حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 نهج الإلحاد (2)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
متاحة
ثـــــــــــــــائر محــــرض
ثـــــــــــــــائر محــــرض
متاحة


الجنس : انثى
عدد المساهمات : 330
معدل التفوق : 924
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 27/02/2012

نهج الإلحاد (2) Empty
30122013
مُساهمةنهج الإلحاد (2)

نهج الإلحاد (2) Arton8712-9e3dc


1-. سلطة الإجماع والفطرة
المؤمنون يتعلّلون بأنّ الاعتقاد في الإله له مُبرّرات دامغة لأن كل الشعوب مُجمِعة على هذه الحقيقة، ولا يمكن أن يجتمع الأكثرية على خطإ. لقد رأينا في الجزء الأول من المقال كيف يزعم أحد الكتاب المسيحيين أن هذا الاعتقاد جبلّة في الإنسان، وأن الملحدين منحرفون، وعلى كل حال فهم قلة لا يحسب لها حساب. أغلب المسلمين أيضا يعتبرون معرفة الله أمرا بديهيا مغروسا في طبيعة الإنسان، ولقد عبّر ابن تيمية عن هذا الرأي في قوله إن «جمهور العقلاء مطمئنون إلى الإقرار بالله تعالى، وهم مفطورون على ذلك. ولهذا إذا ذُكر لأحدهم اسمه تعالى، وجد نفسه ذاكرةً له مقبلة عليه، كما إذا ذُكر له ما هو معروف عنده من المخلوقات(1)». ولا أحد يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة الثابتة إلاّ إذا كان سفسطائيا ناكرا لبداهة الفطرة الإنسانية. ولذلك فإن معرفة الله «في الفطرة أثبت وأقوى، إذ كان وجود العبد ملزم وجوده، وحاجاته معلّقة به تعالى(2)». لكن هناك اعتراضات جدّية تمسّ سلطة الأغلبية وتقوّض التعويل على الفطرة في مسألة لاهوتية بهذه الدقة واللطافة.


وفي داخل العالم الإسلامي هناك من أنكر هذه الإمكانية، كما ذكر الرازي، إذ أن علماء الكلام «أطبقوا على أنه ليس من كل ما يحكم به جمهور الخلق بحسب ما لهم من الفطرة الأصلية والغريزة السليمة، وجب أن يكون ذلك الحكم حقا(3)». فالكثرة، يقول القاضي عبد الجبار «ليست من أمارات الحق، ولا القلة من علامات الباطل(4)». بل إن هناك أدلة من القرآن تذمّ الأكثريّة مثل "وأكثرهم للحق كرهون"؛ "وأكثرهم لا يعلمون"، وتمدح الأقلية "وقليل ما هم"؛ "وما آمن معه إلاّ قليل"؛ "وقليل من عبادي الشكور". يعني أن الأغلبية لا تدل على حقيقة الشيء، كما أن الأقلية ليست مجانبة للصواب. وقد سأل أحدهم عليّا بن أبي طالب: أترى أن أهل الشام مع كثرتهم على الباطل وأهل العراق مع قلتهم على الحقّ؟ فقال له: إنه لملبوس عليك، الحقّ لا يُعرَف بالرجال، وإنما الرجال يُعرفون بالحق. اعرف الحق تعرف أهله قلّوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلّوا أم كثروا.


القاضي عبد الجبار يستشهد بقولة لابن مسعود جاء فيها إن «الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كان واحدا(5)». وبعد، يعترض القاضي، إذا نظرنا إلى السواد الأعظم من الناس، الذي هو "الخلق الكثير" فإننا نجد فيه مذاهب وفرق متباينة تناقض إحداها الأخرى، السؤال هو «كيف يصح، ومذاهبهم متضادة، أن يتبعهم؟(6)» ولمَ صار اتباع المشبّهة والحشوية أولى من اتباع المعطلة؟ أليست هذه الطريقة، هي طريقة «من يدين بالتقليد، ويتبع من يعظّمه من رؤسائه، ولا فرقة إلاّ ولها رؤوس، ومعلوم أن الكثير قد يقع منهم الخطأ، ومن القليل الصواب(7)». والدليل الأقوى على ذلك أن الذين استجابوا للأنبياء هم قلة بالإضافة إلى من فارقهم. هناك أيضا مثال عملي يبيّن أن الكثرة ليست هي الحكم الفصل، وهو أن أحدنا إذا أصيب بعلّة في جسده مثلا فهو لا يركن إلى رأي أي انسان اتفق بل يرجع إلى المحقق المختص: «لو دُفع أحدكم إلى نفع وضرر له في دنياه، لكان لا يتبع إلاّ أهل البصر والأمانة وإن قلّوا دون الكثرة، فكيف يسوغ لكم اتباع الكثرة الذين إذا اتبعناهم وجدناهم منهمكين في طريق الجهالة(8)». القرآن نفسه جعل الحكم في الدين، هكذا يقول القاضي، لمن تفقه لا للكثرة، وقال فاسألوا أهل الذكر ولم يقل فاسألوا الكثرة(9).


إن اعتراضات القاضي عبد الجبار والرازي وجمهرة من علماء الكلام المسلمين ضد حجة الإجماع، لها ما يوازيها عند مفكرين غربيين مثل بيار بايل، الذي جابه هو نفسه هذه المسألة وأجاب نافيا أن يكون اجماع الأكثرية هو منهج صحيح للتقرير في مسائل الدين. التعلل بإجماع الأغلبية والزعم بأن حكمها في العديد من المسائل له الأسبقية، مثل الأعمال الفنية والشعر والرسم والبلاغة، فهذا وإن كان صحيحا، فهو لا يمتدّ لكي يشمل مسائل دينية لاهوتية دقيقة. صحيح أنها أمارة كمال وحذق في الأعمال الفنية، حينما تنال إعجاب الجميع، العامة والمختصين. إن قصيدة شعرية، يقول بايل « نالت إعجاب أكبر حذاق الشعراء، وليس الجمهور، لا تساوي قصيدة نالت إعجاب الجمهور وأكبر حذاق الشعراء معا. يجب أن ينقصها لا أدري ماذا، نظرا إلى أنها لا تنفذ أبدا إلى العمق مثل الأخرى، ولا تستطيع أن تشعّ في أغوار النفوس الأكثر انسدادا(10)»

. ما يُقال في الشعر يمكن أن يقال أيضا بشأن نص أدبي ولوحة فنيّة وتمثال. لكن إذا أريد اقناعنا بأن عملا من هذه الأعمال قوبل بإعجاب من طرف الجمهور كافة، وقوبل بإحتقار من عدد قليل من المختصين، هو أكمل من عمل نال إعجاب العدد القليل من العارفين، والإحتقار من طرف الجمهور، فهذا من الصعب التسليم به. نفترض، يقول بيار بايل، شيئين أو ثلاثة 1) أن نجمّع كل سكان مدينة لكي نعلم رأيهم بشأن لوحة نريد اقتناءها. 2) أن عددهم ثلاثة آلاف، وبينهم عشرون من الرسامين. 3) وأن هذه اللوحة بدت رديئة لهؤلاء العشرين وجميلة للآخرين «أنا ـ يقول صاحب هذا الإفتراض ـ سوف أعوّل أكثر على حكم هؤلاء الأشخاص العشرين بدلا من حكم 2980 الآخرين، وأنا متيقّن أنكم تعتقدون أنني أشبه في هذا الأدمغة الأكثر حصافة(11)».

هذا لا يعني احتقار العامة أو اخراجها من الانسانية العاقلة، فالناس الذين هم ليسوا برسّامين ولا عرّيفين، يمكنهم رغم ذلك أن يتفطّنوا إلى نقائص غابت عن المبدع. لكن صلوحيات الأغلبية لها حدود، ذلك أن في مسائل دقيقة ووعرة مثل التعاليم اللاهوتية والاعتبارات الفلسفية ليس للجمهور فيها باع، والرأي الصواب أو الحكم الفصل لا يعود إليها: في كل هذه التعاليم يبدو أن إجماع عدد قليل من الناس أفنوا عمرهم في دراستها والفحص والتدقيق فيها، هو أكثر وزنا من أغلبية ساحقة من الناس لم يقرؤوا شيئا في حياتهم ولم يتأمّلوا أبدا، ولم يفحصوا في شيء، ويكتفون بالإنقياد لخيالاتهم وأحكامهم المسبقة. إن مسألة وجود الله، يقول بايل، « تنتمِي في نفس الوقت إلى الدين وإلى جليل الفلسفة، وانظروا بعد هذا هل أن الجمهور هو في وضعيّة تخوّل له الحكم(12)».

ولا يمكن أيضا أن نُسْلِم في أيدي الأغلبية مسائل متعلّقة بعلم الفلك أو الرياضيات أو الفيزياء. إن السيد كاسّيني (Cassini) يقول بايل، هو لوحده أكثر مصداقية من مائة ألف شخص لا يعرفون لا آ ولا بآ. وكوبرنيك الذي انتصرت نظريته في حركة الكواب، ألم تقف ضدّه، بمفرده، كل المدارس وكل الشعوب؟ الإشكالية هي أن حجة أصحاب الفطرة والإجماع تعتمد على واقع عيني هم ، أنفسهم، مطالبون، قبل خصومهم، بسبره واستنفاذه بالكامل. اعطوني خريطة جغرافية، يعترض بايل، وانظروا كم بقيت من الأراضي التي لم تُكتشف بعد، ومن الشعوب في عمق الأدغال التي لا نعلم أديانها ولا تصوراتها عن الإله. وحتى إن استطعنا تجاوز هذه المعضلة، ماذا نقول في الشعوب التي حدّث عنها المؤرخون القدامى والفلاسفة والشعراء (سترابون، ثيوفراسطس، هوميروس) أو الرحالة المحدثون الذين اكتشفوا شعوبا لا تعترف بأي إله، ولا تدين بأي دين، وليست لها معابد، ولا أضرحة، ولا أضاحي، ولا رجال دين؟(13).


ثم إنه لكي يحوز الاستدلال بالإجماع على شيء من الإقناع ينبغي معرفة هل أن الديانة الوضعية المعتنقة عند شعب ما، بعد أن كان بلا ديانة أو كانت له واحدة وتخلى عنها، اعتنقها دون تحقيق ونظر أو عن طريق فحص صارم وعميق؟ إذ أن تلك الديانة لو تم اعتناقها عن طريق اتباع أعمى أو بإملاء من حاكم متسلّط أو عن طريق الغزو والحرب، فإن اعتناقها من طرف أغلبية الأشخاص منذ ذلك الوقت، لا يفيد في شيء للبرهنة على حقيقة تعاليم تلك الديانة ولا يُضفي أي مصداقية على إجماع الناس حولها. نحن نعلم أن دينا ما، مهما كانت درجة لاعقلانيته، يمر من الآباء إلى الأبناء دون عائق، ويتم إيصاله عن طريق التقليد إلى الأجيال اللاحقة بكلّ يُسر. ولتفادي هذا المأزق أنكر المعتزلة أن تكون معرفة الله ضرورية نابعة من الفطرة المستقرة في طبيعة الإنسان، وذهبوا إلى القول بوجوب النظر والاستدلال للبرهنة على وجوده. إن العلم بوجود الله هو علم اكتسابي، يقول القاضي عبد الجبار، فهو «يقع بحسب نظرنا على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة، فيجب أن يكون متولّدا عن نظرنا، وإذا كان كذلك فالنظر من فعلنا فيجب أن تكون المعرفة من فعلنا … وإذا كان من فعلنا لم يجز أن يكون ضروريا، لأن الضروري هو ما يحصل فينا لا من قِبلنا(14)». هناك دليل آخر يسوقه القاضي ليثبت أن العلم بالله ليس غريزة فطرية في الإنسان، وهو أنه لو كان كذلك لما «اختلف العقلاء فيه كما سائر الضروريات من سواد الليل وبياض النهار، ومعلوم أنهم مختلفون فيه، فمنهم من أثبته ومنهم من نفاه (15)».


ثم إنه لو كان ضروريا فطريا لما استطاع أي أحد أن ينفي عن نفسه إمكانية العلم بوجود الله بسبب شكّ أو لأجل شبهة طرأت عليه. لكن واقع الحال يُبيّن عكس ذلك، إذ أن هذا النفي للإله موجود حتى في صلب الحضارة الإسلامية، كما يقرّ القاضي عبد الجبار حيث أنك «تجد كثيرا ممن برز في الإسلام واشتهر به قد ارتدّ وكفر ونفى عن نفسه العلم بالله، كابن الراوندي وأبي عيسى الوراق(16)».


هناك حجة أخرى يسوقها القاضي، ضد من يقول بأن معرفة الإله تأتي عن طريق تقليد الأغلبية، ذلك أن التقليد لم يكن يوما بابا لطلب اليقين، وهو من النقص بحيث أن القاضي لم يعره اهتماما كبيرا. قال «التقليد هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجة وبيّنة حتى يجعله كالقلادة في عنقه، وما هذا حاله لا يجوز أن يكون طريقا للعلم. ولهذا لم نذكره في الطرق المذكورة(17)». السبب في أن التقليد لا يولد أية معرفة، وغير قابل للتصنيف في باب مناهج اكتساب العلوم، هو أن المقلد، يقول القاضي، «لا يخلو إما أن يقلّد أرباب المذاهب جملة، أو لا يقلّد واحدا منهم إذ لا معنى لتقليد بعضهم دون بعض، لفقد المزية والإختصاص: لا يجوز أن يقلد أرباب المذاهب جملة لأنه يؤدي إلى اجتماع الإعتقادات المتضادات، فلم يبق إلا أن لا يقلّد واحدا منهم ويعتمد على النظر والاستدلال(18)».


إن وجوب النظر يتقدّم على الشرع، إذ أننا إذا قدمنا الشرع لزم إفحام الأنبياء وتعجيزهم عن إثبات نبوّتهم في مقام المناظرة «إذ يقول المكلف ـ حين يأمره النبي بالنظر في معجزته، وفي جميع ما تتوقف عليه نبوته من ثبوت الصانع وصفاته ليُظهر له صدق دعواه ـ لا أنظر ما لم يجب النظر عليّ، فإنّ ما ليس بواجب عليَّ لا أَقدِم عليه. ولا يجب النظر عليّ ما لم يثبت الشرع عندي، إذ المفروض أن لا وجوب إلاّ به. ولا يثبت الشرع عندي ما لم أنظر، لأن ثبوته نظريّ، فيتوقف كل واحد من وجوب النظر وثبوت الشرع على الآخر، وهو محال. ويكون هذا كلاما حقا لا قدرة للنبي على دفعه، وهو معنى إفحامه(19)». إلاّ أن خصوم المعتزلة يردون بأن المسلمين مجمعون ليس على وجوب المعرفة النظرية، بل على عدمها: «وذلك لتقرير النبي والصحابة وأهل سائر الأعصار ـ إلى عصرنا هذا ـ العوام على إيمانهم، وهم الأكثرون في كل عصر مع عدم الاستفسار على الدلائل الدالة على الصانع وصفاته، بل مع العلم بأنهم لا يعلمونها قطعا، إذ غاية مجهودهم الإقرار باللسان والتقليد المحض الذي لا يقين معه. ولو كانت المعرفة واجبة لما جاز ذلك التقرير والحكم بإيمانهم(20)».


أهل الإيمان الصرف يتعللون بأن النظر في معرفة الله وصفاته وأفعاله والعقائد الدينية والمسائل الكلامية هي «بدعة في الدين، إذ لم ينقل عن النبي والصحابة الاشتغال به، أي بالنظر فيه، ذكر. ولو كانوا قد اشتغلوا به، لنقل إلينا لتوفر الدواعي على نقله، كما نقل اشتغالهم بالمسائل الفقهية على اختلاف أصنافها(21)». وما يثبت ذلك هو أن النبي نهى عن الجدل في الدين، وقال «عليكم بدين العجائز، ولا شك أن دينهم بطريق التقليد، ومجرّد الإعتقاد، إذ لا قدرة لهنّ على النظر(22)».


2- التأرجح بين اليقين والريبية
ضد اليقين الفطري من وجود الله الذي يزعمه ابن تيمية، وخلافا لكل من يدّعي معرفة أفعال الإله وصفاته وأوامره ونواهيه، يورد الرازي أقوالا مناقضة، تبيّن على العكس من ذلك ألاّ هناك يقين البتة، وأن الإنسان قاصر على معرفة ما هو أظهر وأقرب له، فما بالك بما هو أبعد وأغمض: «إن أظهر المعلومات لجميع العقلاء هو علم الإنسان بذاته المخصوصة ومعرفته بنفسه المخصوصة، ثم هذا العلم، مع أنه أظهر العلوم وأجلى المعارف، قد بلغ في الصعوبة والخفاء إلى حيث عجزت العقول عن الوصول إليه. وإذا كان الحال في أظهر المعلومات كذلك، فالحال في أبعد الأشياء عن مناسبة الأمور المعلومة للخلق كيف يكون؟(23)».


نحن لا نعلم شيئا عن الإله، فالعقول، يقول الرازي عجزت عن إدراكه «وضعفت الأوهام والأفهام عن الوصول إلى ميادين إشراق كبريائه، وإليه الإشارة بقول صاحب الشريعة: "إن لله سبعين حجابا من نور، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما في السماوات والأرض". وكان بعض الصالحين يقول: "سبحان من احتجب عن العقول بشدّة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره"». وإذا عرفت هذا، يواصل الرازي، فإن العقل يصبح «عاجزا عن إدراكه وعرفانه(24)». أما إذا ما اجتهد علماء الكلام لإثبات وجوده واقتنعوا أخيرا بأن استدلالاتهم مصيبة، فإنهم يبقون في عماء تام من حيث معرفة كنهه وذاته على الحقيقة. فكل ما نعلمه على الله، هو «الوجود والسلوب والإضافات(25)»، كما يقول الرازي. والعلم بهذه الأمور لا يقتضي العلم بالحقيقة المخصوصة للإله. وهناك العديد من الأمثلة العينية تثبت عدم حصول تلك المعرفة، وتبيّن أن الإنسان يعلم إجمالا إلاّ ظاهر الشيء، ولكنه غير قادر على معرفة الشيء في ذاته: «لمّا شاهدنا أثر المغناطيس قلنا: إن له حقيقة مخصوصة مميزة عن سائر الحقائق. فأما أن نعلم تلك الحقيقة بعينها، فهذا غير حاصل». ولا يمكن أيضا أن يكون لنا تصديق بماهية الإله لأننا لا نملك عنه أي تصوّر وذلك لأنه «لا يمكننا أن نتصوّر حقيقة إلاّ إذا أدركناها من أنفسنا إدراكا ضروريا، كالعلم بالألم واللذة والفرح والغم والغضب، وأدركناها بإحدى الحواس الخمس». لكن الماهية لا ندركها بأي من هذه الحواس وبالتالي فهي «غير متصوّرة».


النتيجة هي أن «حقيقة الله وكنه ماهيته غير مدركة بأحد هذين الطريقين، فوجب أن لا تكون متصوّرة عند العقول(26)». لا بل يجب القطع، يقول الرازي بأن الله «من حيث إنه هو، غير معلوم للبشر». ويذكر الرازي حجة لمن أنكروا معرفة الله هي «أنه غير متناه، والعقل متناه، وإدراك غير المتناهي بالمتناهي محال(27)». النتيجة هي أننا في غاية الجهل بخصوص جوهر الألوهية؛ لا يمكن أن نعوّل على عقولنا للإحاطة بهذا السر العظيم ومعرفة كنهه. وهنا يسرّح الرازي طاقته الخطابية لكي يعبّر عن هذه الفكرة قائلا: «إن العقول مدفوعة، والأفكار مقهورة والخواطر مزجورة، وحقيقة الحق لا يمكن الوصول إليها بخطرات العقول والأفكار، وكبرياء الألوهية يمتنع الوقوف عليها بأجنحة الأقيسة والأنظار. فظهر أنه لا حاصل عند العقول إلاّ الإقرار بإثبات الكمال المطلق له، وتنزيه النقائص بأسرها عنه، على سبيل الإجمال، أما سبيل التفصيل فذاك ليس من شأن القوة العقلية البشرية(28)».


إن هذه الأطروحة الريبية من عدم معرفة سر الإله في ذاته، وأن عقولنا قاصرة على ادراك جوهره، نجدها عند متكلّم يهودي متقدم على علماء الكلام المسلمين بألف سنة تقريبا وهو فيلون الإسكندراني (20 ق. م، 50 م) الذي زعم ليس فقط عدم معرفة ذات الإله، بل حتى معرفة اسمه والنطق به. إن الله يقول فيلون، لم يقل لنا "انظروا إليّ"، لأنه من المحال أن يُدرَك الإله المتعالي من طرف كائن متحوّل مثل الإنسان، بل قال "انظروا إنني موجود". ذلك أن «إجهاد النفس بالذهاب أبعد، للفحص عن ماهية أو صفات الله، هو هراء بدائيين … هو في ذاته يبقى غير معلوم (ακαταληπτος)(29)». فيلون يشبه الإله بالشمس التي تشع نورها والتي تعمي بصر الإنسان وتحول دونه ودون إدراكها. لا نعرف عن هذه القوة إلاّ ما هو متاح لنا ومناسب لقصر عقولنا، يعني عظمتها وحكمتها. الموجود الحق (Ο ων) لا يمكن أن نتلفظ حتى باسمه، بل لا نعرف على وجه الحقيقة حتى مسمّاه. الله هو لا منطوق ولا معلوم ولا مفهوم(30). الله هو بلا كيف (αποιος γαρ ο θεος)(31). والكلمة لا يمكن أن تعبّر عنه لأنه « غير ملموس ولا يمكن الوصول إليه إطلاقا، لكنها [الكلمة] تخفق وتهوي، غير قادرة على العثور على عبارات مناسبة لتحديد، لا أقول "من هو"، لا بل حتى قدراته(32)».


إن الكلام الذي أورده الرازي وأقوال فيلون الاسكندراني تدخل الريبة في عقول المؤمنين وتبث القشعريرة في قلوب الذين يعتبرون أنفسهم متيقنين من معرفة الذات الإلهية، ومن ادراك أوامره ونواهيه، وصفاته وأفعاله على الحقيقة. نحن لا نعلم شيئا، الوجود الأسمى يقول فيلون «بما هو الوجود، لا ينتمي إلى النسبي: فعلا فهو بذاته مملوء من ذاته ومكتفٍ بذاته، هكذا كان قبل خلق العالم، هكذا يبقى، دون تحوّل، بعد الخلق. فهو لا يتغيّر، لا يتبدّل، وغير مُفتقر لأي شيء، وهو بالتالي مالك كل شيء ولا شيء يملكه(33)». وهذه كلها سلوبات كما قال الرازي، ولا يمكن أن تفيد أي علم يقيني.


ها قد عاد أهل الأديان، من حيث لا يحتسبون، إلى الموقف الريبي للفيلسوف سيمونيد. لقد أجبرتهم المعضلات الكبرى التي تتحدّى لاهوتهم والاعتراضات العقلانية التي زعزعت وثوقهم من إمكانية التيقن من الإله ومعرفة ذاته إلى التحلي نسبيا بشيء من التواضع والإقرار بالعجز. البعض منهم وصل به الحدّ إلى التخلّي عن وثوقية مؤمني ملّته، ومباركة تواضع فيلسوف "وثني" كسيمونيد، بل واعتباره تصرّفا تقيا وجديرا بالاحترام.

وبخصوص سيمونيد وانبرائه بالصمت أمام سؤال هيرون فإن أحد الكتاب المسيحيين عارض ترتليانوس، وقال إن تصرف الفيلسوف هو حصيف وصائب، بل ينبغي أن يكون مثالا يَحتذي به المفكرون والهراطقة على حدّ سواء: « ما يعزوه ترتليانوس إلى الجهل، فإن آخرين يعزونه إلى التواضع. كم كان من الأجدر بقدماء الفلاسفة والشعراء، ومعهم الهراطقة الذين اتبعوهم، أن يتحلّوا بقدر من الاعتدال الذي تحلى به طاليس وسيمونيد. ما من شك في أنهم، لو فعلوا ذلك، لما أسندوا أبدا إلى الطبيعة الإلهية صفات عبثية، تجديفية وكافرة؛ ولما سقطوا اطلاقا في تلك الأخطاء التي، بألم كبير، نرى كيف سقط فيها، بسبب عدم حصافتهم، رجال صغار (homunculos) ذوي ثقة مفرطة في النفس. كلنا مدفوعون برغبة جامحة إلى المعرفة، وبرغبة أشد إلى معرفة الإله، لذلك من الصواب القول بأن الله يريد أن يُعرف من طرفنا؛ لكن في حدود معينة، ومرسومة في أعمدة كَتَبَ عليها هو نفسه: لا تذهب أبعد. في الإشياء الإلهية هناك بعض المناطق التي أراد الله أن لا نَلِجَها البتة، بحيث إن أحدا إذا اندفع بتهوّره وثقته المفرطة في نفسه كي يغامر أبعد من ذلك، محاولا الدخول في ذاك المحراب، كلّما أراد التوغل أكثر، كلّما أصبحت كثيفة الظلمات التي تلفّه، حتى يعترف، إذا كان قادرا على فهم أي شيء، باستحالة التحقق من عظمة الطبيعة الإلهية، وضعف العقل الإنساني، مُقرّا مع سيمونيد: كلما فكرت مليا، كلما بدت لي القضية أكثر غموضا (34)».

إن من يتحلى بالحصافة والشكّ، وينأى عن الركون إلى يقين أهل الأديان ليس هو صاحب ذهن ضيّق أو سطحي. فانعدام التجربة، كما يقول المؤرخ اليوناني ثوسيديدس، يُولّد التهوّر، والتفكير يجلب الحصافة. الذهنية السطحية هي الأكثر امتلاء بالثقة، والأبعد عن التحلّى بقدر من عدم التيقّن. فالفلاسفة الشكاك يَصِلون إلى فكرة عدم امكانية فهم الألوهية، ليس لانعدام معرفتهم بأي شيء، بل لأنهم يعرفون الأشياء أحسن مما يعرفها أغلبية الناس. ثم ألم ينبر أهل الأديان بالصمت، ألم ينهوا عن الجدل في أسرار الألوهية، والركون إلى الإيمان الأعمى حينما أوصدت أمامهم أبواب التعقل؟ لقد اعترف نيكول، من طائفة بورويال وأحد المنافحين الكبار عن الأسرار، بهذا العجز واتهم كل الذين يرفضون الإعتقاد في ما يتجاوز عقلولهم بأنهم بُوم وأتراك. ودائما بسبب الاعتراضات المحرجة ضد تعاليم إلاهياتهم الوثوقية وضد اليقين التام من وجود الإله ومعرفة ماهيته، عمد أهل الأديان إلى قلب الموازين، محوّلين وجهة التهمة ضد خصومهم، بحيث أصبح الملحدون في أعينهم هم الدوغمائيين والمؤمنون هم الريبيّين.


نحن نسلّم للملحدين، يقول أحد الكتاب المسيحيين، أنه ليس هناك برهان كاف لكي نفسر ما هو الله، وهذا راجع إلى ضعفنا وإلى عظمة الله(35). إن الألوهية هي من العلوّ والغموض بحيث إننا لا نعرف عنها شيئا: لا هل هي قريبة أو هل هي بعيدة. ولذلك فإن ادعاءات الملحدين بالتعبير عنها بأحكام واثقة ومحدّدة هي ادعاءات مغرورة ومتعجرفة. إنهم يناقشون الألوهية، في كل اعتراضاتهم، كما لو أنها شيء محدّد، محصور ويجب ضرورة أن يكون كيت وكيت. يقولون مثلا: لو كان ثمة إله، يجب أن يكون كذا، ولكن هذا لا يصح، إذن […]. ومن جهة أخرى إنه من الانتهاك بمكان التفكير بوجود بعض السبب الكافي والبرهاني، يعطي حجة تبرهن وتُقيم بوضوح وتمّيز ماهية الإله. لكن لا ينبغي علينا أن نعجب من هذا الأمر، بل يجب التعجب من العكس. ليس هناك من ضرورة أن تقدر مبادئ الإنسان وملكات المخلوقات الوصول إلى هذا الحدّ […] إن ماهية الإله هي ما لا يمكن معرفته، لا بل هي ما لا يمكن ادراكه البتة: من المتناهي إلى اللامتناهي ليس هناك تناسب ولا ممرّ . إن أعظم الفلاسفة وأحكم اللاهوتيين لا يعرفون الله أحسن من حرفي متواضع. حيث لا توجد طرق وسبل لا يمكن أن يوجد قرب وبعد.


بقي شيء آخر أود التعريج عليه بعجالة وهو تواصل نكران المؤمنين للملحدين وازدرائهم بهم، بل واعتبارهم قلّة هامشية، لا يُحسب لها حساب. لكن واقع الحال والشهادات التاريخية تبيّن عكس ذلك. نحن نعلم أن في الإغريق وُجد الكثير من هؤلاء الرجال، والبعض منهم حُوكم وطُرد أو قتل، ومن المحتمل أنه لولا قمع السلطة واضطهاد العامة لأظهروا إلحادهم علنا. أفلاطون نفسه اعترف، في الكتاب العاشر من النواميس، بأن العديد من الأثينّين لا يعتقدون في وجود الآلهة وآخرون ينفون العناية الإلهية. الحضارة الرومانية لا تخلو هي أيضا من ملحدين وشكاك وناكرين للعناية، كذلك الأمر في العالم الإسلامي في فترة ازدهاره. لكن هناك من أُرغم بسبب تطّور الأحداث وتفاقمها، على الاعترف بهذه الحقيقة، ففي القرن السابع عشر وبالتحديد في فرنسا، الأب مارسان (Mersenne)، حذر بشدة من تزايد أعداد الملحدين، وقال بأن في باريس وحدها هناك أكثر من خمسين ألف ملحد، وأحيانا هناك عشرة في منزل واحد. ربما هذه مبالغة وتضخيم في العدد، لكن هذا لا يمنع من أنه من وقت لآخر تعلو أصوات المؤمنين للتنبيه على تكاثر الملحدين، أو على الأقل على تزايد عدد الذين ليس لهم أي دين. إن هذا التضارب في الآراء، بين التقليل من عدد الملحدين والاستهجان بهم، وبين المبالغة في عددهم والاستنفار منهم، يبيّن أن المؤمنين لا يركنون إلى رأي واحد، ولا يمكن أن نعوّل عليهم للفحص الجدي في هذه المسألة.
الحقيقة هي أن عدد الملحدين لا يمكن أن يكون كما يصفه رجال الدين ضئيلا أو غير ذي بال؛ هناك من هم ملحدون في الواقع وليس لديهم القدرة على الجهر بإلحادهم والظهور علنا. وهناك من ينتهج نهج اللامبالاة بالدين أو يتصرّف في حياته كما لو أن الله غير موجود، وهؤلاء هم كثرة، خصوصا في بلدان الحرية، وحيث تزدهر العلوم والآداب. هذا الصنف الأخير من الناس لا تنضاف أسماؤهم إلى المدونات الخاصة بالهراطقة، ولا يتركون بصمات دائمة، ولا معالم ظاهرة ومع ذلك فهم موجودون(36).

لكن هناك من الملحدين من حُفظت ذاكرتهم في الكتب، ومرّوا سالمين من عصر إلى عصر. أما الإدعاء بأن المدارس الفكرية والمذاهب المختلفة لم تتبنّ الإلحاد، فهذا أمر فيه شك، بل ربّما التاريخ يدعّم الرأي النقيض. إن انتشار الإلحاد لم يقتصر على أوروبا والعالم الغربي ككل، خصوصا في القرن السابع والثامن عشر، بل إنه استفحل، في نفس تلك الفترة تقريبا، في عقر الامبراطورية العثمانية. ولقد روى المؤرخ والديبلوماسي الإنجليزي ريكو (Ricaut) في كتابه "الحالة الراهنة للإمبراطورية العثمانية"، انتشار هذه الظاهرة في دائرة الوجهاء والعلماء الأتراك آنذاك. وتعجب من وجود عدد كبير من هؤلاء الأشخاص في عاصمة الإمبراطورية العثمانية يعتنقون الإلحاد «وأغلبهم، كما يقول، قضاة وعلماء محققون في كتب العرب. والآخرون هم مسيحيون مرتدّون، واعون في داخليتهم بجريمة الردّة، ويتمنّون أن تنتهي كل الأشياء معهم(37)».


المؤرخ الإنجليزي يعترف بشيء من الامتعاض، وربما الخيبة والجزع، أنه لم يكن يؤمن حتى تلك اللحظة بوجود إلحاد حقيقي في العالم، مقتنعا بأن وجود الله يمكن أن يُبرهَن عليه بالفطرة الطبيعية وبالعقل «لكن هذا الإصرار العنيد ـ يقول الكاتب ـ جعلني أدرك أن هناك أناسا أطفؤوا في قلوبهم، بطريقة مفزعة، هذه الأنوار الساطعة للطبيعة والعقل». ثم يضيف بأن «سمّ هذه التعاليم هو من الرقة، بحيث إنه دخل حتى غرف الباب العالي، في بيوت الحريم والمخنثين، وأصاب بالعدوى الباشوات وكامل حاشيتهم(38)».

هؤلاء الملحدين، يقول الكاتب، صريحون ويتواددون فيما بينهم ويحمون أنفسهم، وهم موقرون وأسخياء «ومستعدون للتضحية بأنفسهم». 3. الملحدون والفضيلة المؤمنون يعتبرون انتصارهم على الملحدين محققا إذا نازعوهم في المجال العملي، أي في مجال الأخلاق. ليس هناك إلاّ ضربين لتصور أن الملحدين يمكنهم أن يكونوا غرباء عن الأخلاق، وملبّسين الفضيلة بالرذيلة: الأولى وهي بما أنهم لا يعتقدون بأن عقلا لامتناهي القداسة لم يأمر بأي شيء ولم يحظر أي شيء على الإنسان، يجب أن يقتنعوا بأن أي فعل في ذاته ليس هو حسن ولا قبيح، وأن ما نسميه خيرا أخلاقيا، أو نقصا أخلاقيا، لا يعتمد إلاّ على آراء الإنسان؛ وبالتالي فإن الفضيلة من طبيعتها ليست أحسن من الرذيلة، ويمكن دون مبالاة أن نرغبها أو ننكرها، أو نبجّلها فقط بحسب ما تمليه علينا أهواؤنا ومصالحنا. الثانية هي أنه في الوقت الذي لا يعتقدون فيه بالعناية، يجب أن يقتنعوا بأنه لا يوجد إطلاقا أي جزاء أخروي وأي عقاب سوى ما يمكن أن يأتي من الإنسان، وبالتالي فإنه لا مبال أن يتشبث أحدهم بالفضيلة عوضا عن الرذيلة. من الممكن أن يفكر بعض الملحدين بهذه الطريقة. ولكن من المحتمل جدا أيضا أن العديد منهم يفكرون بطريقة مغايرة، وأنهم يجدون في الفضيلة صدقا طبيعيا، وفي الرذيلة عدم أمانة طبيعية(39).

ولفهم هذه الأطروحة يجب التذكير بأن الفلاسفة الماديين يرون أن مظاهر الجمال، والانسجام والاطراد والانتظام التي نراها في الكون هي من أفعال الطبيعة اللاواعية، وحتى وإن لم تتبع هذه الطبيعة أيّ نموذج مسبق، فهي على الرغم من ذلك صنعت عددا لا متناهيا من الأنواع التي تحمل كل واحدة منها صفات جوهرية ثابتة، مستقلة بذاتها، وغير تابعة لآرائنا وأهوائنا: « هذا الفارق النوعي ـ يكتب بيار بايل ـ مؤسَّس على الطبيعة ذاتها للأشياء، لكن كيف نعرفها؟ أليس بمقارنة الطبائع الجوهرية لبعض الموجودات مع الطبائع الجوهرية للأخرى؟

إننا إذا عرفنا بنفس الطريقة أن ثمة فارق نوعي بين الكذب والصدق، بين الأمانة والمكر، بين الامتنان والجحود … فيجب علينا أن نكون متيقنين من أن الرذيلة والفضيلة يفترقان نوعيا بطبيعتهما، وباستقلال عن آرائنا. وليس بعسير على الماديّين، بالتالي، اكتشاف أن نفس ضرورة الطبيعة، التي حسب رأيهم وضعت فارقا بين الطبيعة الجوهرية للمحبة والطبيعة الجوهرية للكره، قد أعطت للفضيلة ماهية مختلفة لتلك التي أعطتها للرذيلة. وعلى هذا الأساس فهم قادرون على معرفة أن الرذيلة والفضيلة هما ضربان من الصفات المفترقة نوعيا الواحدة عن الأخرى. هذا في ما يخص الفارق الأنطولوجي، أما الفارق الأخلاقي، يقول بايل، فيمكن استنتاجه من الأطروحة التالية: الملحدون يُضفون على نفس الضرورة الطبيعية إقامة العلاقات التي نراها بين الأشياء، ويُضفون عليها أيضا إرساء قواعد العمليات الذهنية التي نميز بواسطتها هذه العلاقات.

هناك قواعد تفكير مستقلة عن إرادة الإنسان، إذ ليس لأجل أنه راق لشخص ما إقامة قواعد القياس حتى تكون صحيحة وحقيقية: هي كذلك في ذاتها، وكل محاولة للعقل الإنساني ضد ماهيتها ومحمولاتها هي غير مجدية وسخيفة. إن سفسطائيا قد يبرع في بلبلتها أو تشويهها وإخفائها، لكننا نرغمه تحت نير قوانين التفكير إلى الإذعان إلى سلطتها. لا يمكنه أن يرفض الإنصياع إلى هذه المحكمة. وإذا كانت البراهين غير منسجمة مع قواعد القياس، فسيُحكم عليه دون تردّد وسيُعرّض نفسه للسخرية والعار. إذا كان ثمة قواعد ثابتة لعمليات الذهن، هناك أيضا مثيلاتها لأفعال الإرادة. إن قواعد تلك الأفعال ليست كلها اعتباطية: فهي نابعة من ضرورة الطبيعة وتفرض ذاتها على العقول المفكّرة؛ وبما أنه من النقص التفكير ضد قواعد القياس، فمن النقص كذلك إرادة شيء دون التقيّد بقواعد أفعال الإرادة. أعمّ هذه القواعد هي أنه يجب على الإنسان أن يريد ما يتفق مع العقل المستقيم، وكل مرة أراد عكس ما يتفق معه، فهو ينزاح عن واجبه. ليس هناك من حقيقة أكثر وضوحا وتميّزا من القول بأنه من الأجدر بالكائن العاقل الإمتثال للعقل، وأنه من الخزي على الكائن العاقل أن ينزاح عنه. إذن كل إنسان تقيّد بهذا القانون سيعرف بعقله أن برّ الوالدين، واحترام العقود، والوفاء بالوعد، ومساعدة الفقراء، والعطف على الضعفاء، هي أفعال مطابقة للعقل، وسيعرف بالمثل أن أولئك الذين يمارسون هذه الأعمال هم جديرون بالثناء، وأن الذين لا يمارسونها جديرون باللوم. سيدرك إذن أن هناك اخلالا في أعمال هؤلاء وانتظاما في أفعال أولئك، وأن هذا الحكم هو ضروري، نظرا إلى أن التطابق مع العقل لا يقل وجوبا في عمليات الإرادة منه في عمليات الذهن. سيرى أن في الفضيلة هناك أمانة طبيعية محايثة وفي الرذيلة عدم أمانة محايثة ونقيضة، وهكذا فإن الفضيلة والرذيلة هما نوعان من الصفات المختلفة في ما بينها أنطولوجيا وأخلاقيا. بايل يضيف بأنه من السهل معرفة أننا ننسجم مع العقل حينما نبرّ والدينا، حينما نفي بالوعد، حينما نواسي المنكوبين، ونساعد الفقراء، وحينما نشكر للمنعمين(40).

لكن إذا اعترض أحدهم بأن ملحدا مثل ستراتون المشائي لا يمكنه أن يعرف ذلك نظرا إلى أنه لا يعترف كمبدأ لكل الأشياء إلاّ بطبيعة لاواعية ومنزوعة الادراك، هذا الإعتراض يقول بايل «يبرهن زيادة »، يعني يبرهن شيئا فائضا لا يستتبع من هذا المبدأ بالضرورة. فعلا، فهو يبرهن على أن عقلا ملحدا عاجز على معرفة أنه من العيب استعمال قياس بأربعة حدود، وأن كل الناس مجبرون على التفكير الجيد بالامتثال لقواعد المنطق. من الخلف الاعتقاد بأن فيلسوفا أفنى عمره في البحث لا يمكنه أن يصل إلى هذه الحقيقة. الأكيد، حسب بايل، هو أنه «ليس هناك من فيلسوف اعتقد أنه في غنى عن التفكير بحسب قواعد المنطق أو عدم التقيد بها، كلهم عرفوا بوضوح أن قياسا خاطئا أو سفسطة هما عار على من يستعملهما عن قصد أو عن جهل. لقد حكموا إذن أن الطبيعة تفرض على الإنسان واجبا لا محيد منه وهو أن يجري تفكيره على تلك القواعد ويلتزم بقوانينها. لماذا تريدون أن تجعلوهم قاصرين على معرفة أنه من اللازم موافقة أفعال الإرادة مع العقل، أي ممارسة قواعد الأخلاق؟(41)».


إذن يكفي استعمال العقل والحس السليم، لكي يتوصل الإنسان بمفرده إلى التمييز بين الفعل الخير والفعل القبيح، بين الشر والخير، بين الفضيلة والرذيلة. لكن من الواضح أن لاهوت الأديان لا يمكنه أن يوفّر أي ركيزة ثابتة للتمييز الجليّ والنهائي بين حُسن الحَسن وقُبح القبيح، بين خيرية الفعل وشرّه. فكلّ الظواهر الأفعال جائزة أمام إرادة الله التي تفرض طبيعة الأشياء دون ضرورة المحافظة عليها أو التقيّد بها. ولذلك فإن البعض من الفلاسفة حدسوا التقارب الكبير بين تعاليم الدين الأخلاقية والريبية والسفسطائية، بل والميكيافلية حتى. فالإله بالنسبة للمؤمنين له القدرة المطلقة على فعل كل شيء وبمقدوره أن يُغيّر ما كان قد عيّنه قبيحا، حسنا، والعكس بالعكس. وهذا لب المعتقد الذي أجمعت عليه فرق علماء الكلام في الإسلام (باستثناء المعتزلة). ابن حزم، مثلا، يقول إن بعض ما وقع من العباد « قبّحه الله، فهو قبيح، وبعض ذلك حسّنه فهو حسن، وبعض ذلك قبّحه ثم حسّنه. فكان قبيحا ثم حسنا، وبعض ذلك حسّنه ثم قبّحه فكان حسنا ثم قبح، كما صارت الصلاة إلى الكعبة حسنة بعد أن كانت قبيحة، وكذلك جميع أفعال الناس التي خلقها الله فيهم، كالوطء قبل النكاح وبعده، وكسبي من نقض الذمة، وكسائر الشريعة كلها(42)».

وخلافا لرأي المعتزلة الذين يذهبون إلى أن «من فَعَل الكذب فهو كاذب، ومن فَعَل الكفر فهو كافر، ومن فعل الظلم فهو ظالم(43)»، فإن ابن حزم يرفض هذا التمييز ويعتبره غير منطبق على الأشياء في عينها، بل إن الضرورة التي «لا محيد عنها أنه ليس في العالم شيء ممدوح لعينه ولا مذموم لعينه ولا كفر لعينه ولا ظلم لعينه(44)». والنتيجة هي أن كل ما يراه الإنسان ببسيط عقله وبحسّه السليم من أنه قبيح فهو خلاف ذلك في حق الله: «كل ما فعله الله من تكليفه ما لا يُطاق وتعذيبه عليه وخلقه الظلم والكفر في الظالم والكافر، وإقراره كل ذلك، ثم تعذيبهما عليه، وخلقه وغضبه وسخطه إياه، كل ذلك من الله حِكمة وعدل وحق وممن دونه سفه وظلم وباطل، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون(45)». لقد افترقت طرق الإله عن طرق الإنسان ولا ندري ما هو الصحيح منها، ولا نعلم ما يلزمنا من الأفعال على الحقيقة وما لا يلزمنا منها، فالتشبّه بأفعال الله قد يُوقعنا في شناعات خطيرة لأن الله يقول ابن حزم «فَعلَ أفعالا هي منه عدل وحكمة، وهي منّا ظلم وعبث(46)».

الإنسانية المؤمنة إذن لا تملك أي معيار عقلاني شامل ومستقرّ للفصل بين الفضيلة والرذيلة، ولمعرفة الخير والشرّ والسير على هديه، ليس لها إلاّ إرادة الله المتقلّبة والمتغيّرة بحسب المكان والزمان، أما العقل فهو مرفوض مبدئيا لأنه كما قال ابن حزم هو عرض طارئ يمكن أن يكون خلاف ما هو عليه. الملحدون على العكس من هذه الأخلاق العدمية المتقلّبة، يعتقدون بوجود اختلاف نوعي بين الفضيلة والرذيلة، وبالتالي فهم يملكون فكرة الصدق والأمانة، وليس من المستغرب أن يذهب البعض منهم ضحية تلك المبادئ التي اعتقدوها. وهي مبادئ لها قوّة تأثير في أنفسهم أعمق من مفاهيم المصلحة الشخصية واللذة. والأدلة التاريخية لا تبخل علينا بأمثلة من أولئك الرجال الذين ثبتوا على قناعاتهم الأخلاقية مثل برونو، فانيني، وغيرهم الذين عبّروا دون تردّد عن آرائهم دون خشية أن يُنكّل بهم. « إذا أراد (فانيني مثلا "Vannini") البحث فقط عن مصلحته الشخصية لاكتفى بالتمتّع بما توفره له الحياة من رغد العيش في راحة ضميره الخاص، دون أن يكترث بنشر أفكاره والجهر بها وكسب أتباع(47)».

ينبغي إذن أن يكون قد رغب في ذلك إما لكي يصبح زعيم مدرسة فلسفية، أو لتحرير الناس من أغلال تبدو في نظره معيقة للتمتّع بالحياة دون مشاغل. إذا كان يرغب في أن يكون زعيم مدرسة فلسفية، فهذا معناه أنه لا يعتبر ملذات الجسد والجاه والثروات كغايات قصوى للإنسان، ولكنه يطمح للمجد. إما إذا أراد تحرير الناس من الخرافات ومن رعب الجحيم الذي يطوّقهم ويشلّهم دون علة، من الواضح أنه يعتبر من واجبه أن يكون في خدمة القريب ويرى أنه من الصدق والنزاهة بمكان الإنشغال بأمثالنا، وإن أدى ذلك إلى المخاطرة ليس فقط بالسمعة، بل بالحياة ذاتها. فانيني، يقول بايل، لا يمكنه أن يجهل أن ملحدا يبحث فقط عن مصلحته الذاتية، بمقدوره أن يحصل على مبتغاه بسهولة، إذا موّه وراوغ انتهج نهج التقية. لكن لأي سبب لم يخدع قضاته، هو الذي ـ حسب مبادئه ـ لن يضيره أي شيء في العالم الآخر؟ لماذا فضّل الموت تحت أبشع أنواع التعذيب، بدل أن يسحب آراءه ويتوب؟ لمَ لم يعمد إلى التظاهر بإنكار كفره والرجوع عن إلحاده إذا كان حسب اقتناعه ليس هناك إلاه يحظر الكذب ويعاقب النفاق؟ الجواب هو إما أنه مجرد إنسان مغرور يطلب الشهرة مثل المجرم الذي يقترف جريمة بشعة للبروز والدعاية، أو أنه تصوّر فكرة الصدق التي جعلته يحكم على النفاق بأنه أمر وضيع ومشين، وأنه لا يليق بامرئ إخفاء آرائه خوفا من الموت. «لا يمكن، يقول بايل، أن ننكر أن العقل، حتى دون معرفة مباشرة بالله، قادر على أن يقود البشرية إلى الصدق».


على أية حال، مثال فانيني، يوفّر حجة غير قابلة للشك على أن مشاعر الصدق واحترام مبادئ الفضيلة، جعلت الملحدين يصمدون أمام كل الانتهاكات والفضاعات والتنكيل التي قابلهم بها المؤمنون، وبالتالي فهم قادرون على مجابهة الموت والاستشهاد لأجل أفكارهم. إن شهداء الإلحاد لم يكونوا محصورين في الغرب، مثل فانيني، برونو، وغيرهم، بل نجدهم حتى في العالم الإسلامي نفسه. ولقد روى أحد المؤرخين ريكو (Ricaut)، قصة التركي محمد أفندي الذي قتل في اسطنبول، لأنه أنكر وجود الله وجاهر بالالحاد. وهو ينتمي إلى فرقة المسرّين، أصحاب السرّ، كما يقول هذا المؤرخ، «والسّر هو ليس شيئا آخر غير النكران المطلق للإله، غير الإقرار الصريح بأن الطبيعة، أو المبدأ الداخلي المكوّن لكل شخص، هو الذي يحكم المسار الطبيعي لكل الأشياء المنظورة، ومنها [من الطبيعة] نشأت السماوات، والشمس والقمر والنجوم، وحركاتها(48)».

أحد هؤلاء الملحدين، أعني محمد أفندي، رجل ثري، كما يروي ريكو، وضليع جدا في العلوم الشرقية «أُعدِم في وقتي باسطنبول، لأجل أنه صرّح، بوقاحة، بالعديد من الشناعات ضد وجود الله». إحدى الحجج التي يعتمدها محمد أفندي، حسب ما يرويه المؤرخ الإنجليزي هي التالية «إما أن لا يكون هناك إلاه البتة؛ أو إن وُجد فهو غير ماهر، وغير حكيم كما يريد أن يُقنعنا أفذاذ علماؤنا؛ لأنه لو كان كذلك لما تركني أعيش طويلا، أنا الذي هو أشدّ أعداء وجوده، الذي لا مثيل له في العالم، والذي يتحدّث عنه بأكبر احتقار(49)».


النقطة التي نريد استخلاصها من حالة محمّد أفندي ليست هذه، بل إنه كيف أصرّ هذا الرجل على المضيّ قدما في إلحاده دون أن يكترث بالعواقب الوخيمة وكيف جابه الموت من غير أن يبدّل من قناعته. وهذه بالفعل الفكرة التي شدّت انتباه المؤرخ ريكو: « الأعجب من ذلك، هو أنه كان باستطاعته إنقاذ حياته بنكران تعاليمه والوعد بأنه سيتبع في المستقبل حياة أفضل، لكنه رغب بشدّة في الموت على كفره عوض التراجع(50)».

النتيجة هي أن هذا الملحد كانت لديه قناعة من أن الحقيقة والصدق والأمانة هي فضائل لذاتها، وهي أعز مِن أن يضحى بها لأجل مصلحة شخصية. كان يقول حسب ما يرويه المؤرخ « إن حب الحقيقة يجبره على تحمّل الاستشهاد، مع اقتناعه بأنه ليس هناك أي مكافأة يترجّاها [في حياة أخرى](51)».

إن رجلا يتكلّم هكذا، يجب حتما أن تكون راسخة عنده فكرة الصدق، وإذا ما دافع بإصرار عن فكرته إلى حدّ الموت، يجب حقيقة أن يكون طامحا إلى أن يصبح شهيد الإلحاد. 4. تبرير الإلحاد. وثنية الأديان إن البعض من المتدينين وجدوا أنفسهم أمام الإلزام الأخلاقي على القول بأنه من الأفضل الإلحاد عوض أن يكون لدينا تصوّر خاطئ عن الله. ذلك أنّ إنكار وجود الإله، هو أقلّ انتهاكا وأخف ضررا من الإعتقاد بما ليس هو الله وما لا يمكن أن يكون. فلوطرخس يرى أن من يعتقد في إله ويسبغه تقلبات وأهواء الإنسان الفاني هو أشدّ كفرا ممن لا يعتقد في الإله بتاتا: «أنا من جهتي أفضل بكثير أن يقول الجميع إن فلوطرخس لم يوجد قطّ عوض أن أسمع القول: "فلوطرخس هو رجل مُتقلّب، خفيف، متشنّج، رجل يغضب من أدنى الإساءات، ويُصبح سيّئ المزاج بلا سبب، يستاء إذا لم يُدع إلى وليمة، يمتعض إذا كان احدهم منشغلا ولم يقدر على الإتيان إليه في الصباح ليهنأه؛ رجل يلعنكم ليل نهار إذا مررتم من جانبه ولم تقتربوا منه وتحيّوه، يُلقي القبض على ابنكم ويعذبه في بيته، أو يُسرّح في الليلة التالية على أراضيكم حيوانات مفترسة تهلك الحرث وتتلف الثمار"». إذا أعملنا قليلا من العقل فإننا سنحدس أن هذه الصفات لا تنطبق على بانتيون الآلهة الوثنية فحسب بل تنطبق أيضا على إله الأديان التوحيدية. ويبدو أن كل الإعتراضات التي وجهها آباء الكنيسة الأوائل ضد الوثنية يمكن إرجاعه عليهم.


أرنوبيوس من القرن الثالث في نقضه للوثنيين توجه إليهم بهذه الكلمات: «منذ زمن طويل متفكّرا في تعاليم لاهوتكم الوحشي، أتعجّب كيف تتجرؤون على تسميتهم ملحدين، وكافرين ومدنّسين أولئك الذين ينفون بالمرّة وجود الآلهة أو يشكون فيهم، أو يعتبرونهم مجرّد أناس مؤلهين. فعلا، إذا فُحص في المسألة بعمق، لا واحد أجدر بهذه التسمية منكم، لأن بتعلّة تعظيم الآلهة أنتم تلحقون بهم المزيد من الإهانات». وفي موضع آخر أعرب عن نفس هذه الفكرة، أي إنه من الأفضل أن يعيش الإنسان دون الإعتقاد في إله عوض أن يعتقد في وحش: «أنتم لا تخجلون من اتهامنا بعدم الإكتراث بآلهتكم … أليس من الأعدل الإعتقاد بأنه لا يوجد آلهة إطلاقا، عوض أن نعتقد بأن لهم هذه الصفات المشينة؟».

المسيحيون إذن، حسب أقوال أرنوبيوس، هم أقل كفرا في نكرانهم وجود آلهة الوثنيين، ممن يعتقد فيهم ويضفيهم صفات قبيحة. ومن بين هذه الصفات القبيحة، يذكر أرنوبيوس، الغضب، والسخط، والمكر والإنتقام، التي يسندونها إلى آلهتهم. هذا صحيح، ويكفي مراجعة أشعار هوميروس وأساطير الرومان حتى نتيقن من ذلك. ولكن إله الأديان التوحيدية كيف هو؟ ألا يملك هو أيضا نفس صفات آلهة الوثنية؟ الأديان التوحيدية تقرّر أشياء فضيعة على الله، بحيث إن أي ملحد متوفر على قسط من الحس السليم، يُفضل المواصلة في نكرانه الإله، عوضا أن يعتقد في تلك الشناعات. فهم يتصوّرون الإله على شكل ملك متسلّط ذي قدرة لامتناهية ويأمر عبيده بطقوس لاعقلانية ويحرّضهم على اقتراف أبشع أنواع الجرائم (قتل من لا يؤمن به، أسر وسبي من له تصوّر مغاير … والقائمة طويلة).

أمام هذه الصورة القبيحة، فإن الملحدين يحتقرون الأديان ويعتبرونها مجرّد صناعة إنسانية، وليست أرقاها أو أفضلها، بل هي صناعة عنف وخدعة. كم من الشناعات والجرائم قامت بها الأديان؟ يتساءل الشاعر الروماني لوكريس، وكم من أنهار دماء سالت بسبب الإله؟ بل إن هناك من ذهب إلى أن الدين لو كان فعلا هبة حقيقية من الإله للإنسان، فهي ربما ينبغي اعتبارها مفعول سخطه وليس رحمته. كيف لا، يقول فلوطرخس، فخرافات المؤمنين وتصرفاتهم وأقوالهم غير الموقرة للذات الإلهية هي التي جرّت الناس للإلحاد بحيث إن «كل يوم توفر لهم أسبابا جديدة لتبرير أنفسهم والدفاع عن إلحادهم. وهؤلاء ـ يعترف افلوطرخس ـ لديهم حجج ودلائل معقولة. إن أولئك الأوائل الذين اعتنقوا الإلحاد، لم يفعلوا ذلك لأنهم كانوا يملكون أشياء يعترضون بها ضد السماء والكواكب والفصول، أو ضد الشمس، التي بحركتها تحدد الليل والنهار؛ ولا حتى لأجل أنهم لاحظوا تشويشا في غذاء الحيوانات، أو في انتاج الزرع. لا شيء من هذا القبيل. السبب في ذلك هو خرافات الأديان وتصرفات عامتها: أفعالها الغريبة، عواطفها السخيفة، وكلماتها وحركاتها وسحرها، ولفها ودورانها، تطهيراتها البغيضة، زهدها القبيح والقذر، إهاناتها البربرية للنفس، والإنتهاك الهمجي لذاتها في المعابد: لقد وفرت كل هذه الأشياء للبعض السبب للقول بأنه من الأفضل للإنسانية أن لا يكون لها أي إله، عوض أن يكون لديها آلهة توافق على أشياء من هذا القبيل، وتستحسن خدمة غريبة جدّا، تهين عابديها؛ آلهة يشعرون بالغضب من لاشيء ويهتمّون بأمور سخيفة. أليس شعوب بلاد الغال والتتار كانوا سيكونون أسعد لو لم يسمعوا أبدا التحدث عن الآلهة، لو لم يهتموا بهم، ولم يحددوا لهم تصورا ما، عوضا عن الإعتقاد في آلهة يغتبطون بسفك الدماء البشرية التي يلوّنون بها مذابحهم، آلهة تقبل مثل هذه القرابين المملوءة بربرية ولاإنسانية، وتعتبرها الشيء الأكثر استحسانا والأجدر بعظمتهم؟


وأيضا، كم كان من الأفضل للقرطاجيين أن يكون لهم كمشرّعين أوّلين لجمهوريّتهم كريسيا أو دياغوراس، اللذان لا يعتقدان لا في الآلهة ولا في الجواهر الروحية، بدلا من أن يقدموا إلى بعل تلك الضحايا كما هم معتادون فعله؟». ليس من الصعب التفطّن إلى أن ما يعيبه فلوطرخس والحكماء على خرافات الإنسان الوثني ينطبق بشكل مناسب على معتقدات الأديان التوحيدية. فلاهوت العهد القديم هو كله تشبيهي، وتصرفات الإله هناك لا تختلف في شيء عن تصرفات أي إنسان متقلّب، عنيف إجرامي، مختل، ودموي. الإله يهوه قادر على فعل كل شيء قبيح، من القتل إلى الإبادة الجماعية. وأرى أنهم في خطأ جسيم أولئك المؤمنين الذين يعيبون على أساطير ما يسمى بالوثنيين، قلّة ورعها، ويتهمونهم بالجاهلية وبأنهم لم يعرفوا الإله الحق. وكأن المسيحي أرنوبيوس، ح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

نهج الإلحاد (2) :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

نهج الإلحاد (2)

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: