سئمت روحي حياتي في الرسوم الـباليات
فاقتلوني وأحرقونـي بعظامي الفانيات ( 1 )
الحلاج
بــــــدءا :
هل يكفيني التذكّر بأنّ مثل هذا الموقع كان جسرا مرّ به "فيتجنشتاين" ذات يوم كي أجلب بعضا من السلوى والعزاء لأعماقي؟ أم يغنيني تحويل طرفي إلى الآن لألفي من يعلّموننا النضال ويلقّنوننا ممارسة السياسة قد خطوا عبر أشباه هذه الفجاج كي أحقن شرايني بنسغ حياة استخرجه من تحت صلابة الصخر ومن عمق الهضاب الجرداء؟ أم أنّ الزمن غير الزمن، حيث الشراك الآن في كلّ حدب وصوب، فأيّ عتبة ستحضن الخطو، وحيث المقصلات تسدّ الأفق، ففي أيّ اتجاه ستشرئبّ الأعناق؟
-1-
اصطفاق ألواح الباب المهترئ، أزيز النافذة المكسورة، وجه الجدران الوسخ الممتقع، نباح الكلاب المتناهي لسمعي من بين الشعاب وعبر الوهاد، هدير ريح "الشركي" في تجاويف السقف القصديري ... وأنا هنا بجسدي مكوّم في الركن أعالج الترب لأصوغ يدا من الطين أكفكف بها دمعي المنساب بعدما شلّت يدي، ولساني المعجون بزرقة الجوع وبياض العطش يلفظ آخر ما تبقّى من حركاته وسكناته في لعن سلالتي والماء المهين الدافق لأبتي...، ومع أوّل شعاع لشمس الصبح أتسلق سنام الجبل الصخري وهناك في القمّة بين الصخور العظيمة الناتئة أصرخ في وجه القسوة لوحدي فلا أسمع إلا الرجع من أصداء جوفي...
-2-
وحيد هنا والوهاد تحتي، وأنا في أعلى الربوة لا مؤنس لي إلا من مات وقضى نحبه من الأهالي، وحيدا يعلّمني الليل أبجدية الصمت، منفردا تبوح لي جماجم الموتى بسرّ الخلد. وتعزف لي الريح على وتر الشواهد نشيد الأبد.
فرقة الموتى والكمنجات والوليّ الصالح الرابض بقربي رئيسا للجوقة، أستعير من حمرة الشفق دما يعيد الحياة لجسدي ويأخذ مكان الصفرة التي عمّرت طويلا في شراييني.
استفسرت الوليّ الصالح وألححت في السؤل : " ما الذي يجعل النسوة يتكالبن على المزار يوم الأحد، اليوم الذي أحتاجه لأستردّ ما في ذمّة الكرى من طول سهدي؟
تأتيك النساء عرايا مجرّدات من كلّ لبس، يسكبن على أجسادهنّ، قرب شاهدك، الماء الزلال، ويهرشن عاناتهن؟ أتراك خصبا، أتراك مالح الذرية بعد القحط العجف؟ أم تراك فحلا يعوّضهنّ بعض ما لحق بعولتهنّ من الخصي.
الـوليّ الـصالح مستـريح في ضجعته الأبدية، وأنا أسأل وأسأل، ولا أحد يسمع سواي فلا أفوز بالردّ.
-3-
" جونيه" (2) أنت على الربوة في إغفاءتك الأبدية، هدير البحر يدغدغ سمعك ويرهب نفسك، ورذاذ عبابه العاتي يغازل شاهدك، وأنا هنا على هذي الرّبى، في إقامتي القسرية أعجن أيامي بالأديم والزبل، وأزكم ما تبقى من أنفاسي بغبار علق بحواف الزمن، أنت قبالتك زرقة المدى وأنا هنا وجها لوجه مع الرواسي الدامية لقلبي.
" جونيه" أنت جبت الدنيا وطفت الأصقاع وأنا مطمر في هذي الأقاصي العليا / الدنيا، أشبالي تـتفتّق أزهـار شبـابهم، وأنا أسـقط آخر وريقاتي بعدما جفّت ورودي وتداعت جذوعي، وانقلب ربيع عمري خريفا.
"جونيه" أنت سرقت لحاجة في نفسك لا لحاجة بك، وأنا بي نزوع للسطو والنهب، فقد رزؤوني وخطفوا شهب الأمل من بين أحداقي وتركوني ضريرا، أنت من تنبّأ "كوكتو" به، وأنا تنبّأ ببؤسي أبي يوم بثّ كينونتي في أحشاء أمّي.
" جونيه "لما تنتصب قبالتي في هذا الخلاء، لماذا لا تسلط ذاكرتي سناها على طيفك دون سائر الأطياف العاجّة بها، ألأنّك لقيط، أم لأني محتاج لوقفتك جنبي. أنت المرابط إلى جنب الساعين للحصول على وطن، رافضا الحصول عليه لأناك.
" جونيه" نم قرير العين، سأستعير من مقلتيك بريقهما ومن جبهتك ضياءها ومن الشعيرات اليتيمة في أعلى رأسك شموخها، وسأمضي في دربي مهدهدا حزني مكفكفا دمعي، مغازلا جسد الحياة النزق، كي يكشف لي جهة الانعتاق وعندها سأمنح بعض المعنى لكينونتي.
-4-
أحدّق في النجمة الذابلة لأوّل المساء وفي البقع المستشرية في السقف القصديري كطفح جلدي، أركّز سهام بصري، فيشرد غصن ذاكرتي صوبك، صوب صورتك القديمة جنب المحطة، صوب يدك اليتيمة التي لوّحت وحيدة في الهواء لعينيّ المجهشتين خلف زجاج المقصورة، ومقلتيك الطافحتين بالتوق الدامع...
ذاكرتي المشروخة تلتئم بطيفك، بخدّيك المتورّدين، بشفتيك النديّتين المزمومتين كشفتيْ رضيع، بأريج الحرية الفائح من خصلات شعرك بعد هدهدة النسمات، بأناملنا المتشابكة، بجسدك الممشوق، بدقّة خصرك المطوّق بذراعي، ونحن نشقّ طريقنا بين الأمواج البشرية، غير عابئين بما يحيط بنا، غير مباليين بسهام العيون، بنفسنا المغرّدة الهاربة منا، التوّاقة لخلجان تزدان بعمران معتصر من قلب الحيوات ! ليتك تعودين بجناحيك لتحلّقي بي بعيدا عن هذا الخواء القاتل، لو تأتي أناملك مخلخلة شعري في غنج كطفل وديع، لو يعود بطن كفّك ماسحا في رقّة، كلّ ذرّة من وجهي علّه يمسح ما علق بي من عنت الأيام.
ليت جسدك البض ينبعث من طيّات فراشي اليتيم كي أبرأ من برودة هذه الأصقاع العفنة.
أين ريقك كي أرتوي من ظمأ المسافات، وكي تستعيد غاباتي خضرتها المفقودة، أما لي بدجى شعرك كي أصنع واقعا بديلا بين تلافيفه وأرحل بعيدا ولو عبر الحلم. ألن أطمع بشذاك كيما أستبدل أنفاسي المزكومة. لو تأتيني ترانيم صوتك من عمق المدى، لتذهب عني هذي الأجراس الصدئة المقرعة في سمعي وهذا الصدى...
...، لكنّي أعرف أن شيئا من هذا لن يكون وأني مكلوم يحاول جاهدا مداواة ذبحاته بعقار كذب، ومفجوع يتصيّد النوار من وهاد ذاكرته، كي يعيد بصيصا من الحياة لآنه الراكد وليزرع، ولو لثانية، بعض العطر في ورود الزينة البلاستيكية الزائفة.
أعلم أني فطمت، وأنّ كل الحلمات من أثداء الحياة تلقم لي، لتعصر المرارة وطعم العلقم في أمعائي، وأني عزمت بغير إرادة أن أكون "كييركيغارديّ" الوجهة. لأني اخترت الألم ولم أختر الحياة، فلا تكوني مثلي وكوني "رجينيا" ثانية، لا تشدّي وثاقك بي، فصوت "كييركيغارد" (3) الخافت المجلجل في آنٍ يملأ تجاويف نفسي اليتيمة الآخذة في الانكشاف : "من يحارب في سبيل الوجود الأسمى يتعين عليه أن يحرم نفسه من أفراح الوجود القصوى".
قد تكون آصرتي بك تمّت في غفلة من تقدير العواقب وقد تكونين ذريعة وعتبة وطأتها قدم فؤادي لتلج مملكة الرغبة والذكرى، فأمثالي لا يحبّون إلا بهما، فالتسرمد معناه الذبول ; أن أحتفظ بك كما أنت دون أن أعدّل فيك، يجعلك وأنت في أحضاني خرقة بالية عديمة النفع.
... هكذا أنا أحبّ الأشياء في احتراقها نحو الاكتمال، لا في كمالها، إذ التحقق يحمل في جوفه معاول الهدم ومعاني الدمار!
... سأشيع كلّ ذرة منك وسأذروها في لاتناهي هذا الخلاء، سأزيح طيفك عن صفحة هذي المقل المستكينة المتوسّلة المخلوطة بمسحة الحمرة، مقل الكلاب، هذه الكائنات المؤنسة لي في هذي البقاع، الكاشفة لأسدال الصمت عن وجودي، وقاتلتي إن أنا باغتتها في لحظة الجماع، والمنقّبة عني إن أنا أصبحت جثة هامدة تحت خراب هذه الأصقاع، عن صفحة مقلها سأزيح طيفك، وسأنحت من حمرتها بأناملي المشلولة تمثالا للوفاء، للصدح للجهر، لقتل الغدر والهدر.
وسأظل هنا أرقب الغراب سابحا في الفضاء تارة وقابعا على الصخر أخرى، وسأصحب عند أصيل كل يوم كلابي صوب الجبل فلا أنا كاتم لصرخاتي، ولا هي موقفة لنباحها في وجه الرداءة والقسمات المخيفة لهذا الزمن!
-5-
وحيدا أهيم على وجهي
لا أنا أنا، ولا الجسد جسدي
طار كلّ شيء مع أوّل هبّة من ريح الغسق
فتلاشي الحلم عند أوّل النفق،
كان ذاك مصيري يوم خطت أناملي أوّل ملامح لي
على رمال الصحراء
وكانت تلك نهايتي منذ آثرت المشي مقلوبا على رأسي
في البيداء!
الهوامش:
(1) نأخذ أبيات الحلاج عند تخومها الدنيوية وخفوتها الأرضي بعيدا عن وهجها الصوفي.
(2) : Jean Genetالكاتب الفرنسي الذي توفي سنة 1986 ودفن بمدينة العرائش، عرف بعلاقته مع البسطاء من الناس والفقراء. من مؤلفاته "الأمير العاشق" صدر الجزء السادس من أعماله الكاملة تحت عنوان "جان جنيه العدوّ السافر" بإشراف "ألبير ديشى" المسؤول عن تراث جنيه في مؤسسة ذاكرة الأدب الفرنسي المعاصر.
(3) : كييركغارد فيلسوف دانماركي ولد بكوبنهاكن سنة 1813 وتوفي بها سنة 1855، يعدّ شيخ الوجودية، ويمكن التمييز في حياته الفلسفية بين طورين بارزين : الطور الجمالي والطور الأخلاقي، يقول عنه "جان فال" : "يبقى كييركغارد، مع نيتشه معلم الجدل الوجودي فهو يعلمنا معه فنّ الأضداد في الحياة ".