياجيه Piaget ، نقلاً عن الجابريّ، وهو “L’inconscient cognitif” ، في وضع فرضيَّة “العقل المُجتمعيّ اللاشعوريّ ” (انظر J. Piaget: Problèmes de psychologie génétique, Paris, Deuvêl Gonthier, 19722)، حيث توسَّعنا فيها إلى الحدِّ الذي خرجَت عن مفهومها الأساسيّ وتجاوزَته بل استقلَّت عنه؛ علمًا بأنـَنا على اطِّلاعٍ كافٍ على النقد الذي وجَّهه جورج طرابيشي إلى محمَّد عابد الجابريّ، لدى استخدامه هذا التعبير ومُحتواه المفاهيميّ، الذي لا نرى أنَّه يـُـؤَثـِر على الفرضيَّـة التي توصلناا إليها بشأن “العقل المُجتمَعيّ اللاشعوريّ”. انظر الجابريّ، “ تكوين العقل العربيّ”، المرجع السابق، ص40؛ كذلك، طرابيشي، “إشكاليَّـات العقل العربيّ” (بيروت/لندن: دار السافي)، ص 294 وما بعدها.
15. في سياق تسلُّط القِيَم البدويَّة أنظر الهادي شقرون، "نقد العقلية العربية"(تونس: التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، 1985)، و علي الوردي،"دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"(بغداد: مطبعة العاني،1965). كذلك نشرنا عدة أبحاث ودراسات، أنظر الحاشية 21في الفصل الثاني.
16. وفي هذا السياق الذي ينتسب إلى إشكاليَّة السلطة الأبويَّة، انظر كـتـبَ هشام شرابي، وخاصَّة “النقد الحضاريّ للمجتمع العربيّ في نهاية القرن العشرين”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1990)، و“النظام الأبَويّ وإشكاليَّة تخلُّف المجتمع العربيّ” (نفس الناشر، 1993).
17. أنظر الفصل الأول.
18. فصّلنا ذلك في بحث أشرنا فيه إلى خطورة زيادة سعَة هذه الفجوة التي تفصلُنا عن الحضارة الغربيَّة. ففي الوقت الذي قد نتـقدم فيه خـطوات قليلة، يتـقـدمُ العالَمُ الغربيُّ فراسخ عظيمة؛ فالمسافة التي كانت تفصلنا عنه قد تضاعفت عدَّة مرَّات منذ نهاية الحرب العالميَّـة الثـانية، وبعد استقلال البلدان العربيَّة، مِمَّا أسفر عن استعادة النفوذ والاستغلال والسيطرة، على نحوٍ أشدَّ وأدهى وأسهل. وتعتـَبرُ “العَولمة” (أو النظام العالَميّ الجديد) أَحد مظاهر ذلك النفوذ. (انظر “على هامش مشروع المؤسَّسة الموسوعيَّة في المهجر؛ واقعيَّة تخـلـفنا”، لندن: صحيفة القُدس العربيّ، 1/8/1996.)
19. محمد عابد الجابريّ، “نقد العقل العربي" ، الجزء الأوَّل، “تكوين العقل العربيّ”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، جماعة الدراسات العربيَّة والتاريخ والمجتمع، ط 5، 1991)، ص 38 و 39.
20. علاء الأعرجيّ، “على هامش مشروع المؤسَّسة الموسوعيَّة، في سبيل إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ”، (لندن: القُدس العربيّ، 29 و30 آذار/مارس 1997). عالجنا في هذا البحث أهمِّيـَّة إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ، تحقيقًا للبند الرابع عشَر من ورقة العمل الخاصَّة بمشروع الموسوعة العربيَّة الشاملة، التي شدَّدَت على هذه النقطة، لأنَّ التاريخ العربيَّ الإسلاميَّ لم يُكتَب بعد. فأمَّا ما كُتِبَ عنه حتَّى الآن، فإنَّه إمَّا وردَ بأقلام المُستشرفين الأجانب، أو بأقلام العرب المسلمين، وفي كِلتا الحالتَين فإنَّ هذه الكتابات كانت ولا تزال مُتأثِّرة إمَّا بنزعة “الآخَر” أو بنزعة “الأنا”، مِمَّا لم يُسفِر، في معظم الأحيان، عن مُعالجة الوقائع التاريخيَّة وتحليلها بموضوعيَّة علميَّة صارمة، وإصرارٍ على اكتناه أبعد الأعماق، وعلى الإدراك المتعدِّد الأبعاد، للمُكوِّنات المحتَمَلة لكلِّ قضيَّة.
21. النص مقتبس من بحث منشور تحت عنوان "على هامش نظريَّة العقل: اللاشعور المعرِفيّ للفرد والمجتمع" (المرجع السابق المذكور في الحاشية 13 أعلاه).
22.أنطون زحلان، “العرب وتحدِّياتُ العلم والتِّقانة: تقدُّم من دون تغيير” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1999)، ص 28.
23. إنَّ نَيل العالِم العربيّ المصريّ، أحمد زُوَيل، جائزة نوبل في الكيمياء، ما كان أن يَتمَّ لو ظلَّ هذا العالِم عاملاً في الجامعات العربية.

الفصل الرابع: تحرير العقل العربيّ لتحرير الإنسان العربي(2)[عدل]

مدخل إلى نظرية العقل المجتمعي ونظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل[عدل]

أشرنا في الفصل السابق إلى تعريفات العقل وخلصنا إلى تعريفه بقدر ما يتعلَّق بهذه الدراسة، باعتباره تلك المَلكة التي يُمكنُ للفرد أن يقومَ من خلالها بالحُكم على الأمور، أو تلك "الأداة" الفكريَّة التي يستخدمها المرءُ للحُكم والتمييز بين الأُمور، وتقويمها، من حيثُ خيرُها وشرُّها، وحسنـُـها وقبحُها، وصحَّـتـُها وخطأها... وتتكوَّن هذه الأداة تدريجيًّا لدى الفرد، منذ ولادته، وتظلُّ تنمو معه، أو تتضاءلُ حتَّى وفاته. وتـتـشكـَّلُ من عنصرَين أساسيَّين هما الوراثة Genetics ، والبيئة أو المحيط Environment ؛ ويدخلُ في العُنصر الأخير كلُّ ما يتلقَّاه الإنسانُ من مُؤثِّرات خارجيَّة، منذ لحظة ولادته، بما فيها تربيتـُه العائليَّة والمدرسيَّة وعلاقاتُه الاجتماعيَّة والمفاهيمُ والقِيَمُ المُجتَمعيَّة إلخ.
أمَّا الوراثة فنقصدُ بها الخصائصَ المَوروثة من الآباء والأجداد (إلى نهاية غير معروفة) التي تحملُها الصَّبغيَّاتُ الوراثـيـَّة (الكروموسومات) بما فيها من جينات تنطوي على برامجَ مُحدَّدة من الـ"دي.أن.أي" تُشكِّل اللُّغة الإحيائيَّة التي تتحدَّدُ بها خصائصُ كلِّ كائنٍ حَيِّ. 1
إنَّ هذا التفاعُلَ المُعقَّد الذي يجري بين هذين العنصرَين الأساسيَّين (العوامل الوراث
فؤاد
رد: أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي
مُساهمة الإثنين أبريل 17, 2017 8:32 pm من طرف فؤاد

ي المهالك 

أمَّ والحضاريّ، بما فيه العلميّ والتكنولوجيّ على وجه الخصوص، لمواكبة الحضارة الحديثة القائمة على هذه المُعطـَيات.
بل أصبح ذلك التراث يُشكـّـِلُ بالفِعل عاملاً مُعوِّضًا ومُعَـوِقـًا، أو بالأحرى مُخدِّرًا، يُضاعِف أسبابَ تخلـُّـفنا، لأنَّه يُعمينا عن إدراك أُسُس الأزمة التي تـُواجهنا والكارثة التي تـنتـظرنا. إنَّ عدمَ الوعي بمدى تخلـُّـفنا وأبعاده ونتائجه القريـبة والبعيدة، وبالفجوة المتزايدة في سعَتِها وعُمقها بيننا وبين الحضارة الغربية التي تتضاعف وتائرُ سرعتها بمرور الزمن— أسفر عن زيادة نفوذ القوى العظمى على مـُـقـدَّراتـنا، وهَيمـنـتِـها على مواردنا الطبيعيَّة والبشريَّة ونهبها أو استنزافها، فضلاً عن إذلالنا وتركيعنا، وهذا ما هو حاصل بالفِعل18.

ومن جهة أخرى، فإنَّ التـنويه بالسَـلَف واحترام التراث يقتضي، قبل كلِّ شيء، إعادة دراسته وتحليله بتعمُّق واستكناه، انطلاقًا من أُسُس أبستمولوجيَّة (مَعرِفـيَّة)، لا إيديولوجيَّة، مِمَّا يصعبُ أو يتعذَّرُ تحقـيـقـُه بهذا “العقل العربيّ السجين” (انظر: ثالثًا، أعلاه)؛ الأمر الذي يوقِعـُـنا في “مسألة الدَّور” أو “الحلقة المُفرَغة”. لذلك كنَّا ولا نزال نُبشِّرُ بأهمِّيـَّة إنشاء المؤسَّسة الموسوعيَّة في المهجر، بغيةَ كَسر هذه الحلقة، عن طريق إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ، كما وردَ في ورقة عَمل ذلك المشروع.(أنظر الحاشية 12 من الفصل الثاني)
وليس بوسعي أن أتذكـَّر أيَّ أُمـَّـة لها مثلُ حضارتنا العريقة، أضرَّ بها ماضيها التالد إلى الحدِّ الذي أضرَّ بالأُمَّة العربيَّة. فنحن ننشأ منذ نعومة أظفارنا على تمجيد وتعظيم ماضينا وأسلافنا: في أُسرتنا أوَّلاً، ثمَّ في مدرستـنا، ومن خلال أدبنا شعرًا ونثرًا، وتمثـيـليَّاتـنا، وتاريخنا المكتوب بسطحيَّة إلخ... فننشأ مُشبَعين بفخر الأجداد وتعظيم السَّـلَف وتمجيد الماضي بل حتّى وضعه في منزلة تفضلُ منزلةَ الحاضر. ولا رَيبَ في أنَّ المقصودَ بكلِّ ذلك تحقيقُ أهدافٍ نبيلة؛ منها حَفزُ الهِمَم وإيقاظ العقول لاستعادة مجد الأجداد، وتحقـيق التـقـدُّم. بَيد أنَّ هذا التأكيد أَو التنويه الذي جرى على هذا النحو المكـثــَف، وبدون أن يقترن بالنقد العلميّ الموضوعيّ، قد أدَّى إلى عكس المطلوب تمامًا. فقد أسفر عن إمعاننا في التـلـذُّذ بأحلام الماضي وأمجاده وشخصيَّاته، غافلين واقعَنا الذي يزداد تخلـُفا. وفي هذا السياق، يقول الجابريّ:
"ماذا تغيَّر في الثقافة العربيـَّـة منذ الجاهلية إلى اليوم؟... آية ذلك أنـَّـنا نشعر جـميعًا بأنَّ امرأَ القـيس و عنترة و زهير و لبيد … و ابن عباس و علي بن أبي طالب و سيبويه و الشافعي والغزالي و ابن حنبل … والجاحظ tt و الأصمعي والغزالي و الجُنَيد و ابن تَيميَّة ... و الطبري و المسعودي ... والفارابي و ابن سينا و ابن رشد و ابن خلدون إلخ... نشعر بهؤلاء جميعًا معنا هنا، أو يقـفـون هناك أمامنا على خشبةِ مسرح واحد، مسرحِ الثـقافـة العربيَّة الذي لم يُسدل الستارُ فيه بعد، ولو مرَّة واحدة" 199 .
وقلنا في مناسبة أخرى:
ونحن لا نريد، بل ليس من صالحنا، أن نسدلَ الستار على هذا المسرح العظيم لذلك التاريخ الحافل بكلِّ ما فيه من صفحات بيضاء وسوداء، وبكلِّ ما بينها من صفحات متـدرِّجة في العـتمة والبـياض، وبكلِّ ما فيه من مجدٍ ومآسٍ وانتصاراتٍ وانكسارات، بل يجب أن نُعيدَ كتابة هذه المسرحيَّة، ونُعيدَ إخراجها بعقولٍ ناضجة، بعـقـول العـصر الذي نعيشُه، بعقولٍ نقديَّة، صارمة في موضوعيَّتها وعلميَّتها،20 وأَلاَّ نظلَّ نُكرِّر عرضَ هذه المسرحيَّة كما كُتِبت وأُخرِجت في عصرها قبل أكثر من ألف عام، وعُرِضت مئات، بل آلاف المرَّات، بنفس الطريقة القديمة، فراحت تُؤثِّرُ وتُخاطبُ الجانبَ الساذج من عقولنا، فنـتأثـر بها كما يتأثر الطفلُ عندما يُشاهد مسرحيَّة رومانسيَّة أو شريطًا سينمائيًّا مثيرا، فيظـلُّ يعيش قصّـته وكأنَّ شخصيَّاتِه أحياء يُرزَقون، يأكلون ويشربون معه كلَّ يوم... وهذا ما حصل عندنا نتيجةَ كثرة التنويه والإشادة أو الاقـتباس من تاريخنا. فـنظرتـُنا إلى التاريخ لا تزال تعكس عـقـلـيـَّتـَنـا اللاتاريخيَّة، أي عدم إدراك السَّيرورة العاديَّة للزمن، وأنَّ اللحظةَ الراهنة تختلف عن أيِّ لحظة سابقة، يستحيل استرجاعها. وهذه السيرورة ترتبطُ بالتغيـيـر والتطوُّر الكونيّ؛ فكلُّ شيء في تغيُّر مستمرّ حتَّى الأشياء التي تبدو ثابتة مثل الجمادات.21
بَيدَ أنَّ التغيُّـرات التي تطرأ على المجتمعات والأفراد تكون أَشدَّ وأسرعَ وتيرةً من التطوُّرات التي تحدثُ في مملكة الجماد والحيوان، ولا سيَّما في العصر الحديث، بعد الثورة العلميَّة الأخيرة، حيث يقطعُ التقدُّمُ العلميُّ والتقـنيُّ خلال عقْدٍ من الزمان ما كان يقطعُه خلال ألف عام قبل القرن العشرين أو أكثر. ومع ذلك، فإنَّ العربَ في غَيبوبة عن هذا التقدُّم المذهِل، بل لا يزالون يستوردون حتَّى غذاءَهم وكساءَهم ودواءَهم من الغرب، فضلاً عن حاجتهم من وسائط النقل والأجهزة والمعدَّات الحديثة التي أصبحت من الضروريَّات في كلِّ الأوساط؛ علمًا بأنَّ عددَ الجامعات في البلدان العربيَّة أصبح يقارب 200 جامعة، خرَّجت ما يزيد على اثني عشر مليون خِرِّيج، منهم حوالى مليونَين من حَمَلة شهادة الدكتوراه و/أو المتخصِّصين في مختلف الفروع العلميَّة والهندسيَّة والتـقـنيَّة22. ومع ذلك، لم يُقدِّم هذا الجيشُ العظيم من الخِرِّيجين إلى الإنسانيَّة أيَّ إنجاز علميّ أو فكريّ خارق23، كما لم يـُـقـدِّم، على الصعيد الوطنّي، أيَّ عمل مُـتميّـِز يُحقـِق إنجازاتٍ عمليَّة يفيدُ منها العربُ على النطاق الإقليميّ أو القُطريّ... وذلك لأنَّ العقل العربيَّ يُعاني من التقليد والثبات وعدم إدراك أبعاد أهمِّـيَّـة الإبداع والتجديد. إنَّ استـيرادَ بعض المناهج الدراسيَّة من الغرب وتطبيقَها في مدارسنا وعلى طَلَبَتِنا يُشكِّلان هما الآخران نمطًا من أنماط التقليد والاتِّباع. إنَّ عقلَنا لم يُدركْ بعد، أنَّ التقليد، مهما كان، سواء تقليد السَّلَف (الأنا) أو تقليد الغرب (الآخر)، يُشكِّل انتهاكًـا لشرف العقل الذي دسناه بأقدامنا، في الوقت الذي نتسابقُ ونتزايد ونتباهى بقتل بناتنا غسلا للعار بمجرد الشبهة لحِفظ شَرفِنا الذي هوى إلى وانطوى، بدون خجل، في عُـذرية بناتنا وحجاب نسائنا، ناسين شرفـَنا الذي يُـنـتَهـَـكُ يوميًّا في فلسطين وفي العراق وفي لبنان وفي جميع أرجاء الأُمَّة العربيَّة، بل شرفنا الذي يُـنـتهَـكُ يوميًّا بفرار الملايين من أبنائنا، نساءً وأطفالاً ورجالاً، من جحيم معظم أجزاء العالَم العربيّ والإسلاميّ، وركوب الأخطار والتعرض للموت، فرارهم إلى ذات الدول التي استعبدتـنا وأذلتنا وانتهكت حرماتنا، طلبا لكسرة الخبز أو فتات الموائد، أو سعيا للحصول على الحرية بأنواعها، وخاصة حرية الفكر والتعبير والنشر والتنظيم والعمل. أو سعيا لمجرد العيش بكرامة دون تهديد أو وعيد.

  • * *


إستعرضنا في هذه الحلقة معانيَ كلمة “العقل” وتعريفاتها في اللُغات العربيَّة والإنكليزيَّة والفرنسيَّة واللاتينيَّة، ثمَّ أتينا على المعنى الاصطلاحيّ لهذه الكلمة المستعمَل في هذا البحث، ثمَّ مـيَّـزنا بين العقل والفِكر، وتساءلنا عن وجود عقلٍ عربيّ مُتميِّز يتَّصلُ بالبيئة العربيَّة وبالتاريخ العربيّ–الإسلاميّ. وتحدَّـثـنا عن العقل العربيّ السجين في زنزانة القَهر الاجتماعيّ والسياسيّ، فضلاً عن التخلُّف والـتـبَعيَّة. ثمَّ انـتـقـلنا إلى صَدمة العقل العربيّ منذ حملة نابُليون على مصر في عام 1798، مرورًا بهزائم العرب أمام إسرائيل، ووصولاً إلى عواصف الصحراء التي أسفرت عن نكوص العقل العربيّ ولجوئه إلى الماضي والسَّلَف الصالح تعويضًا له عن فـشَـلِه وعن واقعِه المُرّ.
وسنُفصِّل في الحلقة القادمة مفهومَ “العقل المُجتمعِيّ اللاشعوريّ” الذي يتحكَّم في “العقل الفرديّ” للإنسان العاديّ، من حيث لا يدري، ويفرض عليه مفاهـيمَه وقـِـيـَمَه التي تمخَّضت عن السَّيرورة التاريخيَّة لذلك المجتمع. ثمَّ نُحاول تبيانَ أهمِّيـَّة استخدام “العقل الفاعل” في تخفـيف “سلطة العـقل المُجتَمَعيّ المطلقة”، من خلال استعراض "نظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعِل"، وذلك استكمالاً لتحـقـيق النَّهج التـنظـيريّ الذي يمكنُ من خلاله النظرُ في تحرير العقل العربيّ، وبالتالي تحرير الإنسان العربيّ.

المراجع والحواشي[عدل]

1. جميل صليبا، “المُعجَمُ الفلسفيّ” (بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1973)، ج 2، ص 84.
2. انظرRaphael Patai, The Arab Mind (New York: Charles Scribner's Sons, 1986) :
3.Paul Edwards, Editor, The Encyclopedia of Philosophy (New York: Macmillan Publishing, 1967), Vols. V & VI, p. 337.
4. مراد وهبة، “المعُجم الفلسفيّ” (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998)، ص 457.
5.A. Lalande, Vocabulaire Technique et Critique de la Philosophie, (Paris: Presses Universitaires de France, 6ème éd., 1988), article: “Raison”.
6. جميل صليبا، “المُعجَمُ الفلسفيّ”، المرجع السابق، ص 84 و85.
7. نعترف بأَنَّ هذا تعريفٌ تقريبيّ ناقص. ومع ذلك فإنَّنا لا نميل إلى التعريف “الجامع المانع” كما يُريدُه المناطقة التـقـليديّـُون، بل نُـفـضل التعريفَ المُتحرِّك والمُتطوِّر الذي يتقرَّب من مفهوم المعرَّف باستمرار، بل يُحاول أَن يُقدِّمَ فكرةً موجَزة عن المُعرَّف أحيانًا. لا سيَّما ولأنَّ اللغة تظلُّ تلهثُ وراءَ الفكر، وليس العكس، ولأنَّ الكلامَ سيأتي فيما بعد للإيضاح والتعميق. ومن جهةٍ أُخرى لا يسعُنا، في هذا المقام، الدخول في مُناقشات مفاهيم العقل التي بدأَت من هراقليطس وأنكساغوراس مرورًا بكبار الفلاسفة اليونانيِّين والعرَب، وانتهاءً بديكارت وسبينوزا وكانط وهيغِل وغيرهم من الفلاسفة المُحدَثـيـن.
8. أُحيل القارئ إلى المراجع المذكورة أعلاه للاستزادة، فضلاً عن The Cambridge Dictionary of Philosophy.
9. محمَّد عابد الجابريّ، “نقدُ العقل العربيّ: تكوين العقل العربيّ” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 5)، الجزء الأوَّل، ص 11.
10. المرجع السابق، ص 11 و12.
11. المرجع السابق، ص 24.
ملاحظة هامَّة: سنتحاشى الَخوضَ في خضمِّ النقد المكثَّف الذي يضطلع به المفكِّرُ الكبير جورج طرابيشي لأعمال محمَّد عابد الجابريّ، وخاصّةً ‘‘تكوين العقل العربيّ”. ومع أنَّنا قطعنا شوطًا كبيرًا في الاطِّلاع على ذلك النقد ودراسته، إلاَّ أنَّ ذلك لا يُخوِّلُنا تقديمَ أيِّ رأي سريع، أو بالأحرى مُبتسَر فيه، خاصَّةً أنَّ كِلا المفكِّرَين عزيز على نفس كاتِب هذه السطور وفكرِه. فقد أتحفني الطرابيشي من خلال كتابه الهامّ “المثقَّفون العرب والتراث” بحصيلةٍ ممتازة من الأفكار والمعلومات التي رجعتُ إليها في كثير من كتاباتي؛ بل اقتبستُ منه بعض العبارات نصًّا، وأشرتُ إليه في كثير من المناسبات. كما أوحى إليَّ الجابريّ بثروةٍ عظيمة من الأفكار التي لا أزال أعتزُّ بها. على أنَّ مقولةَ الجابريّ هذه التي اقتبسنا منها ما اقتبسنا في المَتن، لم يتعرَّض، على حدِّ علمنا حتَّى الآن، لها الطرابيشي الذي صرفَ ما لا يقلُّ عن عقدٍ من حياته لنَقد الجابريّ، فأخرج لنا مؤلَّفَين مهمَّين يحتويان على ثروة هائلة من الأفكار والمعلومات والمراجع الشديدة الأهمِّـيَّة لكلِّ باحث. انظر “نقد نقد العقل العربيّ، نظريَّة العقل”، و“نقد نقد العقل العربيّ، إشكاليَّات العقل العربيّ”، (بيروت/لندن: دار السافي، 1996، و 1998).
12. جورج طرابيشي، “نقد نقد العقل العربيّ، نظريّة العقل” (بيروت/لندن: دار الساقي، 1996)، ص 57.
13. علاء الأعرجي، “على هامش نظريَّة العقل: اللاشعور المَعرِفيّ للفرد والمجتمع”، دراسة نُشِرت في ثلاث حلقات تحت عناوين فرعيَّة: “فشلَت نهضتُنا لأنَّنا أهملنا استخدامَ عقلنا الفاعل”، و“العقل التاريخيّ عند العرب يكاد يكون مفقودًا” و“نظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعِل وتأثيرها عربياًّ” (انظر صحيفة “القدس العربيّ” لندن في 16 و 17 و 18 حزيران/يونيه 1997).
14. حاولنا مثلاً في الدراسة المُشار إليها سابقًا (في المرجع 13) أن نعملَ على توظيف وتَبيئة التعبير الذي استخدمَه بياجيه Piaget ، نقلاً عن الجابريّ، وهو “L’inconscient cognitif” ، في وضع فرضيَّة “العقل المُجتمعيّ اللاشعوريّ ” (انظر J. Piaget: Problèmes de psychologie génétique, Paris, Deuvêl Gonthier, 19722)، حيث توسَّعنا فيها إلى الحدِّ الذي خرجَت عن مفهومها الأساسيّ وتجاوزَته بل استقلَّت عنه؛ علمًا بأنـَنا على اطِّلاعٍ كافٍ على النقد الذي وجَّهه جورج طرابيشي إلى محمَّد عابد الجابريّ، لدى استخدامه هذا التعبير ومُحتواه المفاهيميّ، الذي لا نرى أنَّه يـُـؤَثـِر على الفرضيَّـة التي توصلناا إليها بشأن “العقل المُجتمَعيّ اللاشعوريّ”. انظر الجابريّ، “ تكوين العقل العربيّ”، المرجع السابق، ص40؛ كذلك، طرابيشي، “إشكاليَّـات العقل العربيّ” (بيروت/لندن: دار السافي)، ص 294 وما بعدها.
15. في سياق تسلُّط القِيَم البدويَّة أنظر الهادي شقرون، "نقد العقلية العربية"(تونس: التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، 1985)، و علي الوردي،"دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"(بغداد: مطبعة العاني،1965). كذلك نشرنا عدة أبحاث ودراسات، أنظر الحاشية 21في الفصل الثاني.
16. وفي هذا السياق الذي ينتسب إلى إشكاليَّة السلطة الأبويَّة، انظر كـتـبَ هشام شرابي، وخاصَّة “النقد الحضاريّ للمجتمع العربيّ في نهاية القرن العشرين”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1990)، و“النظام الأبَويّ وإشكاليَّة تخلُّف المجتمع العربيّ” (نفس الناشر، 1993).
17. أنظر الفصل الأول.
18. فصّلنا ذلك في بحث أشرنا فيه إلى خطورة زيادة سعَة هذه الفجوة التي تفصلُنا عن الحضارة الغربيَّة. ففي الوقت الذي قد نتـقدم فيه خـطوات قليلة، يتـقـدمُ العالَمُ الغربيُّ فراسخ عظيمة؛ فالمسافة التي كانت تفصلنا عنه قد تضاعفت عدَّة مرَّات منذ نهاية الحرب العالميَّـة الثـانية، وبعد استقلال البلدان العربيَّة، مِمَّا أسفر عن استعادة النفوذ والاستغلال والسيطرة، على نحوٍ أشدَّ وأدهى وأسهل. وتعتـَبرُ “العَولمة” (أو النظام العالَميّ الجديد) أَحد مظاهر ذلك النفوذ. (انظر “على هامش مشروع المؤسَّسة الموسوعيَّة في المهجر؛ واقعيَّة تخـلـفنا”، لندن: صحيفة القُدس العربيّ، 1/8/1996.)
19. محمد عابد الجابريّ، “نقد العقل العربي" ، الجزء الأوَّل، “تكوين العقل العربيّ”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، جماعة الدراسات العربيَّة والتاريخ والمجتمع، ط 5، 1991)، ص 38 و 39.
20. علاء الأعرجيّ، “على هامش مشروع المؤسَّسة الموسوعيَّة، في سبيل إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ”، (لندن: القُدس العربيّ، 29 و30 آذار/مارس 1997). عالجنا في هذا البحث أهمِّيـَّة إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ، تحقيقًا للبند الرابع عشَر من ورقة العمل الخاصَّة بمشروع الموسوعة العربيَّة الشاملة، التي شدَّدَت على هذه النقطة، لأنَّ التاريخ العربيَّ الإسلاميَّ لم يُكتَب بعد. فأمَّا ما كُتِبَ عنه حتَّى الآن، فإنَّه إمَّا وردَ بأقلام المُستشرفين الأجانب، أو بأقلام العرب المسلمين، وفي كِلتا الحالتَين فإنَّ هذه الكتابات كانت ولا تزال مُتأثِّرة إمَّا بنزعة “الآخَر” أو بنزعة “الأنا”، مِمَّا لم يُسفِر، في معظم الأحيان، عن مُعالجة الوقائع التاريخيَّة وتحليلها بموضوعيَّة علميَّة صارمة، وإصرارٍ على اكتناه أبعد الأعماق، وعلى الإدراك المتعدِّد الأبعاد، للمُكوِّنات المحتَمَلة لكلِّ قضيَّة.
21. النص مقتبس من بحث منشور تحت عنوان "على هامش نظريَّة العقل: اللاشعور المعرِفيّ للفرد والمجتمع" (المرجع السابق المذكور في الحاشية 13 أعلاه).
22.أنطون زحلان، “العرب وتحدِّياتُ العلم والتِّقانة: تقدُّم من دون تغيير” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1999)، ص 28.
23. إنَّ نَيل العالِم العربيّ المصريّ، أحمد زُوَيل، جائزة نوبل في الكيمياء، ما كان أن يَتمَّ لو ظلَّ هذا العالِم عاملاً في الجامعات العربية.

الفصل الرابع: تحرير العقل العربيّ لتحرير الإنسان العربي(2)[عدل]

مدخل إلى نظرية العقل المجتمعي ونظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل[عدل]

أشرنا في الفصل السابق إلى تعريفات العقل وخلصنا إلى تعريفه بقدر ما يتعلَّق بهذه الدراسة، باعتباره تلك المَلكة التي يُمكنُ للفرد أن يقومَ من خلالها بالحُكم على الأمور، أو تلك "الأداة" الفكريَّة التي يستخدمها المرءُ للحُكم والتمييز بين الأُمور، وتقويمها، من حيثُ خيرُها وشرُّها، وحسنـُـها وقبحُها، وصحَّـتـُها وخطأها... وتتكوَّن هذه الأداة تدريجيًّا لدى الفرد، منذ ولادته، وتظلُّ تنمو معه، أو تتضاءلُ حتَّى وفاته. وتـتـشكـَّلُ من عنصرَين أساسيَّين هما الوراثة Genetics ، والبيئة أو المحيط Environment ؛ ويدخلُ في العُنصر الأخير كلُّ ما يتلقَّاه الإنسانُ من مُؤثِّرات خارجيَّة، منذ لحظة ولادته، بما فيها تربيتـُه العائليَّة والمدرسيَّة وعلاقاتُه الاجتماعيَّة والمفاهيمُ والقِيَمُ المُجتَمعيَّة إلخ.
أمَّا الوراثة فنقصدُ بها الخصائصَ المَوروثة من الآباء والأجداد (إلى نهاية غير معروفة) التي تحملُها الصَّبغيَّاتُ الوراثـيـَّة (الكروموسومات) بما فيها من جينات تنطوي على برامجَ مُحدَّدة من الـ"دي.أن.أي" تُشكِّل اللُّغة الإحيائيَّة التي تتحدَّدُ بها خصائصُ كلِّ كائنٍ حَيِّ. 1
إنَّ هذا التفاعُلَ المُعقَّد الذي يجري بين هذين العنصرَين الأساسيَّين (العوامل الوراث
 

أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: الحــــــــــــــــــداثـــة-
انتقل الى: