حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 الفلسفة في التحليل النفسي فرويد و يونغ أنموذجيْن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فيصل
ثـــــــــــــــائر قـــائد
ثـــــــــــــــائر  قـــائد
فيصل


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 546
معدل التفوق : 1488
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 17/12/2011

الفلسفة في التحليل النفسي فرويد و يونغ أنموذجيْن Empty
28122013
مُساهمةالفلسفة في التحليل النفسي فرويد و يونغ أنموذجيْن

الفلسفة في التحليل النفسي فرويد و يونغ أنموذجيْن Arton10110-48193
التحليل النفسي بوصفه منهجية فلسفية:
إذا انطلقنا من التصور المألوف للفلسفة باعتبارها تساؤل عن الكينونة الأساسية للعالم، فإن الإنسان يعتبر محوراً للتساؤل الفلسفي عبر العصور، لأن الإنسان هو المتسائل و المجيب بآن واحد . تلك الجدلية بين السائل و المجيب تشكل امتداداً موضوعياً للجدلية التاريخية بين الإنسان كذات و العالم كموضوع، بدأت تلك الجدلية من انطلاق الإنسان من العالم لمعرفة نفسه، و بذلك الانطلاق البدئي وضع الخطوة الجبارة الأولى نحو المعرفة عن الذات في العالم من العالم، و بعد ذلك عاد الإنسان ليقلب ذلك التساؤل منطلقاً من الذات لمعرفة العالم و هنا بدأت ثورة ثانية هي ثورة سقراطية منطلقة من ضرورة معرفة الإنسان لنفسه و عمادها معرفة العالم من خلال الذات، إذا كانت الثورة الأولى خلقت المعارف الطبيعية فإن الثانية خلقت ما يسمى بالعلوم الإنسانية التي محورها الإنسان في العالم، لهذا فإن تلك العلوم و من ضمنها علم النفس لن تستطيع التخلي عن محورها الفلسفي المتسائل عن الذات في العالم، و من هذا المنطلق فإن علم النفس كان و ما يزال يدخل ضمن الإطار العام للفلسفة الباحثة عن كينونة الإنسان في العالم، حيث يؤكد العالم النفسي يونغ على هذا الترابط العضوي بين نمطي المعرفة النفسي و الفلسفي قائلاً “أظن أنه يوجد من علوم النفس بقدر ما يوجد من الفلسفات، و ذلك لأن بين علم النفس و الفلسفة روابط لا انفكاك منها على اعتبار أن كليهما يشكلان نظام رأي يبحث في موضوع لا يمكن اختباره تماماً و بالتالي لا يمكن فهمه وفق منهج تجريبي بحت، و على ذلك فإن كلا الميدانين من الدروس يحفز على التفكير مما ينتج عنه تشكيل آراء تبلغ من الكثرة حداً يتطلب معه جهود ضخمة لاستيعابها جميعاً، لهذا لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر لأن كل منهما يمد الآخر بمسلماته الأولية الضمنية التي غالباً ما تكون خافية” (1).

من هذا المنطلق تكتسي الجذور الفلسفية لعلم النفس أهمية خاصة دون أن يعود ذلك لأسباب محض تاريخية، فإن بعض الاهتمامات الخلفية لعلم النفس فلسفي في طبيعته بالمعنى الميتافيزيقي و الدلالي معاً (2). لهذا بالذات نجد أن التحليل النفسي اكتسى منذ نشأته كتيار وصفي تفسيري للإنسان طابعاً فلسفياً اختلفت منهجياته قرباً أو بعداً عن التصورات الميتافيزيقية حسب مدارسه المتنوعة و تفرعاتها الفكرية، و أحد مصادر حيوية التحليل النفسي تكمن في أنه شكل نوعاً من النظريات الشمولية، و إذا ما استخدمنا المصطلح الأرسطي نقول بأنها نظرية مفتاح استطاعت أن تلج أبواباً كثيرة فلم تقتصر على دراسة الأحلام و الغرائز و الأمراض النفسية أو الانحرافات و حسب، و إنما دخلت أبواب الحضارة و الدين و الفن و الاجتماع و الميثولوجيات و التطور، و حتى الميتافيزيقا، (3) إذ أعاد التحليل النفسي النظر في الكثير من المعتقدات السائدة التي يعتمدها الإنسان منذ عهد الفلاسفة اليونان عندما درس السلوك دراسة وصفية ليس فقط من حيث الشرح الوضعي، و إنما من حيث المعنى أيضاً، و هذه القفزة كان من نتائجها حسب الدكتور مصطفى زيور أن الإنسان المعاصر لم يقتصر على إعادة النظر فيما كان مسلماً به سابقاً، لكن تعدى ذلك إلى العمل الفكري في عقلانيته حسب المفهوم الديكارتي الذي اعتمد العقل كوسيلة وحيدة لاستكشاف الواقع، فالباحث أو العالم منذ أن عرف مكامن رغباته لم يعد يعتبر نفسه مستقلاً و متحرراً من علمه أو اكتشافاته، فما يصدر عنه ليس إلا وليد الهوام الذي كان يرافقه طيلة حياته على غير علم منه كمادة مكبوتة و ما إنتاجه إلا عودة للمكبوت (4)، لذلك لا يمكننا أن ننكر الانقلاب الفكري الكبير الذي رافق ظهور التحليل النفسي و الذي طبع القرن العشرين بطابعه، إنه انقلاب ابستمولوجي جديد يدعو صراحة الإنسان إلى تحرره من القيود المكبوتة ليفتش عن حقيقته الكامنة وراء جموده و استسلامه . وهذا ما سنحاول دراسته من خلال الاطلاع على تصورات مؤسس مدرسة التحليل النفسي و أحد تلامذته المنشقين.

أولاً : المنهجية الفلسفية في التحليل النفسي ( نموذج فرويد ) : لا يمكننا أن ننكر أن اكتشافات فرويد الأساسية كانت تشكل نوعاً من الحدس الفني بأسلوب التأمل الفلسفي ( لا سيما في كتاباته المتأخرة ) مع الالتزام بقواعد البحث العلمي الدقيق و الصارم أحياناً، و لعل هذه المصادر الثلاثة لاكتشافاته تفسر لنا التناقض في ما وجه إليه من نقد، فقد اعتبره نقاده من أهل العلم أنه يميل إلى الاتجاه الروحاني في أبحاثه في أن نقاد آخرين أخذوا عليه اتجاهه المادي في أبحاثه النفسية حتى قالوا بأن النفس عنده أضحت شيء آلي.
و الجدة الحقيقية للتصور الفرويدي لا تأتي من التصور الجنسي للعصاب حيث تحدّث فلاسفة سبقوه عن هذا الأصل بشكل غير مباشر، و إنما تكمن ثورته الفكرية بالكشف عن الدلالة _ أي دلالة الظواهر النفسية التي اعتبرت دائماً فاقدة للمعنى و من اكتشاف الحيل التي تحتجب وراءها تلك الدلالة، لذلك ليس من قبيل الصدفة أن يعتبر فرويد أفعال بسيطة كزلات القلم أو فلتات اللسان و هي ظواهر اعتبرت دوماً لا دلالة لها، مدخلاً لدراسة الأعصبة، و من تلك الفكرة التي اكتشفها أصبح الاهتمام منصباً على كشف العلاقة الرمزية بين الدال و المدلول حيث تتجلى المهمة الرئيسة لمنهجية التحليل النفسي الفرويدي من خلال الكشف عن تلك الدلالة من خلال البحث المعمق عن دلالات لا يفكر المرء قط بوجودها، و محاولة فك رموز تلك اللغة الرمزية بين الدال و المدلول تشكل الخصوصية للمدرسة الفرويدية في التحليل النفسي، حيث تتحول الأفعال النفسية بكل مظاهرها إلى لغة ذات معنى و يغدو الحلم و التعبير العصابي يتصفان بقدرة التعبير بطريقة مقنّعة و هذا بالضبط ما أكده لاكان من خلال إعادة قراءته لفرويد عندما اعتبر بأن كل نتاجات اللاوعي بما فيها الحلم و العرض العصابي لها دلالتها و بعدها الرمزي(5).

من خلال الكشف عن دلالة و معنى السلوك حقق فرويد قفزة ابستمولوجية عن علم النفس الكلاسيكي القائم على أرضية ميتافيزيقية من فصل ديكارتي بين الجسمي و النفسي و البيولوجي و السيكولوجي، حيث أعاد فرويد دعائم الربط بين البيولوجي و النفسي بربطه بين العوارض البيولوجية و الكوامن النفسية، فالهستريا على سبيل المثال لم تعد عبارة عن طقوس و حالات من السلوك السحري التي لا معنى لها، بل أصبحت حالة اختلال عضوي يستند إلى أرضية نفسية عميقة تعبر عن نفسها من خلال صراع داخلي بين مكونات الأنا الأعلى و الهو، و بذلك استطاع فرويد اكتشاف لغة جديدة هي لغة اللاوعي، لغة الجسم في الهستريا و الصورة في الحلم و الأفكار في الوساوس إنها لغة كان فرويد أول من حاول فك رموزها و بتلك المحاولة لتوضيح العلاقة الرمزية بين الدال و المدلول استطاع فرويد تعميم فرضياته و بدونها لبقي التحليل النفسي مجرد تقنية من تقنيات العلاج النفسي (6)، و من تلك الأرضية قدم فرويد تصوراته الفلسفية فعبر عن مفهوماً ثلاثياً لتطور الحالة النفسية و الفكرية للإنسان تذكرنا بحالات كونت الوضعية الثلاثة حيث تطور البشرية يبدأ عند فرويد من المرحلة الإحيائية التي تقابل النرجسية و هي مرحلة إسقاط الذات على العالم، ثم المرحلة الدينية و هي مرحلة موضعة العلاقات الاجتماعية حيث يتثبت الليبيدو على الأهل، و المرحلة الثالثة هي العلمية التي يتم بها التخلي عن اللذة و الخضوع لمتطلبات الليبيدو حيث تظهر آليات الكبت الاجتماعي في الحضارة (7)، تلك المراحل تقام على بنية سلّم بها فرويد وبنى عليها نظريته هي مسلمة اللاشعور الذي أعطاه معنى واسع الدلالة، فاللاشعور عنده لم يعد كما في التصور القديم يعمل كيفما كان كمقابل للشعور و إنما يعمل ضمن إطار من القوانين ذات الدلالة و المعنى كالنقل و التكثيف و المجاز و الاستعارة بحيث نجد تلك الأوليات الثابتة باستمرار (8)، و باكتشاف الحلم أصبح للتحليل النفسي معنى جديد قائم على أساس المنهج الوصفي حيث يغدو الحلم عند فرويد كواقعة نفسية ينبغي تحديدها بشكل جديد و اعادة توضيح كيفية ارتباطها بالفرد، حيث تتحول الواقعة المادية إلى واقعة نفسية متصلة جدلياً بالفرد و ليست منفصلة عنه، بذلك قدم التحليل النفسي الفرويدي تصوراً جديداً للحوادث النفسية من خلال تأويلها فهم معانيها و هو ما يدعى بمنهج التأويل و التفسير الفرويدي خلال حديثه عن الأحلام و العصاب، لذلك لا يمكننا أن ننظر للتحليل النفسي كتقنية علاجية قدمها فرويد بل ينبغي للمطلع أن يركز على البنية النظرية الكامنة خلف تقنيته، حيث يعطينا التحليل النفسي الفرويدي من خلال مفاهيمه النظرية الأسس التي ينبني عليها كل علم من حيث تحديد الماهية المجردة و الصورية لموضوعه كشرط لإمكانية كل تطبيق عملي على الموضوعات العينية، فتجريديات التحليل النفسي تشكل عند ألتوسير المفاهيم العلمية الأصلية لموضوعاتها، حيث تظهر النزعة العقلية الفرويدية القائلة بأسبقية التصور العقلي على الفعل ( الإسقاط – العصاب ) (9) لذلك يمكننا التأكيد على النزعة العقلانية في تحليلية فرويد التي طبعت معظم دراساته بما فيها الفن حيث يؤكد بأن وراء الأعمال الفنية تنوعات لاستيهام كلي أي أن وراء الفروق تشابه بنيوي يتمثل في مبدأ معقولية تلك الأعمال، فهناك مبدأ شمولي حتمي عقلاني تخضع له سلوكيات البشر بما فيها النماذج الإبداعية عبر التاريخ حيث يقارن فرويد بين أوديب الملك لسوفكليس و هاملت لشكسبير و الأخوة كارامازوف لدستيوفسكي مؤكداً أنه ليس من قبيل المصادفة أن تعالج هذه الروايات الثلاث في ثلاثة عصور موضوعاً واحداً هو جريمة قتل الأب و أن تكون الدافعية لجريمة القتل لدى المؤلفين الثلاثة قائمة على الأمر ذاته هو المنافسة الجنسية على امرأة (10) حيث تشكل عقدة أوديب النواة الأصيلة لكل ثقافة و فن و أخلاق، و من تلك المنطلقات العقلانية الشمولية تبنى فرويد التصور الحتمي في تحليله للنفس الإنسانية، و المصادرة الأساسية للطريقة الفرويدية تتضمن بأن لكل شيء دلالة تعود لقوانين كلية هي اللاشعور و بالتالي لا يوجد سلوك أو فكر أو تصور بلا معنى حيث استطاع أن ينقل الحتمية الفيزيائية للمادة ممثلة بنيوتن ثم اينشتاين إلى الميدان السيكولوجي، فالسلوك يخضع لقانون اللاشعور و بالتالي يمكن التنبؤ بسلوك الإنسان انطلاقا من معرفة دلالات اللاشعور التي يسير بمقتضاها محاولاً من خلال فرضيته في اللاشعور أن يلغي التناقض الذي تقع فيه فلسفات الشعور لذلك لم يخرج فرويد في تصوراته الحتمية عن الإطار السائد في عصره المتأثر بآخر مراحل السببية و الحتمية حيث يمثل فرويد أحد أواخر مثلي المذهب الميكانيكي الحتمي الكبار بعد أن مده إلى السلوك الإنساني و آلياته مع عدم التحلي عن التأثير الواضح بالفلسفة العقلانية، فعلى الرغم من أن علم النفس قد رسخ نفسه مع منعطف القرن العشرين كعلم مستقل يبنى على الملاحظة و التجربة المنهجيين كوساطة لتجميع المعارف، إلا أنه لم يلبث أن خضع لافتراضات الفلسفة العقلية حيث أخذ يتبدى إلى حد كبير كنوع من التفكير الجديد و المدارس الجديدة في علم النفس التي بزغت خلال العقود الثلاث الأولى من القرن العشرين يمكن النظر إليها على أنها ثورات قامت ضد افتراض أو آخر من الافتراضات المستمدة مباشرة من مأثور الفلسفة التجريبية، و نتيجة للمؤثرات الفكرية من العلوم الأخرى فإن معظم علماء النفس المهتمين بفهم الظواهر الدافعية للسلوك يشتركون على الأقل بإيمان بالحتمية العلمية الشاملة حيث كل أنواع السلوك ترجع إلى أسباب معينة و حيث يتيسر من حيث المبدأ اكتشاف قوانين منهجية من السببية تحكم السلوكين الإنساني و الحيواني، هذا المنهج تبناه فرويد الذي أكد على أن أشكال السلوك البشري ناجم ليس عن عمل القوى الشعورية العقلية، بل عن آليات لا شعورية و قوى لا عقلية و غريزية، تلك القوى لا يمكن أن تُفهم إلا بمجموعة القوانين السببية و التفسير العقلي العلمي الذي اعتبره مفتاح فهم السلوك البشري فيقول “يوم يٌكره الناس على الخضوع لسلطان العقل سيرون بأنه الرابطة الأقوى من سائر الروابط التي تربط بينهم و هو الرابطة التي يحق لنا أن نتوقع منها تحقيق المزيد من التوافق بينهم” (11).

ذلك التأثر بالتفسير الميكانيكي للسلوك لم يكن عند فرويد إلا امتداد لتأثره الشديد بالمدرسة الفيزيولوجية للعالم بروكه الذي يعتبر من أقطاب مدرسة هلمهولتز الآلية التي قامت كرد فعل على فلسفة شيلينغ العاطفية ، مع الأخذ بعين الاعتبار اهتمام فرويد الكبير بأفكار النظرية التطورية لداروين الأمر الذي حمله للاهتمام الكبير في الطب في بداية حياته العلمية ، فتلك الحماسة الكبيرة للداروينية و مبادئ هلمهولتز كانت بمثابة الضابط لميله الفطري نحو الجدل الفلسفي و التحليق في أهواء المشاكل الإنسانية الكبرى، حيث نجد أصداء مفاهيم تلك المدرسة الآلية ضمن مفاهيم التحليل النفسي الأساسية كمفهوم فرويد عن الطاقة الاقتصادية التي تعتمد على تقويم الطاقة النفسية تقويماً كمياً، فكتب فرويد أن العمل الوظائفي النفسي يمكنه أن يعرف من خلال مقاربة ثلاثية أولها دينامية و هي تلك التي تنشد دراسة النزعات اللاشعورية، أي الدراسة التي تمنح إنتاجاتنا معنى الدلالة، و ثانيها اقتصادية و هي التي غرضها أن تحدد القوى المتواجهة و قوة المعنى ممثلة بالطاقة النفسية، و ثالثها موقعية و هي التي تصف مراجع العمل الوظائفي النفسي، و بالتالي فلا قيمة لعلم نفس يستثني في أبحاثه الظواهر المرضية أو ينسبها إلى علل غريبة عن قطاع الحتمية العلمية، فالسلوك النفسي يعود إلى جدلية سببية يحكمها مبدأ اللذة و الألم حيث كل ما هو دوافعي ينزع إلى اللذة و يتجنب اللالذة، و لا يمكن إبطال التوتر المفعم باللالذة إلا بإرضاء الحاجة التي هي هدف الدافع حيث استطاع أن يقدم نظرية شمولية تعود لروابط سببية متينة و هذا الصراع الجدلي جعلت أحد تلامذة فرويد هو رايخ يحاول الربط بينه و بين الماركسية على اعتبار أن كلا التصورين ألحا على الصراع الخفي، هذا الصراع أبرز فرويد الجانب الداخلي منه في حين أظهره ماركس في جانبه الخارجي الاجتماعي (12).

من هذا المنطلق تماشت الفرويدية مع التيار المادي في التفسير، فتبعاً لفرويد ليس حب الذات و حب الموضوع متضادين، فحب الموضوع ينشأ عن الليبيدو النرجسي و ممكن في أي وقت أن يعود و يستحيل إليه و طالما أن الاثنين يمثلان ميلين إلى الحب فهما متماهيين و كل منهما يعود إلى منبع واحد هو الجهاز النفسي الجنسي البدئي و النرجسية الأولية، و الأمر نفسه يتحقق في العلاقة بين الوعي و اللاوعي فهما نقيضان لكنهما في سلوك كالعصاب القهري يكونان متضادتان و متماهيتان بالوقت نفسه، و كذلك الأمر فيما يتعلق بالعلاقة بين الأنا و الهو الذين يشكلان نقيضين متماهيين، فليست الأنا سوى جزء متباين من الهو بشكل خاص، لكنها تصبح بالوقت نفسه و تحت تأثير العالم الخارجي عدوة و مناوئة وظيفياً للهو (13)، و من الناحية الأيديولوجية نجد أن كلا المفهومين الماركسي و الفرويدي جاءا كرد فعل عنيف على بنية العلاقات الرأسمالية، كما طرحا مفهوم الاغتراب في هذه العلاقات ذلك التمازج جعلت رايخ يقول بأن التحليل النفسي هو البذرة التي ينشأ عنها وينمو علم نفس مادي جدلي(14)، لكن هذا في الواقع لم يكن رأي فرويد و هذا التشابه لا يجعلنا نذهب إلى حد الدمج بين التصورين، ففرويد رغم انطلاقته المادية في تفسيره للسلوك البشري و دلالاته فإنه بقي في سياقه العام ضمن الإطار المثالي الذاتي لهذا التصور .
وهذا جعله ينتقد بشدة التصور المادي لبنية النفس البشرية، فهناك تغاير و تعارض في التفسيرين الماركسي و الفرويدي للتركيب النفسي للفرد و علاقة ذلك بالمنظومة الاجتماعية، فالأنا الأعلى عند الطفل كما يصرح فرويد لا تتكون على صورة الوالدين و إنما على صورة أناهما العليا فهو يمتلئ بالمضمون عينه و يغدو ممثلاً للتقاليد و لجميع الأحكام القيمية المتناقلة على هذا النحو عبر الأجيال و من خلال ذلك يمكن أن نعرف الدور الذي يضطلع به الأنا الأعلى في فهم السلوك الاجتماعي للإنسان ، و يقول فرويد أرجح الظن أن قصور تفاسير التاريخ التي تسمى مادية يرجع إلى إهمالها لهذا العامل الذي تنحيه جانباً بحجة أن إيديولوجيات البشر ما هي إلا نتاج فوقي لشروطهم الاقتصادية الراهنة، و هذا عند فرويد لا يشكل كل الحق فالبشرية لا تعيش حاضرها فقط بل إن ماضي الأعراق و الشعوب و تقاليدها تبقى مستمرة ضمن إيديولوجيات الأنا الأعلى، هذه التقاليد لا تتأثر إلا ببطء بالحاضر و ظروفه، و ما دامت تفعل فعلها عبر الأنا الأعلى فإنها ستبقى و تظل تضطلع بدور هام في الحياة الإنسانية و بشكل مستقل و منفصل عن الشروط الاقتصادية (15) لذلك يؤكد بأن الماركسية لا تدين بقوتها لتصورها للتاريخ و لا لتنبؤاتها المستقبلية التي تستخلصها من هذا التصور و إنما لبيانها الحاذق للتأثير الحازم الذي يمارسه الوضع الاقتصادي على نشاط البشر الفكري و الفني و الأخلاقي، و لكن من المستحيل عند فرويد التسليم بأن العوامل الاقتصادية هي الوحيدة التي تحدد مسير البشر في المجتمع فمن الحقائق التي لا سبيل إلى إنكارها أن الأشخاص و الأقوام و الأعراق المختلفة لا يسلكون سلوكاً متشابهاً حتى و إن عاشوا في ظروف اقتصادية واحدة، لذلك لا يجوز التغاضي عن دور العوامل السيكولوجية حين يتعلق الأمر بردود فعل الكائنات البشرية الحية، فهذه العوامل لا تضطلع بدور في بناء الشروط الاقتصادية و حسب بل تعين جميع أفعال الناس الذين لا يستجيبون لهذه الشروط إلا من خلال دوافعهم الغريزية كغرائز البقاء و العدوانية و اللذة و تفادي الألم (16)، من ذلك نجد التباعد البنيوي الكبير بين التيارين بشكل يجعلنا لا نوافق رايخ فيما ذهب إليه فالتشابه الأيديولوجي الظاهري بين التيارين لا ينفي وجود تباعد فلسفي و ابستمولوجي جعل أحدهما و هو الفرويدي ينفي أسس المادية العلمية الممثلة بالعوامل الاقتصادية راداً إياها لمبدأ نفسي لا يراه الماركسيين إلا انعكاس ثانوي لبنية العلاقات الاقتصادية، و الأمر الوحيد منهجياً الذي يجمع بين التيارين كما نرى هو إيمانهما العميق بالحتمية .
و باستمرار القراءة لفكر فرويد نجد أن منهجه الحتمي يتنقل بين تيارين هما التجريبية ذات التصورات البعدية و العقلانية ذات التصورات القبلية فرغم تبنيه الواضح للتيار التجريبي نجده يتحدث عن وجود كوامن فطرية في الإنسان كنوع، حيث يؤكد وحدانية النفس البشرية الجوهرية فعملية التطور الجنسي و الكمون الجنسي مثلاً تعود إلى وراثة عامة سابقة للنوع دون أي تأثير متعلق بالتربية و الاكتساب حيث يقول “يبدو أن حياة الأطفال الجنسية تبزغ عادة في صورة تقبل المشاهدة حوالي السنة الثالثة أو الرابعة من العمر و بعد ذلك تأتي فترة الكمون الكلي أو الجزئي حيث تبنى القواعد و القوى النفسية التي تكون فيما بعد بمثابة عقبات في طريق الغريزة الجنسية حيث تحد من تدفقها كما تفعل السدود، و هذا يحدث لدى الأطفال المتحضرين بشكل خاص و هو ناتج عن التربية، و لا ريب بأن للتربية نصيب كبير في ذلك، لكن هذا النمو محدد عضوياً و منبثق عن الوراثة و قد يتم بين الفينة و الأخرى بدون مؤازرة التربية التي لا تتخطى مجالها المخصص لها في تتبع خطوط ما رسم لها وراثياً فتبرزه بروزاً أجلى و أعمق” (17) فكل شيء محدد قبلياً بشكل فطري غريزي ووراثي و هذا يشمل النوع البشري بأكمله، و جميع البشر لديهم البنية الليبيدية نفسها و هم خاضعون لنفس القوانين السيكولوجية كمبدأ اللذة و الكبت و التحويل و الاستبدال الرمزي و الإسقاط و التماهي و التصعيد، و من ذلك يمكننا أن نفسر سلوك المعاصرين لنا من البشر كما نفسر سلوك أناس ما قبل التاريخ بنفس الطريقة . (18)
و من هذا المنطلق يرفض فرويد المصادفة تماماً في دراساته فيقول “بأن المحلل النفسي يمتاز بالإيمان العميق بمبدأ الحتمية في الحياة النفسية التي لا يمكن أن تكون اعتباطية أو وليدة المصادفة، فالمحلل يفترض وجود سبب معين لكل ظاهرة نفسية في الوقت الذي لا يتصور غيره إمكانية وجود ذلك السبب” لذلك رفض فرويد المنهجيات التأملية في الفلسفة، و المعرفة التي يطلق عليها فرويد بالفلسفية ليست هي مشاكل الميتافيزيقا التي يرفضها فرويد رفضاً قاطعاً، بل هي فلسفة تجريبية تقوم على قواعد الاستقراء العلمي، إنها فلسفة العالم التجريبي فقط، لهذا لا نستغرب الحملة التي شنها على الفلسفة التأملية التي في الواقع لم يخرج هو نفسه عنها في التحليل الأخير حيث يقول “أن الفلسفة لا تعارض العلم، بل تتصرف هي نفسها كما لو أنها علم و قد تقتبس أحياناً مناهجه و طرائقه غير أنها تبتعد و تفترق عنه من حيث أنها تتعلق بالأوهام و تدعي بأنها تقدم صورة جديدة مكتملة لا ثغرات فيها عن الكون، و هو ادعاء يتيح لنا كل تقدم جديد في المعرفة أن نتحقق من بطلانه، حيث تضل الفلسفة عن سواء السبيل من وجهة نظر المنهج بمغالاتها في القيمة المعرفية لعملياتها المنطقية و تسليمها بوجود مصادر أخرى للمعرفة كالحدس مثلاً” (19).
لكن هل خرج فرويد عن التصورات الفلسفية للفلسفة التأملية؟ في الواقع نجده لم يخرج إطلاقاً عن ذلك الإطار الذي انتقده، فعندما نقرأ فرويد نجده قد انطلق من تصوراته للنفس البشرية من مبدأين هما مبدأ الواقع ( الأنا ) و مبدأ اللذة ( الخيال الجنسي ) حيث تكون دوافع الأنا أكثر تلاؤماً مع الواقع من الدوافع الجنسية التي تجد إشباعها في جسم الطفل وذلك الإشباع لا يلبث و أن يكبت أبان فترة الكمون لدى الطفل الذي ينشأ بعد عقدة أوديب و عندها يحدث ترابط متين بين دوافع الأنا و الفاعلية الشعورية و مبدأ الواقع من جهة، و بين الدوافع الجنسية و الاستيهام و مبدأ اللذة من جهة أخرى .
فإذا ما تمسكنا بالمعنى الحرفي لهذا التصور الفرويدي نجده بقي حبيس التصور التقليدي الذي يفصل بين المتخيل و الواقعي و يجعل الخيال فاعلية بديلة ثانوية و تعويضية عن الواقع الذي أصبح سيئاً فلم يخرج هنا فرويد عن تيار الفلاسفة الكلاسيكيين الذين يرون بأن للخيال منزلة الوسيط بين النفس و الجسم، فعند ديكارت نجد بأن الخيال هو انطباق النفس على الجسم و هو يستخدم للبرهان على إمكانية اتحاد النفس بالجسم، و عند اسبينوزا الخيال هو وسيط بين الفهم و الأهواء و عند كانط يمثل الخيال وسيط بين مقولات الفهم و الحدوس الحسية (20).
و بالفصل الثنائي الذي اتخذه فرويد بين الواقع و الغرائز و ضمن الغرائز نفسها بين غريزة الموت ( ثاناطوس ) و غريزة الحياة الجنسية ( ايروس ) و في مجال الحالات العصابية كثنائية المازوخية و السادية و الشعور و اللاشعور نجده قد تقارب مع التصور الثنائي الديكارتي مع الفارق في أن الثنائية الديكارتية ميتافيزيقية و هذا ما حوله فرويد إلى ثنائية جدلية متفاعلة، كذلك يمكننا استجلاء تأثيرات كانطية في تصورات فرويد للمعرفة التي يحاول من خلالها تقديم نموذج جديد يخالف قليلاً تصورات كانط عن كون المعرفة الإنسانية تعتمد على الحس و التجربة الذين ينقلان معلومات متفرقة عن العالم لا يمكن للعقل ترتيبها إلا بالاستعانة بمبدأين أوليين هما الزمان و المكان حيث الأول صورة أولية في العقل، ففرويد يحاول استبدال تصورات الزمان بمفهوم العمليات النفسية اللاشعورية التي تخرج عن كل إطار زماني قبلي فيقول “إننا نستطيع أن نعرض المناقشة لنظرية كنط التي تقول بأن الزمان و المكان شكلان ضروريان للفكر إذ نعرف بأن العمليات النفسية اللاشعورية عمليات تخرج في صميمها عن الزمان و لا صلة لها به على الإطلاق، فهي ليست مرتبة ترتيباً زمنياً و أن مرور الزمن لا يغير منها و لا يبدل فيها أي تبديل” (21) كما أن فرويد يبرز كثافة التجربة الإنسانية، فحيث كان هيجل مثلاً يربط بين الموجود و المعقول نجد بأن فرويد يجعل الإنسان يتأرجح بين القيم الأخلاقية و العقلية و الجمالية و بين النزعات الغامضة اللاشعورية و هذه الكثافة تتمثل من خلال علاقة الإنسان بأناه الخاص، فعلى العكس مما يبدو للمواقف العابرة السطحية نجد عند فرويد أن الإنسان جاهل لنفسه و من هنا يمكن أن نعطي أبعاداً تحليلية لدعوة سقراط إلى أن يعرف الإنسان نفسه (22)لكن فرويد لم يأخذ بالنظرية النفسية للفلاسفة التجريبيين الإنكليز، فرغم إصراره على النهج التجريبي نجده يرفض تصور التجريبيين الذين يرون النفس مجموعة من الأحاسيس التي تتباعد و تتلاقى وفقاً لقوانين التداعي النفسية فتبدو كأنها ذرات متعددة تترابط و تتفكك بفعل قوانين خارجية، حيث رفض فرويد ذلك التصور و هو على يقين عميق بأن الظاهرات النفسية تكون على تفاعل دائم فيما بينها إذ أن ديناميكيتها آنية و تاريخية (23).

و يتقاطع فرويد في تصوراته مع فلاسفة الحياة و الإرادة كشوبنهاور الذي سبق التحليل النفسي بفرضية الإرادة اللاواعية التي تقابل بشكل أو بآخر الغرائز النفسية التي تحدث عنها فرويد و قد تحدث فرويد عن دور مهم لشوبنهاور في نظرية الغرائز عندما قال بأن هذا الفيلسوف هو الذي ذكّر البشر بأهمية صبواتهم الجنسية المهوّن من شأنها على الدوام (24) و يضيف في كتاب آخر بأن شوبنهاور قد بين للناس منذ أمد طويل إلى أي مدى تحدد نوازعهم الجنسية نشاطهم و جهودهم (25)بذلك يمكننا التحدث عن فرويد كاستمرار لتيار فلسفي يؤكد على الديناميكية الواعية للحياة محاولاً إبرازها بأسلوب تجريبي شابه الكثير من التأملات الحدسية التي استمر تأثره بها من خلال المرور بالفلسفة المعاصرة حيث نجده يتفق مع الفلسفة الظاهراتية بأن النفسي ليس حالة جامدة و لا هو جوهر يتبدى في ظواهر ، كما يتفق معهم في إثبات شفافية النفسي و إمكانية فهمه عبر ما يحصل فيه من معنى و في الوقت ذاته إثبات ارتباط النفسي بالمجتمع و العالم، و من هذا المحور نجد التقاطع بين منهجية هوسرل الظاهراتية ذات التوجه التأملي الفلسفي و بين منهجية فرويد ذو المنحى العلاجي التجريبي، فكل منهما ربط السلوك بالمعنى ممثلاً بقصدية هوسرل و رمزية فرويد، بحيث ينبغي بالضرورة فهم التصرفات الإنسانية لا تفسيرها فقط (26).

و بذلك يغدو فرويد شمولي و حتمي و مادي لكن ليس على الطريقة الماركسية وعقلاني مثالي لكن ليس على الطريقة الثنائية الديكارتية و لا القبلية الكانطية و تجريبي لكن ليس على طريقة التجريبيين الإنكليز بل جمع بين كل هذه التيارات بتصور علمي توافقي جعلنا نتصور فرويد لا كفيلسوف، بل كعالم بالدرجة الأولى تبنى بعض التصورات الفلسفية السائدة في عصره التي لم ترك مجال لأي تفسير خارج الإطار الحتمي، ذلك الإطار الذي و إن أعطى الإلهام الأكثر شهرة للتحليل النفسي إلا أنه جعل تلك المدرسة نفسها تنقسم لتيارات مختلفة لهذا لا يمكننا و نحن نتناول تصورات تلك المدرسة الفلسفية من إغفال دور العالم النفسي الفيلسوف كارل يونغ.
ثانياً : المنهجية الفلسفية في التحليل النفسي ( يونغ كنموذج معارض ) : - رفض يونغ بداية كل المنهجية الشمولية التي تبناها فرويد في تصوره للنفس الإنسانية حيث يقول “يجب ألا نفهم الإنسان على أنه وحدة متكررة، بل يجب النظر إليه باعتباره شخص فريد لا يمكننا في التحليل الأخير أن نعرفه و لا أن نشبهه بأي شيء آخر سواه، و بالتالي فإني إن أردت أن أفهم كائناً بشرياً ينبغي أن أطرح جانباً جميع المعارف العلمية عن الإنسان المتوسط ( الإحصائي ) و أن أنبذ جميع النظريات بغية اتخاذ موقف جديد و غير متحيز، و لا أستطيع أن أقوم بتلك المهمة إلا بتبني العقل المنفتح” و بالتالي فإنه عند يونغ في حكمنا على الإنسان حكماً علمياً يتخذ الطابع الشمولي المتكرر و النمطي لا يتعدى التعرف العام الذي يعين البشر و يرتبهم بحسب حروف الهجاء، و لكن إن أردنا أن نفهم الإنسان كطبيعة حقيقية لوجدنا بأنه الكائن البشري المفرد و الفريد و هذا التصور للإنسان هو وحده التصور الجدير بالبحث و ذلك بعد أن ننزعه عن جميع المطابقات و المقاييس العلمية الغالية على رجل العلم (27).
لذلك نجد أن منهجية يونغ هي منهجية الفهم و التماهي قبل الوصف و التفسير العقلي التي تبناها فرويد، فسياقات العقل البشري لا يمكنها أن تحيط بروح العصر لذلك نجد يونغ يمثل اتجاه فلسفي مضاد للنزعة العلمية فيقول“كما كان الاعتقاد السائد سابقاً بأن كل ما هو موجود فإن وجوده مستمد من العناية الإلهية المبدعة هو اعتقاد لا مراء فيه، كذلك أصبح اكتشاف القرن التاسع عشر للحقيقة القائلة بأن كل ما هو موجود فوجوده مستمد من أسباب طبيعية اعتقاداً لا مراء فيه” بتلك النظرة يتبنى يونغ منهجية معاكسة للحتمية التي تأثر بها فرويد بشدة فيقترح مفهوم الارتياب متأثراً بالجو العلمي و الفكري السائد في عصرة حيث أدخل مفاهيم اللاحتمية في السياق النفسي كما أدخل سلفه مفهوم الحتمية في هذا السياق حيث يؤكد يونغ بأن الواقع يؤكد وجود المصادفة في كل مكان و هي تفرض نفسها علينا فرضاً قاطعاً ، فالحياة في ملئها تخضع لقوانين تارة و تفلت منها تارة أخرى و هي عقلية تارة و لا عقلية تارة أخرى، فالعقل و الإرادة التي يعول عليهما لا قيمة لهما و لا فاعلية إلا في نطاق ضيق، و كلما اتسع المسار المعُتمد اعتمادا عقليا كلما ازددنا يقيناً بأننا ننفي بذلك امكانات الحياة اللاعقلية التي لها حق الحياة بالمقدار عينه (28).
و في الوقت الذي لا يشجع فرويد كثيراً على التأملات الفلسفية في منهجيته العلمية السيكولوجية نجد يونغ بتأملاته يتبنى المنهج الفلسفي تماماً مؤكداً ضرورته القصوى و أهميته في فهم الحياة السيكولوجية للإنسان، فيقول :|إن نظرية نفسية تتوق إلى أن تكون أكثر من وسيلة تقنية داعمة يجب أن تقوم على مبدأ الأضداد و بدون ذلك لن يكون ثمة توازن ولا نظام بدون قوة مضادة قادرة على تحقيق التوازن (29) و بتبني ذلك التصور الفلسفي نجده يعيد للأذهان تصورات أرسطو القديمة في الغائية رافضاً تصور فرويد الحتمي للشخصية فيؤكد بأن أسلوب الرؤية الغائية تؤكد على غنى تصورات النفس في دلالاتها فلا يوجد رمز واحد لكل تصوراتنا في الحلم بل هناك دلالات مختلفة باختلاف الأشخاص و لكل دلالة معنى و يوضح يونغ فكرته تلك قائلاً |يقتضي شرح حادث سيكولوجي أن يكون منظوراً إليه من وجهة نظر السببية و الغائية، و إنني أتكلم عن الغائية لأتجنب كل لبس في مفهوم الغائية الفلسفية حيث أقصد بالغائية الدلالة عن النزوع السيكولوجي الملازم صوب هدف مستقبلي، فكل حادث سيكولوجي يحمل دلالة من هذا النوع فالغضب الذي توحي به شتيمة موجهة إلى الفرد يستدعي الثأر و الحداد التظاهري يستدعي الشفقة لدى الغير، (30) فيونغ يعود إلى إدخال الميتافيزيقا إلى السيكولوجيا من جديد و معيداً التصورات الصوفية ليقول بشكل أو بآخر أن علم النفس لا يمكن أن يكون علماً وضعياً و كفى، بل هو طراز معرفي شمولي يتعدى معارف عقلانية متفق على قانونيتها، وهذا ما يعبر عنه صراحة عندما يقول بأن |الفكر العلمي المعاصر ابن السببية، فالبحوث عن الأسباب ذات المفعولات هي علته الرائجة، و لهذا السبب تبدو الأفكار الفرويدية أفكار الحتمية الأكثر نقاء ذات إغراء كبير عندما يقتضي الأمر أن نقدم شرحاً علمياً لسيكولوجيا الأحلام، و ينبغي مع ذلك أن نضعها موضع الشك، ذلك أنها ناقصة بالضرورة إذ أن النفس لا تخضع لبواعث سببية تترك في الظل كل ما هو غائية فيها .(31)
و ضمن هذا الإطار الفلسفي التصوفي يقترح يونغ مفهوم ضبابي هو مفهوم اللاوعي الجمعي الذي تصوره كمخزن يحمل المضامين العميقة التي لا تتعلق بالحقبة التاريخية أو الفئة الاجتماعية أو الاثنية، إنها مستودع أو مخزن ردود الفعل النموذجية للبشرية انطلاقاً من الأزمنة البدائية بلوغاً إلى العلاقات بين الجنسين و بين الآباء و الأبناء و بين الكراهية و الحب و الولادة و الموت …. (32) و من خلال ذلك يتكلم يونغ عن لاوعي لا يمكن أن يصبح واعياً بحيث يبدو أنه يتكلم عن دفعة ميتافيزيقية شبيهة بدفعة برغسون الحيوية حيث لا يتورع يونغ عن تسمية النمط البدئي بالتصور النفسي فيوافق برغسون الذي يتحدث عن الأبديات اللامخلوقة حيث يقول | بأننا نستطيع أن نحدد صميم معنى اللاشعور الجمعي و لكن لا نستطيع وصفه | وهذا النمط البدئي يوجد بوصفه نظاماً محورياً كامناً على نحو قبلي متأصل في النفس حيث يصرح يونغ صراحة بالطابع الميتافيزيقي لمفهومه فيقول أنه سواءً كانت هذه البنية النفسية و عناصرها من الأنماط البدئية قد نشأت أم لم تنشأ فإن القضية تخص الميتافيزياء و لا نجد لها جواباً في علم النفس حيث يعد النمط البدئي ميتافيزيقياً لأنه يتجاوز مستوى الوعي (33).
و من خلال هذا التصور يستمر يونغ بتقسيماته الميتافيزيقية للنفس عبر جدلية رباعية، ففي الوعي توجد أربعة وظائف أساسية متناقضة وظيفياً متكاملة بنيوياً فهناك التفكير الذي يعبر عنه العقل المنطقي الذي يميز بين الحقيقي و غير الحقيقي يقابله الشعور الذي يميز بين الملائم أي السار و غير الملائم أي المزعج، ثم هناك الإحساس المتعلق بالمعارف الجزئية لموجودات العالم أي إدراك التفاصيل الذي يقابله الحدس المتعلق بإدراك الكليات أي المناظر الكلية بحيث تبدو وظائف النفس متضادة و متكاملة (34) هذه التصورات الصوفية جعلت المنهج اليونغي يأخذ شكلاً معكوساً أو مقلوباً عن منهجية فرويد، ففي حين يبدأ فرويد من محاولة استدعاء المكبوت لفهم العالم نجد يونغ يدعو بالعودة و الغوص في اللاوعي لفهم الذات التي من خلالها نفهم العالم ، و من خلال ذلك نجد يونغ يحث على ضرورة معرفة المرء لنفسه مؤكدا أنه من المدهش أن يجعل الإنسان من نفسه كماً مهملاً وهو المخترع و المحرض للحضارة، فالإنسان لغز بالنسبة لنفسه و يتضح الأمر إذا أخذ بعين الاعتبار افتقاره إلى الوسيلة الضرورية للمقارنة لمعرفة نفسه، فهو يعرف أن يميز نفسه عن الحيوانات الأخرى تشريحياً و فيزيولوجياً، لكنه من حيث هو كائن واعي مفكر يفتقر إلى جميع المعايير اللازمة لتقدير نفسه فهو ظاهرة فريدة على هذا الكوكب لا يستطيع أن يقارنها بأي شيء آخر (35) لكن بأي طريق يمكن المسير لتلمس داخلنا ؟ الجواب عند يونغ ليس بتبني المنهجية العقلانية بل بالعودة للتصورات الصوفية والروحانيات لذلك نراه تبني منهج ضد العقلانية و العلمية فيقول | اليوم أصبحت معتقداتنا ذات صفة عقلانية بصورة متزايدة، فلم تعد فلسفتنا طريق حياة كما كانت في العصور القديمة بل انقلبت شأناً فكرياً و أكاديمياً على وجه الحصر، و الواقع أن العقل وحده ليس كافياً لمعرفة الخافية ‍‍‍‍(36).
فالخافية النفسية ليست شيئاً شيطانياً جنسي و عدائي كما صوره فرويد في الغرائز، بل هي شيء من الطبيعة حيادي تماماً و هي لا تكون خطراً إلا عندما يكون موقفنا الواعي منها خاطئاً لدرجة ميؤوس منها ومن هذا الإطار الميتافيزيقي ينتقد يونغ تصورات فرويد في تصوره الجنسي لنظرية الأعصبة قائلاً بأنها تصور أحادي الجانب يعود إلى الطابع النمطي الذي يمثله فرويد للعصر المادي الذي كان يأمل أن يحل ألغاز العالم في مختبر التجربة، و كمقابل لتصورات فرويد اقترح يونغ مفهومه الصوفي الجديد للنفس من خلال تصوره على سبيل المثال لمسيرة السيمياء السابقة لعلم الكيمياء المعروف فيقول بأن اعتبار الفكر السيميائي ببساطة أنه مجرد عمليات تقطير و تسخين هو خطأ لا يغتفر، فللسيمياء رغم طرقها وجه روحي أيضاً وجانب نفسي ما زلنا بعيدين عن استخلاص ما يجب استخلاصه منه، فالفلسفة السيميائية هي المبشر المترنح لعلم النفس الأكثر حداثة و من خلاله كانت الوظيفة السامية، وظيفة تحول الشخصية مسقطة على تحول المعادن و هو سر هذه الفلسفة و مفتاحها المجهول منذ قرون و ذلك بفضل مزج و خلط و تركيب العوامل النبيلة و المكونات الفظة و خلط الوظائف المتمايزة و تلك التي لم تتمايز بعد، هي باختصار فن تزاوجات الوعي و اللاوعي في الكائن (37).
من تلك المنطلقات الفكرية نرى أن يونغ أدخل النفس من جديد إلى صرح الميتافيزياء بعد أن أخرجها فرويد منها.
هكذا على الرغم تراوح تصورات علماء التحليل النفسي قرباً أو بعداً من الفلسفة فإنهم باعتبارهم كذلك استمروا بتقديم تصورات لا تخلوا من تفلسف ما انفك يحاول البحث التاريخي عن الذات و موضعها في العالم ثم عن العالم و كيفية تموضعه في الذات . تلك علاقة جدلية و تساؤل مصيري يبحث عن حل.
الهوامش:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الفلسفة في التحليل النفسي فرويد و يونغ أنموذجيْن :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

الفلسفة في التحليل النفسي فرويد و يونغ أنموذجيْن

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: