حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 جدل المتخيّل والتاريخيّ : من محمد اللاهوتي إلى محمد التاريخي مساهمة في ضرورة تعميق النقد التاريخي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
متاحة
ثـــــــــــــــائر محــــرض
ثـــــــــــــــائر محــــرض
متاحة


الجنس : انثى
عدد المساهمات : 330
معدل التفوق : 924
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 27/02/2012

جدل المتخيّل والتاريخيّ : من محمد اللاهوتي إلى محمد التاريخي مساهمة في ضرورة تعميق النقد التاريخي Empty
30122013
مُساهمةجدل المتخيّل والتاريخيّ : من محمد اللاهوتي إلى محمد التاريخي مساهمة في ضرورة تعميق النقد التاريخي

جدل المتخيّل والتاريخيّ : من محمد اللاهوتي إلى محمد التاريخي مساهمة في ضرورة تعميق النقد التاريخي Arton8930-d6573


«لا يُفهم كتاب عن التاريخ في غياب فكر تاريخي مسبق. تُترجم كتب حول مفهوم التاريخ في سياق غير تاريخي، فتتحول إلى طلاسم.... يبدأ النقد التاريخي بالنقض والإنكار وينتهي بالحشر والإثبات».
 عبد الله العروي

إهداء إلى أحمد نظير الأتاسي

أورد مرة "برنارد لويس" في كتابه المهم "The Arabs In History" قولاً لـ "إرنست رينان"، وذلك في مقال له عن محمد وأصول الإسلام، يشير فيه إلى أن الإسلام، خلافاً لغيره من الأديان التي كانت محاطة بالغموض، ولد في نور التاريخ : «فجذوره ليست خفية في باطن الأرض، وحياة مؤسسه معروفة عندنا معرفة حياة المصلحين في القرن السادس عشر» (Bernard Lewis, "The Arabs In History", first published 1950 by. sixth edition first issued as an oxford university press paperback 1993. Reissued 2002. P.32.).

لربما يبدو ذلك الكلام لـ رينان مقنعاً للوهلة الأولى إذا تمت مقايسة محمد أو موضعته إلى جانب يسوع الناصري أو موسى، وذلك من حيث معرفتنا بمراحل تكونهما الثقافي أو حتى الأخلاقي (هذا في حال إذا أجلنا قليلاً الشكوك التي تثار حول تحقق وجودهما التاريخي). إلا أنه لا يمكن القبول بإعلان رينان: "أن حياة مؤسسه [مؤسس الإسلام محمد] معروفة عندنا، معرفة حياة المصلحين في القرن السادس عشر". لماذا هذا الكلام؟

أربعون سنة تقريباً من حياة محمد مجهولة لنا تماماً. أربعون سنة لا تمثل لنا إلا نصاً مغلقاً صامتاً في الـ "هناك"؛ سنوات لم تغطها إلا أستار التعتيم والخرافة. لم نبدأ بمعرفة محمد من طريق كتب التراث إلا حينما ظهر له "تابعه Acolyte" على المسرح (والذي أسماه الإسلاميون بـ جبرائيل فيما بعد)، وقال له: إقرأ. ومن هذه اللحظة فصاعداً بدأنا نقرأ عن محمد، وابتدأ التاريخ عند لحظة إشراق مغارة حِراء السحرية، وحُكم على التاريخ الذي قبله بـ "الجهل" The State Of Ignorance، والتاريخ الذي بعده -بظهور جبرائيل-: بـ "تاريخ الأنوار القدسية أو الكوكب الدريّ". ومن جهة أخرى، لا نستطيع أن ننكر أن صورة محمد الآن هي صورة مخيالية مجبولة بتجليات العفاريت والآلهة، هذا إضافة إلى أنها أحادية بحتة، بغض النظر عن التشوهات الشعبوية التي ألحقت بها على مر التاريخ ليتحول إلى "بطل مخيالي"، كما سيمر لاحقاً معنا.

كلام رينان الذي ينقله لويس ينتمي إلى مرحلة الاستشراق الكلاسيكي الذي تميز عند بعض رموزه في الاعتماد على المرويات الإسلامية بدون رؤى نقدية جادة لها (مثلاً "كليمان هوار" الذي انتقده نولدكه بشدة، ذلك أن الأخير –أي نولدكه- كان شكاكاً بالرواية الإسلامية بشدة بنحو منهجي ونقدي). لكن لنقرأ سريعاً رؤية مناقضة تماماً لصورة الاستشراق تلك:

في عام 1977 افتتح المستشرق الأميركي جون وانسبرو Wansbrough، في كتابه "Quranic Studies" مرحلة جديدة لعالم الاستشراق، محاولاً تحطيم صورته الكلاسيكة بما يخص الدراسات الإسلامية، وخاصة في اعتمادها على المصادر الإسلامية، مشككاً بها كلها، وأنّ ما دعي بـ "Ur-Quran" بحسب Lüling (القرآن الأولThe Original Document From Which The Current Quranic Text Derives ) ليس صحيحاً، وحتى مكة فإنها لم تكن المكان الذي ولد منه الإسلام! وما دعي بمكي ومدني هو مجرد تضليل...الخ. وبكلمة، لقد قامت وجهات نظر وانسبرو على التشكيك بالتراث الإسلامي الذي كتب بالمرحلة العباسية في ظل غياب المعرفة والوعي التاريخي بالتراث. وفي الواقع، دخل هذا الباب بعض من المستشرقين المعاصرين مثل باتريشا كرون Patricia Crone، ومايكل كوك Michael Cook (تجسد عمل الأخيرين في كتاب Hagarism, Cambridge: 1977 وكان نبيل فياض قد ترجمه 1999)، ثم ليأتي مؤخراً هاوتينغ G.R. Hawting (من أتباع وانسبرو) ليكمل بعد ذلك طريق التشكيك بالمصادر التراثية في كتابه: "The Idea Of Idolatry And The Emergence Of Islam"، وكان هاوتينغ قد تلقى انتقادات من بعض المستشرقين على تلك الراديكاليات التشكيكية المفرطة (1). وربما نأتي لاحقاً في أبحاث مستقلة على تلك الأعمال.

تانك هما النظرتان اللتان سيقوم هذا المقال بنقدهما في سبيل تعميق المحاولة من أجل مقاربة صورة تاريخية عن محمد (ولا أقول مطابقة صورة محمد)، ومن ثم تقديم -بشكل مختصر وسريع- وجهة نظر النقد التاريخي في مقاربته لتلك الصورة. لكن سأبدأ أولاً بتحديد بعض الركائز لكيفية عمل ذهن المؤرخ الإسلامي، (وأدقق على كلمة "إسلامي") والتي تعاكس جملة وتفصيلاً النقد الاستشراقي ذلك، وكيف كانت تتم –وما زالت- "صناعة محمد" وطبخ الكاريزما الأسطورية، بغض النظر عن الآليات التراثية الأخرى التي اشتغلت في التأسيس للحدث المحمدي، من أحاديث عرفت بأنها "نبوية" وتفسير وفقه...الخ:

وفقاً لأية ركائز يعمل ذهن المؤرخ الإسلامي حينما يكتب تحديداً عن محمد؟

لندع قليلاً ما جانباً الأربعين سنة "السرية" من حياة محمد، ولنسأل : كيف يصنع محمد؟

أولاً، هناك ركيزتان ثيولوجيتان كان على المؤرخ الإسلامي أن يتمنطق بهما ويتخندق وفقاً لآليات عملهما، هذا فضلاً عن ولائه المطلق لـ "إيديولوجيا المنتصرين"، أي "دوغما أهل السنة والجماعة". فكل مؤرخ لا يوالي تلك الإيديولوجية ويدافع عنها، ستوضع أمامه إشارات استفهام كثيرة، كما هو الحال الذي نجده مع مؤرخ (؟) مثل المسعودي. فما زال كتابه "مروج الذهب" مشكوكاً به من قبل الطرف المنتصر، لكون صاحبه مشكوكا في ولائه لأهل السنة، لأنه كان ينتصر للطرف المقهور "الرافضي"(!!) (2).

مهما يكن، الركيزتان الثيولوجيتان هما:

1- التاريخ هو من صنع الآلهة، ينتمي إلى مجال "المطلق". والزمان الذي هو العامل الحاسم في التاريخ، ليس هو الزمان الأفقي، بل هو الزمان الدوراني الإلهي، وقل الأمر نفسه عن الحدث، الشخصية والسرد...الخ التي ستغلف بمنطق شكل وفعل المطلق.

2- ومحمد هو مبعوث هذه الآلهة ورسولها، الذي كان (أي كان في الماضي قبل حدث حراء) ينتمي هو الآخر إلى المجال "النسبي". لكن وضع محمد النسبي هذا سيتغير. كيف؟

لمّا يشاء المؤرخ الإسلامي أن يكتب عن ذينك الموضوعين، فإنه ملزم بالاحتكام بما تفرضه عليه الأطر الثيولوجية. فهو محكوم منذ البداية –سواء أكان واعياً لذلك أم لا- لمنطق الفعل الإلهي، لمنطق التدخل الإلهي في مجرى الحدث التاريخي، لمنطق تدخل المطلق الإلهي في النسبي التاريخي. هكذا سيتحول محمد من شخص "طبيعي" بشري من نتاج التاريخ إلى "رسول الآلهة" مبدع للتاريخ.

اللحظة المحمدية في فكر المؤرخ الإسلامي، هي بؤرة التاريخ، أي: هي المركز، وكل ما يحيط بها هو الهامش؛ والفعل الإلهي دائماً تتموضع تجلياته في المركز بقوة، بينما الفعل الشيطاني تتموضع تجلياته في الهامش. فالمؤرخ حينما يقص التاريخ القبلي (قبتاريخي) الذي سبق لحظة الأنوار المحمدية، فإنه يقصه بنمط سردي استخفافي (لأنه جاهلي)، يكون ذهنه فيه مشدوداً ومعلقاً باللحظة السعيدة التي سيتوجها محمد بعد قليل. وهكذا سيغدو التاريخ الذي سبق محمد من فعل الشياطين، بينما لحظة محمد هي الخلاص السعيد. ليس غريباً إذن أن تصف الأدبيات التاريخية الإسلامية الناس الذين سبقوا الإسلام بأنهم في فترة ضياع عن عقيدة أبيهم إبراهيم، وإذ بمحمد بدون مقدمات ولا هم يحزنون، يأتي ليعيد الأمر إلى نصابه الإلهي. هذا، في حين أننا سنجد أن التاريخ الذي سيأتي بعد محمد هو أيضاً فترة نكوص إلى الوراء كلما ابتعدنا عن إشراق الكشف المحمدي: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..» يقول محمد. والنقطة هذه هي بؤرة الفكر السلفي الارتدادي إلى الوراء إلى العصر الذهبي The Golden Age لحظة محمد.

ومن جهة أخرى بالتساوق مع ما أتينا عليه، فإنه لم يكتب عن محمد إلا ما أرادته وجهة نظر المؤرخ الإسلامي، لكن بسبب سيطرة منطق الآلهة (ضد الوعي النقدي)، سيتحول محمد ويدخل المجال الإطلاقي ويخضع لإرادة ومشيئة الآلهة. إن انعدام الوعي التاريخي هذا، سنجده بعمق عند الثيولوجي الإسلامي القروسطي، الذي ينتمي لـ دوغما "إيديولوجيا المنتصرين"، هو ابن خلدون. فأنت في حضرة ابن خلدون (على حد تعبير محمود درويش) حينما تتكلم عن أحوال البشر وتتكلم عن العمران وانهيار الدول... فالكتابة ستكون وفقاً لاستحقاق التاريخ ونظمه (بحسب آليات الوعي بالتاريخ التي كانت سائدة)، لكن القوانين الطبيعية التي حاول ابن خلدون الاستفاضة بها، ستنهار كلها تماماً إذا تحولت الكتابة التاريخية إلى كتابة ما فوق التاريخ، وبالأخص حينما سيؤرخ لمحمد ورحلته العجائبية مع الله. وبالطبع سيشعر المؤرخ "الحقيقي" حينما يقرأ محمداً عند ابن خلدون أو غيره وكأنه في حضرة : "أليس في بلاد العجائب" أو مغامرات علاء الدين مع المصباح السحري.

لم يُقدم لنا محمد إلا كما أراده ابن خلدون وغيره، أي تمت صناعة محمد وتقدمته في مصانع ابن خلدون والطبري والمسعودي...الخ ووفقاً لشروط الإنتاج اللاهوتية. وهكذا سيفرض تساؤل مهم : هل الذين كتبوا مثل هذه التواريخ هم مؤرخون، أم أرّاخون، أم قُصّاص كانوا يقصون عمل الآلهة والأبطال، أم حكواتيون، أم حفاظ يروون عن ذاكرة شفاهية لفلان وفلان... لندع هذا جانباً. وسأستخدم مصطلح مؤرخ (مؤقتاً) لعله يُترك لأبحاث متخصصة أكثر. لذا ليس غريباً أن يختلط أثناء التأريخ لحياة محمد الفقه وأصول الفقه!!. وفعلاً ما يثير الدهشة أكثر أن نقرأ الآن عبث الخطاب الديني، مكرراً نفس ذلك البهلوان العجائبي التراثي المتشرذم.

وعلى أساس هذه الألعاب البهلوانية في التاريخ، قام من وقت قريب سادنان للكهنوت السني، "محمد الغزالي (الشيخ المصري)، بكتابة : "فقه السيرة" (دار الدعوة، مصر- الاسكندرية، طبعة ثانية)، ليتبعه ويقلده البوطي (الشيخ السوري) بكتابة ما سمي في الاصطلاح الإسلاموي المعاصر: "فقه السيرة النبوية". (دار الفكر، -دمشق، ط10 سنة 1991). فهذا الأخير لا تعرف هل هو يؤرخ لحياة محمد، أم يكتب في الفقه أم أصوله، أو حتى دفاعاً عن الدوغما الإسلامية ضد المستشرقين.....الخ. مهما يكن، كل هذه الحقول سنجدها أثناء التأريخ لحياة محمد!!.

التاريخ في ذهنية المؤرخ الإسلامي يتحرك بمنطق غائي، له هدف وغاية إلهية في نهاية الحدث، إنه متجه نحو النهاية الخلاصية، وغالباً ما تكون هذه الخلاصية سعيدة المنتهى، ومحكوم بحكمة تم تسجيلها في لوح الأزل Preserved Table. سيقول المؤرخ الإسلامي عند هذا الحد: نقطة انتهى!.

وهكذا، فالإرادة الإلهية في ذهن الإسلامي هي الحافز لفعل التأريخ والتاريخ، هي المحفز للتدخل في الحدث التاريخي النسبي: كل شيء يحدث بإرادة الرب: التاريخ يناظر، يحدث، يستمر/ ينقطع (منطق القطائع الإلهية)، كله بإرادة الرب. وفعلاً، سيصنع محمد عن طريق إرادة الرب.

إذن، محمد ليس المادة التاريخية أو اللحظة الواقعية النسبية التي احتلت حيزاً من الاستمرار التاريخي، وإنما هو المادة اللاهوتية الذهنية التي تقبع في ذهن المؤرخ لكي يؤرخها.

هنا ربما ندرك ما لذي حدث بهذه النسبية الواقعية مع المؤرخ الإسلامي في تحويله لها إلى مطلق، أي جسّد المطلق في النسبي، أو رفع النسبي من الفعل التاريخي، إلى الفعل الإلهي الإطلاقي. وبالطبع إذا كان الحال هكذا، فإنّ محمداً كما تعيشه مخيلة الإسلاميين الآن، لا يشترك مع محمد التاريخي إلا بالاسم. وإذا حدث "صدفة" أن قرأ المؤرخ الإسلامي مقولة ماركسية: أن التاريخ من صنع البشر المتحولين، لا يكرر نفسه إلا بنحو مبتذل وارتدادي، فإن الإسلامي سيردّ بعنف بأن التاريخ هو تاريخ الفوق (ضد التحت؛ غرفة التحكم بالتاريخ تقبع فوق) والمتناغم المنسجم المنظم بمنطق علوي يسير بخط لاهوتي مقصود وغائي...الخ. التاريخ هو تاريخ الروح الإلهي؛ تنبجس منه مفردات الأنبياء، وعلى رأسها: مفردة محمد.

مشكلة اللامنهج وبعض من نتائجه:

تلك كانت النقطة الأولى. أما الثانية فإنها ستتعلق بمعاكسة ذلك المخيال اللاهوتي بمنطق مخيالي استشراقي آخر، ترعرع -للأسف- في أحضان التنكر لإنجازات الاستشراق الذي ولد في أحضان الحداثة الأوربية.

إحدى الإشكاليات الجوهرية التي مازالت مستمرة في التأريخ وخاصة لحياة ذلك الرجل، هي مسألة المنهج المتبع في ذلك، والذي ينبني في الأساس في النظر إلى التاريخ سواء كمفهوم مادي، أم تصعيد للروح الخرافي الذي يسير وفق غائية ما، أم تصعيد الشكوك فيه جملة وتفصيلاً. هل هو مستقل موضوعياً عن الذات المؤرخة أم لا؟ هل يقبع التاريخ في الـ هناك بعيداً عن أيادي المؤرخ الذاتية، أم هو الحاضر الغائب في سياقه الحالي؟ إلى أي درجة تكون الخيارات الإيديولوجية للمؤرخ حاضرة في تسسيير مجرى الحدث الذي يؤرخه أو الشخصية التي يكتب عنها، (شخصنة الحدث/ موضوعية الحدث)؟ إلى أي درجة يتوافق -ولو جزئياً- ما يكتبه المؤرخ مع مادة الحدث الأصلية؟ ربما تطول قائمة هذه التساؤلات والإشكاليات في ميدان النقد التاريخي والتي لا يتسع لها المقام الآن، لكن أود أن أسقط بعضها حول التأريخ لحياة محمد، وأهم الإشكاليات التي مازالت عالقة في هذا الصدد. وطبيعي أن لا أصل إلى أي نتيجة يقينية وخاصة أننا نكتب في ميدان التاريخ ونقده.

المسألة في انعدام المنهج عند رؤى الاسشتراق المابعدي لا تتوقف فقط على أنسنة التاريخ وإبعاده عن الحيز الموضوعي، بل بتنميط التاريخ بنحو مثالي، سواء بتصعيده إلى عالم الروح والآلهة، أو بسحبه إلى كونه لا يعبر إلا عن ذاتيات المؤرخ (وبالتالي ستدخل الكتابة التاريخية إلى الحيز الذاتي والبهلوان الأدبي!) وخياراته الإيديولوجية، والانطلاق المؤدلج المسبق من هذه المقولة مثلاً: لا بد من إسقاط كل ما قدمته كتب التراث لأن ما كتبه فلان وفلان كان من أجل كذا، ولأنه كتب بمرحلة كذا وتبتعد عن الفترة تلك، أي الفترة التي يؤرخ لها.. (= أدلوجات ذاتية تحكم مسبقاً ولم تقم بالأصل بفحص المادة الناقلة للخبر أياً تكن المادة سواء رواية شفوية أو نصا كتابيا أو وثيقة أو نقشا...). ومرّة عبّر حسن حنفي أنه لا تاريخ بدون مؤرخ! قمة الذاتوية تكمن هنا؛ كما سنقرأ : ليس ثمة محمد بدون مؤرخ لحياة محمد. وهذه هي بالضبط المعضلة المسيطرة على مؤرخ حياة محمد في بنية منهجه في العمق، هذا إذا كان ثمة منهج كما سيمر الآن معنا. ومن جهة أخرى:

لا يجادل أحد أن الصورة التي يكوّنها أي شخص منا عن محمد هي صورة نمطية مشوهة مبتورة، كتبت بأيادي إسلامية ضمن نطاق رؤية إيديولوجية واحدة منسجمة مع منطق دوغما أهل السنة والجماعة، وتفتقر لأهم العناصر التاريخية التي تضطلع عادة بمهام التكوين الفكري والإيديولوجي. هذه هي الصورة المخيالية الأولى التي كنا آنفاً قد أتينا عليها سريعاً.

بيد أننا على الطرف النقيض من تلك الرؤية، نجد الآن استسهالاً آخراً واستخفافاً من كتابات ناقدة تعاكس ذلك المخيال الإسلامي بمنطق مقلوب هذه المرة (وانسبرو، كرون، كوك، هاوتينغ...الخ). تقول هذه الكتابات، أن كل ما كتب عن محمد هو صورة مخيالية عبّرت عن الخيال القصصي للرواة، حيث بدأت الكتابة على الأقل بعد مئة إلى مئة وخمسين سنة من وفاة الرجل أي محمد، لذا لا بد من رفض كل ما كتب عن محمد! لماذا؟ لأن الحضارة العربية هي حضارة النص (النص ليس بالمعنى المادي، وإنما بالمعنى الذهني)، كان همُّ العرب في القرنين الهجريين الأولين تكوين نص لهم لا يطابق بأي شكل الحدث المحمدي...الخ. طبعاً لا يخفى علينا طبقاً لتلك الرؤيتين المتعاكستين (سأصفهما بـ الاستسهالتين المخياليتين) ستؤديان إلى عقم نقدي في النظر إلى محمد، بمعنى آخر هناك نتيجتين للمخياليتين هاتين:

سيبقى محمد سابحاً في الهواء، معلقاً بين قوسين إلى أن تشاء عفاريت السماء؛ فلا الرؤية الإسلامية الأولى تستطيع أن تقدم صورة تاريخية نقدية عن نبيها، وخاصة أنها رؤية تتكلم من داخل الدائرة الأرثوذوكسية، وبالتالي سيبقى خطابها مرتهناً لأطر الثيولوجيا الإسلامية؛ ولا كذلك أيضاً الرؤية الثانية -الناقدة للأولى- يمكن أن تجيب أو أن ترسم صورة تاريخية لمحمد، لأنها بكل بساطة مفلسة اليدين من أي شيء يتحدث عن محمد (حتى النقوش لا يمكنها الإجابة لأنها تعبر عن تصورات فقط!! ) سوى الإدانات وشجب الرواية الإسلامية، فالرواية بالأصل ساقطة من مخيالها بدون أن تكلف نفسها ولو قليلاً بدرسها وفقاً لآليات النقد التاريخي، لا بل وصل الأمر مع بزوغ ثمانينات القرن الماضي أن رفع بعض الخطاب الاستشراقي من مستوى الشك حتى بكل كتب السيرة والتاريخ (كما أتينا على ذلك، وسنعود بأبحاث مستقلة لهذه النقطة) حتى التشكيك بوجود محمد نفسه وأصالة القرآن ذاتها في انتمائه إلى فترة محمد. إن الرؤية الثانية هي بالضبط تعبّر عن العبث النقدي –وخاصة الاستشراقي الحديث- الذي وصلت إليه بعض كتابات خطاباته المعاصرة.

النتيجة الثانية، وهي التي تخص النظرة الثانية تحديداً:

نحن نعلم أنه غالباً ما تكون نتائج المنهج النقدي متضمنة في المنهج ذاته، أي يمكن أن نقرأ النتائج من خلال المنهج ذاته؛ لكن ماذا لو كان هناك انعدام أي رؤية منهجية بالأصل؟ كيف ستكون الحال؟ إنه برفض ممارسة نقد الرواية الإسلامية، والاكتفاء فقط بالنقد المجاني لها والاستعاضة عن ذلك بـ اللامنهج وممارسة مجرد دعايات إعلامية، فإننا نسمح بذلك للفكر الظلامي الإسلاموي أن يصول ويجول بـ تفعيل هذه الرواية داخل المخيال الشعبي، وبالتالي تفعيل محمد (النبوي) بنحو رجعي.

إن الرؤية النقضوية الثانية، حينما ترفض الرواية الإسلامية جملة وتفصيلاً بدون منهج، فإنها تقوم بنفس الوقت بمنهج انتهازي للطرف الأول. ولا يخفى إذا كان الحال هكذا، فإن الانتهاز الإيديولوجي هذا، سيؤدي إلى توليد وامتداد تطرف إسلاموي معاكس، على الأقل ضمن إطار مستويين، الفكر والممارسة:

- على صعيد الفكر: تصعيد إيديولوجيا الرواية المحمدية بمثابتها الوعاء الفكري الذي سيُمنهج ويتحكم بطرائق التفكير المعاصرة. هذا التطرف الإسلاموي لم يكن ليقف عند هذا الحد، بل الآن أصبحت هناك نغمة جديدة في الشارع الإسلامي حينما أدرك هذا الشارع أن البساط بدأ ينزاح من تحت قدميه، ليقوم بعمليات تشويه للروايات والكتب التراثية ذاتها. لنأخذ مثالاً بسيطاً على ذلك، وهو تشويه دار نشر إسلامية لكتاب الطبري، بإعادة اللعب به وهيكلته وفقاً لإيديولوجيا المنتصرين تحت عنوان: «صحيح وضعيف تاريخ الطبري» (لقد عُنونت المجلدات الخمس الأولى بـ "صحيح تاريخ الطبري" أما الباقية بـ "ضعيف تاريخ الطبري"!! وهذا العمل قام به إسلاميون لصالح دار ابن كثير الإسلامية، من تحقيق محمد بن طاهر البرزنجي بإشراف محمد صبحي حسن حلاق، دمشق- بيروت، ط1، 2007).

أقل وصف يمكن أن نطلقه على هذا التشويه الإسلاموي للطبري ليس فقط أنه يقف ضد المنهجية في تناول كتب التراث، وإنما هو عمل لاأخلاقي عبثي يحاول أن يمسك ويسيطر على مفاتيح التراث! ومن المدهش حقاً أنهم هم أنفسهم يتهمون الغرب بسرقة التراث، في حين أنهم لا يحاولون سرقته فقط، بل يقومون بعكفه وتشويهه لصالح إيديولوجيا العصر الذهبي المليء بالأبالسة والشياطين.

ذلك هو الخطر الذي أنوّه له في مسألة ضرورة نقد الرواية الإسلامية وعدم تركها لعبث الكهنوت الإسلامي الظلامي، وعدم الاكتفاء فقط بشجبها ونكرانها بحجة أنها كتبت بعد أجيال لاحقة وعبرت عن خيارات من كتبوها! إننا بحاجة ماسة للخروج من هذا الاستخفاف والاستسهال اللانقدي في مسألة نقد التاريخ المحمدي والإسلامي.

- أما على صعيد الممارسة، فليس بإمكاننا في هذا السياق أن نطيل الكلام ليس فقط تشويه صورة محمد على صعيد المخيال الشعبي فقط، وإنما بـ "تفعيله" وإحيائه وإعادة تكرار التوتاليتارية البدوية الصحراوية من داخل هذا المخيال على أرض الواقع المجتمعي المعاش في زمن نتكلم فيه عن المجتمع المدني. ليس غريباً أن نرى محمداً الآن قنبلة موقوتة تعشش في العمق داخل أحلام الفقراء والمضطهدين ونفسانيات الأطفال ورسومهم بل وحتى في كلمات أغانيهم. فالآن لا يمثل محمد إلا بوصفه السلاح الجاثم في عمق الذاكرة والمخيال، يُستعاد في أي لحظة، يمكن أن ينفجر في أي لحظة، كما نرى ذلك التفعيل داخل بعض الإيديولوجيات المسلحة الإسلامية.

ومن هنا ضرورة أن يقوم النقد من داخل الدائرة نفسها، أي: النقد على أرض الرواية نفسها، بتفعيل مناهج النقد التاريخي الحديث.

إذا عاودنا المساءلة : من هو محمد؟ ما هو القرآن؟ كيف نقرأه؟ بالطبع ستختلف الإجابات ليس فقط من إيديولوجية إلى أخرى، ولكن من شخص إلى آخر. إلا أن السؤال الذي لم يطرح إلى الآن هو : من هو محمد التاريخي؟ أو بشكل أدق، كيف نستطيع قراءة محمد وفقاً لمنطق النقد التاريخي وآلياته؟ ومرة قدم "آرثر جفري" عنواناً قيماً لبحثٍ يدور حول الاختلاف بما يخص قراءة المستشرقين في قراءة محمد في الغرب وهو: "بحثاً عن محمد التاريخي The Quest of the Historical Muhammad".

طبعاً موضوع بحث جفري لا يتقاطع مع موضوع المقال الآن، إلا أن الملفت النقدي هو العنوان ذاته، ما يوحي لأول وهلة أن التساؤل عن محمد التاريخي كان تساؤلاً حاضراً في الخطاب الاستشراقي الذي ورث مقولات الحداثة أو الذي نشأ في كنفها سابقاً. هذا الخطاب الحداثي هو الذي يتنكر له الآن الخطاب الاستشراقي العبثي النقدي الحالي المفلس أصلاً من النقد، سواء أكان ذلك الخطاب سليل الإقطاعيات الأرثوذوكسية الإسلامية، أو سليلاً للعدم (الما بعدي) الوجودي الفوضوي بما يخص الذات والوعي والأداة الناقدة، أي العقل.

ومن المعلوم أنه لا يقف الأمر عند ذلك الحد، بل سيتعداه إلى سين وجيم حول مفهوم التاريخ ذاته، مفهوم التراث، مفهوم المصدر الذي يقرأ من خلاله الشخص محمداً.....الخ. كل هذه الأسئلة غائبة عن الخطابين.

في الواقع نحن حقيقة أمام إشكالات جدية في تحديد ومنهجة مفاهيم ومصطلحات، لم تحدد وتُعرّف إلى الآن. بدون سابق إنذار يتم القفز فوقها مباشرة إلى محمد والقرآن وبدون أن يكلف أي واحد منا نفسه أن يفكر قليلاً بها.

وبالمقابل، بدون أي جرعة نقدية، يقال أن هذه الرواية لابن هشام مشكوك بها. لماذا؟ لأنها عبرت عن خيال الراوي! لكن كيف عبرت عن خيال الراوي؟ ما هي القيمة النقدية التي تحملها الرواية سواء على صعيد السند أو على صعيد المتن؟ إلى أي درجة تستطيع أن تحاكي الواقع الذي تتحدث عنه؟ أو كيفية المحاكاة؟....الخ تبقى هذه الأسئلة غائبة، ومغيبة بمنطق إيديولوجي مضاد للطرف الإسلاموي الأول. المهم أنها تعبر عن مخيال التراثي! هذا هو بالضبط ما عنيته بالعقم الاستسهالي المخيالي في النقد لمسألة الرواية، أو كما قرأت مرة أنه: لا تقبل الروايات التي تتحدث عن أمية بن أبي الصلت الثقفي. لماذا؟ لأن الحجاج من ثقيف!! لذا لا بد أن الروايات التي تحدثت عن أمية، قد كتبت بظلال أوامر الحجاج بن يوسف الثقفي!

محمد في النقد التاريخي:

قبل كل شيء لابد أن نضع بعين الاعتبار أن الرواية أو الأخبار المروية –كما ينقل العروي- تكتسي وجهين اثنين: فإنها تحتفظ بمجرد كونها رواية، وبقيمتها كـ شهادة.(مفهوم التاريخ: ج1 ص81). لكن ما هو مفهوم الرواية؟ الشهادة؟ هل الأخيرة يمكن أن تتحول إلى شاهدة؟ إذا كان نعم، إذن كيف؟ لماذا يعبد المؤرخ المحترف النص المنقوش على حجر أو عملة نقدية (ولتكن أموية مثلاً) أكثر من نص شفاهي كتب لاحقاً على الورق في الفترة العباسية؟ إذا كشفت لنا حفريات أركيولوجية ما نصاً سريانياً يعود إلى فترة 630م، فهل الذي يقوله هذا النص يعبر بالضرورة عن الواقع الذي يتحدث عنه أو عن الواقعة أو الحدث أو الشخصية..؟ أم يعبر عن تصورات؟ مجرد تصورات الذاكرة التي نقلت له الخبر؟ مجرد مخيال الذي كتبها؟ أم مجرد أيديولوجيا الدولة الغالبة التي ينتهج المؤرخ نهجها السياسي؟ ألا يفترض أن الذي كتبها، نقلها أيضاً شفاهياً عن ذاكرة مهترئة لمعاصر له ثم نقش الكلام على الحجر؟ لن أضطلع بالإجابة عن أي من هذه الأسئلة (لأن المقام لا يتسع لها، ولأنها تحتاج بحوثاً مستقلة) سوى القول بضرورة حضور هذا المثال من الأسئلة أولاً، وتعميق النقد التاريخي في محاولة حلها ثانياً. لننحي جانباً "المبتدأ والخبر" لابن خلدون أو "مروج الذهب" للمسعودي، أو الكامل لابن الأثير...، ونطبق تلك الأسئلة نفسها على نص ابن اسحاق القديم أو نص الطبقات لابن سعد الذي كتب المغازي للواقدي، أو نص اليعقوبي، ثم نرى كيف ستكون النتائج. هذا هو بالضبط ما أدعو إليه في تفعيل هذه المسائلات في نقد الرواية التي اضطلعت في التأريخ لسيرة محمد.

لا ينظر النقد التاريخي إلى محمد إلا بوصفه:

الإنسان (ليس بالمعنى المثالي للإنسان، وإنما بالمعنى المادي البشري)، متموضعاً في لحظته الأنثربيولوجية التاريخية هو، لا متموضعاً كما تريده خيارتنا الإيديولوجية والمعرفية نحن، أي: محمد هو غريب وأجنبي عن لحظاتنا التاريخية وخياراتنا الإيديولوجية ونظمنا المعرفية، يمكن درسه كمادة تاريخية في الماضي (نحللها، نستكشف لماذا مادة محمد حاضرة إلى الآن...الخ)، مادة مستقلة عنا مثل أي مادة أخرى تخضع لشروط الدرس والنقد؛ انتمى لاحقاً –أي محمد- إلى طبقة اجتماعية محددة، وهي طبقة الأحناف الموحدين، هذه الطبقة التي كان يختلط بلاهوتها الحابل بالنابل من عقائد وثنية ومسيحية وتوحيدية...الخ (مونتغمري وات أطلق على عقيدتهم Vague Monotheism)، واستطاع أن يعبر بأقصى درجات الوعي الذي كان يمتلكه والذي كان سائداً حينها، عن مشروعه في مكة وتالياً في يثرب، ثم تمكّن أن يوظف ذلك الوعي ويستنفده دلالياً ووظيفياً في كل لحظة تاريخية بنحو عملي، بما تقتضيه تلك اللحظة، بعد أن استوعبه وغربله بما تتطلبه الإفادة في مشروعه، ليعبّر لاحقاً عن هذا الجهد رويداً رويداً (أي وفقاً لاستحقاق الحدث والفعل التاريخي، الاقتصادي، السياسي، الثقافي...الخ) عبر عملية تطور زمنية، وبثه في ثنايا الشتات المشظى من المصحف (أو إذا صح ما كانت تطلق عليه أنجليكا نيوفرت: pre-canonical text) والذي سمي لاحقاً بـ القرآن.

بكل اختصار يمكن القول، أنه لن يتحقق أي شيء من ذلك، بدون حضور الوعي التاريخي النقدي بكل ما تعنيه كلمة وعي من استحقاقات نقدية: الوعي باللحظة التاريخية الزمنية التي كانت تمر بها جزيرة العرب (وخاصة على المستوى الاقتصادي والسياسي، وتأثير هذين بمصير المستوى الثقافي والديني)، الوعي بطبقة الأحناف ووشائج الارتباط بمشروع الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية المتنازعتين حينها (عثمان بن الحويرث مثلاً)، الوعي التاريخي بوعي محمد ذاته، ومدى تجسيد كل هذا في بنية الصراعات والتحولات القائمة حينها والتي تحكمت بمصير المشروع المحمدي نفسه...الخ. من هنا تأتي أهمية الاهتمام بمحمد باعتباره الشخصية التي مثلت –من بين كثير من الشخصيات مثله- مجتمعاً بشرياً كان يتحرك وفق أنظمة بدوية محددة، جسدت الرابط الوظيفي بين المجتمع من جهة وبين ذلك الأثر القرآني من جهة أخرى، ومن ثم أخيراً مثلت الرابط الوظيفي مع القارئ أو المتلقي.

من هنا ضرورة تعميق الاعتبار بالدرس النقدي والوعي التاريخي في تناول محمد بغض النظر عن كل ما ألحق بصورته لاحقاً من تشوهات. بمعنى آخر، لا بد من إسقاط كل الصور الإسلامية التي كونها أتباعه عنه ودرسه كما هو مجسداً في لحظة تاريخية محددة عن طريق النفي والسلب للعناصر المخيالية في الرواية الإسلامية وإعادة موضعة التعيين التاريخي فيها، وتنقيتها من العناصر الخرافية والأسطورية. ودائماً بالتجادل مع الواقع التاريخي. أي:

الواقع التاريخي أولاً وأخيراً بكل ما يكتنفه من استحقاقات اقتصادية وسياسية وثقافية...الخ هو الذي يتحكم بمصير الرواية الإسلامية ودرجة مطابقتها للواقع الذي تتحدث عنه، إضافة إلى آليات النقد التاريخي، وما قدمته الاكتشافات الحديثة لبعض النقوش وبعض الكتابات السريانية التي أحاطت بتلك الفترة والتي ما زالت تكتشف يوماً بعد يوم. حتى أنه يصل الأمر في النقد إلى خلق رواية جديدة بكل ما تعنيه الكلمة، لا تبتدعها ذاتيات المؤرخ وخياراته المعاصرة، بقدر ما ينطق بها جدل اللحظة التاريخية وتحولاتها ومفاعيلها. إذن، وحتى في حال قد وفرت المصادر التاريخية بعض المعلومات فلا يجب أن تؤخذ بعين الرضا، إلا بما يتفق ومعايير السياق التاريخي الذي نتحدث عنه. لماذا؟ لأن الحسَّ التاريخي كان معدما عند أي كاتب قديم، عندما كانوا يكتبون ويحشون مؤلفاتهم بالروايات الأسطورية المتآكلة والمتناقضة مع الواقع والحدث.

النقطة المحورية كأساس للنقد التاريخي في مسألة تكوين صورة سليمة عن محمد هي أولاً بـ الوعي التاريخي المادي بمحمد، بالمؤثرات المسيحية واليهودية التي قولبت اعتقاداته، أو بالمؤثرات الثقافية بشكل عام، وذلك بعيداً عن أيادي عفاريت السماء والآلهة والتي هي بمثابة السُّم في صدد النقد والدرس الموضوعيين من جهة، وبعيداً أيضاً عن عفاريت التشكيك اللامنهجي المفلس من النقد جهة ثانية؛ هذا إذا أردنا فعلاً أن نكوّن صورة تتجنب الذاتية واللامنهج التي تضطلع بها بعض الخطابات المعاصرة حتى التي تزعم أنها نقدية.

إن مهمة النقد التاريخي إعادة غربلة كل الروايات، الذي يبدأ بالتشكيك بكل شيء لينتهي بإثبات (جدلياً) مع ما ينطق به استحقاق الواقع التاريخي الذي نتحدث عنه.

إننا نسأل: هل تلك الرواية فعلاً تنطبق على محمد، ولتكن مثلاً رواية الآيات الشيطانية؟ أم أنها أيضاً تعبر عن مخيال الطبري وابن سعد وغيرهما من الذين قصوا حدث الآيات الشيطانية!؟؟ لماذا مثلاً يقف بعض النقاد الأنتي إسلام بصدد التهويل لهذه الرواية، وبنفس الوقت يرفضون روايات أخرى تخالف بعض ميولهم وخيارتهم الإيديولوجية؟ إننا نلاحظ في كلتا الحالتين انعدام المنهج سواء برفضهم الرواية أو بقبلوهم وتهليلهم لها. لنناقش هذا المثال سريعاً:

الآيات الشيطانية كمثال:

الآن أمامنا نص تراثي (ليس بالمعنى التقني للوثيقة) يخبرنا أن محمداً نطق بكلمات تخالف منطقه الثيولوجي التوحيدي، أي أنه أشرك آلهة أخرى مع إلهه، وقال بأن شفاعة هذه الآلهة الوثنية "ترتضى" Whose (Cranes) Intercession Is To Be Hoped For. إلى أي مدى يمكن أن يطابق هذا النص الواقع؟ ولن أستبق الحديث وأقول الحادثة. إن عملية إحكام الواقع بالنص هي هنا تماماً مهمة النقد التاريخي. ما معنى هذا الكلام؟

لا تتعلق المسألة بإمكان (الإمكانية التاريخية) أن الآيات الشيطانية قد حدثت وفقط. النقد التاريخي لا يكتفي بهذه الهرطقات الإيديولوجية، بل يمتد ليساءل: كيف حدثت؟ ولماذا حدثت؟ ومتى حدثت؟ ما هي الحوامل التاريخية للحدث؟ أو بالأحرى تحديد الشروط المادية التي هيأت لحدوث الحدث. هل تسمح تلك الحوامل بحدث مثل هذا؟...الخ. إذا تحققت فعلاً هذه المسائلات، بإمكاننا حينئذ، أن نتحدث عن قبول أو رفض ما تقوله الرواية الإسلامية.

تلك هي مهمة الوعي التاريخي أو بمعنى أدق: الوعي بالنقد التاريخي حينما ندرس الآيات الشيطانية. إن غياب هذا الوعي هو سبب التناطح المستمر إلى الآن، بين من يحاولون إثبات الحدث أو بين من يحاولون إنكاره. ذاك يأتي بروايات لابن سعد والطبري وغيرهما ليدلل على قوة حجته، وهذا يقول له: لم يذكرها ابن هشام!! لا بل يفندها بعلوم بدائية مصاغة بدائياً ولاهوتياً -بالمنطق السني- اسمها "الجرح والتعديل".

إذن المعركة مستعرة حول تساؤل: هل حدثت الآيات الشيطانية (= إمكانية وقوع الحدث) أم لا، وليست حول "القابلية التاريخية" لوقوع الحدث ولا كيف حدث ولا لماذا حدث. وهكذا، فالاثنان يعتمدان على الرواية التي خلفها لهما الحفاظ التراثيون، ولا مجال عندهما لتعديها إلى المستوى النقدي!. الطرفان ينتميان إلى خطين إيديولوجيين متعارضين، كل منهما يشنع بالآخر عن طريق حدوث أم عدم حدوث الآيات الشيطانية. لا بد من دراسة الواقع أولاً والبنية الفكرية الفوقية لأهل مكة واعتبار أن محمداً هو سليل ذلك الواقع والبنية ثانياً، وبالتالي من الطبيعي أن يرث محمد عقائد الوثنيين المختلطة بأفكار توحيدية ومسيحية (وفي يثرب ستختلط باليهودية...الخ). وحدث الآيات الشيطانية هو مجرد صورة لذلك الواقع.

هكذا سيتكشف لنا أننا في الواقع لسنا أمام محمد واحد. إن محمداً مع كل استحقاق تاريخي هو محمد آخر، بما يتناسب مع شروط الحدث والمرحلة. إنه في الواقع محمد التكتيكي. محمد مع خديجة زوجته المسيحية، هو غيره بعد وفاتها. حتى من ناحية زيجاته، فمع خديجة لم يستطع أن يتزوج إلا هي. أما في يثرب، فأبواب النساء قد فتحت، حتى ليخيل إلى واحدنا أنه أصبح زير نساء!! لكني لا أميل إلى هذا الابتسار، فكل زيجاته (وصل العدد إلى أربعين! ما بين متزوجات ومطلقات ومخطوبات). كانت زيجات سياسية كما يذهب وات، وخاصة إذا درسنا كل واحدة من نسوانه على حدة وظروف زواجها بمحمد، فسيتكشف البعد السياسي البراغماتي لكل زيجة له. أيضاً محمد هو غيره بعد مقاطعة بني هاشم، هو غيره في بيعتي العقبة. سنرى في بيعة العقبة أن بذور العمل السياسي والعسكري بدأت تتبلور على الأرض. سنقرأ له تصريحاً (مع ختام المرحلة المكية وهو ما زال في مكة) لم نعهده له أثناء كل الفترة المكية. ألم يخاطبه مبايعوه في العقبة بأنهم سيقطعون عهودهم مع يهود يثرب، وإذ بمحمد ينبري ويتبسم ويطلق تصريحه العسكري: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم» (ابن هشام: "السيرة النبوية" تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري. دار ابن كثير 1999 ج1 ص242.).

أمّا، ما لذي جرى؟ ما لذي حدث للنبوة؟ ما هو مصيرها مع ذلك التصريح العسكري؟ في الحقيقة، الذي جرى أنه ثمة استحقاق سياسي وعسكري بدأ يتبلور على الأرض. ولا بد أن نعلم أن محمداً كان عنده ميزة التأقلم السريع مع متطلبات الحدث، حتى ولو كان ذلك على حساب عيون النبوة أو لاهوته. هذه هي بالضبط رؤية النقد التاريخي في اصطلاح: "محمد المكي" الذي اعترض عليه المعلقون في مقال "الخطاب المحمدي المكي". بمعنى آخر، لا بد قبل قراءة محمد، درس ثنايا الحدث والمرحلة التي ستنتج محمداً آخراً. ولا يخفى علينا أن المرحلة التي سطع فيها نجم محمد هي فترة تحولات تاريخية عميقة، وخاصة الوضع السياسي لمكة والطائف ويثرب (لا ننسى خيوط الربط مع الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية)، زائداً عليه الوضع الاقتصادي الذي برع شاكر النابلسي في كتابه ("المال والهلال" دار الساقي ط1 . 2002) بقراءته وتأثيره على صعود محمد والإسلام. أما من جهة المصادر في التأريخ لمحمد، فربما نعود إليها في وقت لاحق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

جدل المتخيّل والتاريخيّ : من محمد اللاهوتي إلى محمد التاريخي مساهمة في ضرورة تعميق النقد التاريخي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

جدل المتخيّل والتاريخيّ : من محمد اللاهوتي إلى محمد التاريخي مساهمة في ضرورة تعميق النقد التاريخي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: