حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 عصر النّهضة الأوروبيّة في مرآة المؤرّخ الفرنسي الشّهير فرنان بروديل

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
باسم
ثـــــــــــــــائر محــــرض
ثـــــــــــــــائر محــــرض
باسم


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
معدل التفوق : 954
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 15/12/2011

عصر النّهضة الأوروبيّة في مرآة المؤرّخ الفرنسي الشّهير فرنان بروديل Empty
25122013
مُساهمةعصر النّهضة الأوروبيّة في مرآة المؤرّخ الفرنسي الشّهير فرنان بروديل

عصر النّهضة الأوروبيّة في مرآة المؤرّخ الفرنسي الشّهير فرنان بروديل Arton11410-f0782

الحدّ الفاصل بين العصور الوسطى والعصور الحديثة

يرى المؤرّخ الفرنسي الكبير فرنان بروديل أنّه لا يمكن فهم الفكر الأوروبي خارج إطار الحوار مع المسيحيّة حتّى ولو كان هذا الحوار بين الطّرفين عنيفا عاصفا بل ومضادا للمسيحيّة نفسها. ذلك أنّه حتّى عندما أصبح الإنسان الأوروبي لا متديّنا بل وملحدا فإنّ ردود فعله النفسيّة، وسلوكه، وأخلاقيته، ظلت متجذّرة في التّراث المسيحي الذي طبع الحياة الاوروبيّة بطابعه على مدار القرون المتطاولة. ويمكن أن نقول عن الإنسان الاوروبي إنّه من “دم مسيحيّ” كما كان يقول الكاتب المعروف مونترلان عن نفسه بأنّه من دم كاثوليكي على الرّغم من أنّه كان قد فقد الإيمان بالمسيحيّة منذ زمن طويل ولم تعد له أي علاقة يوميّة بالدّين. بل وكان ملحدا خالصا.



ماذا نستنتج من كلام بروديل؟ نستنتج أنّ عصر النّهضة على عكس ما نتوهّم لم يكن ملحدا ولا خارجيّا على المسيحيّة. لا ريب في أنّه كان معجبا بالحضارة اليونانيّة الرّومانيّة القديمة التي كانت سبقت المسيحيّة والتي كانت وثنيّة. ولكنّه كان يحاول دائما أن يصالح بينها وبين المسيحيّة.
بروديل يعترف بأنّ الحياة الرّوحيّة والفكريّة لأوروبا مطبوعة بالطّابع العنيف للتّغيير. وهذا ما يميزها عن عالم الاسلام الذي ظل جامدا لفترة طويلة من الزّمن بل ولا يزال حتّى الآن. من هنا سرّ تفوّق أوروبا على العالم الإسلامي الذي كان متفوّقا عليها يوما ما. فهي-أي أوروبا- تحبّ القطيعات والطّفرات والعواصف والثّورات بحثا عن معنى آخر جديد وأفضل باستمرار. ولكن على الرّغم من ذلك فإنّ هذه المتغيّرات لا ينبغي أن تنسينا تلك الاستمراريّة التواصليّة العنيدة لفكرها وحضارتها. وهذه الاستمراريّة التواصلية واضحة عبر التّجارب المتتالية للفكر الاوروبي بدءا من المجلّد اللاهوتي الكبير للقدّيس توما الأكويني وانتهاء بمقال في المنهج لديكارت مرورا بعصر النّهضة والإصلاح الدّيني وانتهاء بالثورة الفرنسيّة ثم الثّورة الصناعيّة التي كانت شكّلت قطيعة كبرى في تاريخ البشريّة.
ثم يتحدث بروديل عن المفكّرين الإنسانيين ومعنى النّزعة الانسانية ويقول بما معناه: كلمة النّزعة الانسانية (هيومانيزم) لم تظهر إلا في القرن التّاسع عشر، ولكن مصطلح الفلاسفة الإنسانيين كان موجودا منذ عصر النّهضة. فقد أطلقه مفكّروها آنذاك على أنفسهم لكي يفرّقوا بينهم وبين السّكولائيين القروسطيين الغاطسين في تكرار المحاجات اللاهوتيّة القديمة واجترارها تماما كالمسلمين بعد الدّخول في عصر الانحطاط. أمّا الفلاسفة الإنسانيون فكانوا يفتخرون بأنّهم خرجوا من تلك السفسطات أو المناقشات البيزنطية العقيمة عن طريق العودة الى ما قبل القرون الوسطى والاهتمام بالدّراسات الانسانية للمفكرين اللاتينيين واليونانيين.
ولكن كلمة النّزعة الانسانيّة أصبحت تطلق فيما بعد على تيّارات شتّى. فالبعض يتحدّث عن النّزعة الانسانيّة المسيحيّة، والبعض الآخر عن النّزعة الانسانيّة الصّرفة، والبعض الثّالث عن النّزعة الانسانيّة العلميّة أو حتّى التكنولوجيّة الخ. والشّيوعيون كانوا يتحدّثون يوما ما عن النّزعة الإنسانيّة لكارل ماركس ومكسيم غوركي…
ولكن لكيلا تضيع “الطاسة” يستحسن بنا أن نستعير تعريف هذا المصطلح الشّهير من المؤرّخ أوغستين رينوديه. يقول في تعريف عام جامع مانع ما يلي:
يمكن القول بأنّ النّزعة الانسانيّة تعني أخلاقيّة النبل البشري. وهي أخلاقيّة متّجهة في آن معا نحو النظريّة والتّطبيق العملي. فهي تعترف بعظمة العبقريّة البشريّة، وقوّة إبداعاتها وجمالها. والشّيء الأساسيّ الذي يميّز النّزعة الانسانيّة هو ذلك الجهد الذي يبذله الفرد لكي يطوّر في داخله عن طريق اتّباع منهجيّة صارمة ومثابرة كل الملكات الإنسانيّة لكيلا يخسر أي شيء يؤدّي إلى ارتقاء الإنسان وعظمته ومجده. كان غوته يقول: “ينبغي أن نرتقي أكثر فأكثر نحو أعلى وأرقى صيغة من صيغ الوجود. وهذا هو معنى الوصيّة التي وجّهها ستندال إلى الرسّام الشّهير دولاكروا: لا تهمل أي شيء ممّا يمكن أن يجعلك إنسانا عظيما.

إنّ مثل هذه الأخلاقيّة للنبل البشري تفرض على المجتمع أن يبذل جهدا متواصلا لكي يحقّق في داخله أعلى درجات الكمال البشري، وأضخم الفتوحات، وأكبر عمل ثقافي ممكن، وأكبر علم متوسّع باستمرار عن الانسان والعالم. والنّزعة الإنسانيّة تؤسّس أخلاقيّة فرديّة وجماعيّة، وتؤسس قانونا واقتصادا جديدا. ويكون ختام ذلك سياسة جديدة. كما وتغذي فنونا وآدابا جديدة. هذه هي النّزعة الإنسانيّة.
بعد أن يستشهد بروديل بذلك يعلّق عليه قائلا: هذا التّحديد الرّائع كان ينبغي أن يكفينا. ولكن المشكلة هي أنّه لا يركز بشكل قويّ بما فيه الكفاية على المعنى الحقيقي للحركة الانسانيّة. بالمقابل فإنّ ايتيان غيلسون يبالغ في هذا المعنى أو يعطي صورة كاريكاتوريّة عنه. فهو يقول بما معناه:”إنّ إنسانيّة عصر النّهضة هي العصور الوسطى ليس زائدا الإنسان وإنّما ناقصا الله!“هذا التّحديد لا يمكن أن يصدر إلّا عن أحد محبّي العصور الوسطى المسيحيّة وكارهي عصر النّهضة والعصور الحديثة العلمانيّة بمجملها. وهو ظالم وغير صحيح. ولكن له ميزة التّنبيه إلى التوجّه الأساسي لعصر النّهضة وكلّ الأزمنة الحديثة.
فالواقع أنّ جوهر كلّ نزعة إنسانيّة هي أنّها تكبّر من شأن الإنسان وإمكانيّاته وتقلل بالتّالي من شأن الله دون أن تنساه تماما. وإلّا لما سمّيت نزعة إنسانيّة. كانت ستسمّى نزعة لاهوتيّة. وبمعنى من المعاني فإنّ النّزعة الإنسانيّة هي دائما ضدّ شيء ما: أنّها ضدّ الخضوع الكامل والكلّي لله أو للدّين بكلّ طقوسه وشعائره المرهقة، وضدّ كل تصوّر مادّي أو الحادي صرف للعالم، وضدّ كلّ عقيدة تهمل الإنسان، وضدّ كلّ نظام فكري يقلّص من مسؤولية الانسان. إنّها مطالب دائمة بحاجة إلى تحقّق مستمرّ. إنّ النّزعة الانسانيّة ثمرة الزّهو واعتزاز الإنسان بنفسه. في العصور الوسطى لم يكن الإنسان يعتزّ بذاته وإنّما كان يحتقر ذاته ويزهد في الحياة الدّنيا.
ولهذا السّبب فلم يخطيء المصلح اللاهوتي”كالفنّ“عندما أدان هذا الغرور الإنساني، أو اعتداد الإنسان بإمكانيّاته أكثر من اللّزوم. فهو ككلّ لاهوتي كبير يعتمد على الله أولا، لا على الإنسان. اللهمّ عليك اتّكلت… ما هو الإنسان أمام عظمة الله وقدرته وجبروته؟ إنّه حشرة، لاشيء. فاسكت أيّها الانسان المغرور إذن وتواضع. وهذا هو منظور القرون الوسطى وكلّ رجال الدّين أيّا يكونون مسلمين أم مسيحيين.

أمّا بالنّسبة إلى النّزعة الإنسانيّة ومفكّري عصر النّهضة الأوروبيّة فإنّ العكس هو الصّحيح. فإيمانهم، إذا كان لهم إيمان ما، ينبغي أن يتوافق مع الثّقة الكاملة بالإنسان وعقله وإمكانياته. وبهذا المعنى نفهم كلمة ادغار موران عندما ترك الحزب الشّيوعي. قال لأحدهم:”صحيح يا صاحبي: الماركسيّة ممتازة. لقد درست الاقتصاد وشرحته. صحيح يا صاحبي: الماركسيّة ممتازة لأنّها درست الطّبقات الاجتماعيّة وحللتها. ولكن الماركسيّة يا صاحبي أهملت شيئا أساسيّا لا يقدر بثمن: لقد أهملت الإنسان، نسيت أن تدرس الإنسان“!
بهذه العبارة برّر تركه للحزب الشّيوعي الفرنسي.

ثم يردف بروديل قائلا:

في الواقع إنّ النّزعة الإنسانيّة هي عبارة عن نزعة ديناميكيّة حيويّة، إنّها اندفاعيّة، وثبة إلى الأمام… إنّها عبارة عن مسار نضالي هادف إلى تحرير تدريجيّ للإنسان من نير العصور المظلمة. إنّها عبارة عن إيمان بإمكانيّات الإنسان وقدرته على تحسين وضعه وتغيير مصيره أو التحكّم به. هذا هو معنى النّزعة الإنسانيّة أو أحد تعريفاتها على الأقلّ.
في الواقع إنّ تاريخ النّزعة الإنسانيّة متقطّع، أحيانا خطوة إلى الأمام وأحيانا خطوتين إلى الوراء. إنّه تاريخ تعدّدي، مليء بالتّناقضات.
إنّ أوروبا الحديثة كانت دائما في حالة بحث قلق عن حلّ آخر لمشاكلها وصعوباتها غير الحلّ السّائد في اللّحظة الرّاهنة. من هنا ميلها شبه المرضي تقريبا للانخراط في المجهول، للبحث عن الجديد، والصّعب، والممنوع، بل وحتّى الفضائحي…أوروبا لا تملّ من البحث والابتكار والتّجريب والإبداع: فبعد الكانطيّة جاءت الهيغليّة، ثمّ الماركسيّة، ثمّ النيتشويّة… وبعد السّرياليّة جاءت الوجوديّة ثمّ البنيويّة. وبعد الحداثة ما بعد الحداثة!لا تكفّ أوروبا عن البحث والتّساؤل فيما عالم الإسلام مستسلم ليقينيّاته النّهائيّة التي لا تقبل أي تساؤل أو نقد.
ولكن باختصار إجمالي يمكننا التحدّث عن ثلاثة أنواع من النّزعة الإنسانيّة: النّزعة الانسانيّة لعصر النّهضة، والنّزعة الإنسانيّة للإصلاح الدّيني المزامن لها، والنّزعة الانسانيّة الحادة إن لم نقل العنيفة للثّورة الفرنسيّة.


النّزعة الإنسانيّة لعصر النّهضة

وقد طرح أحدهم على بروديل هذا السّؤال: أوّل شيء نلاحظه هو أنّ إنسانيّة عصر النّهضة تقدّم نفسها كحوار لروما مع روما: أقصد روما الوثنيّة مع روما المسيحيّة. إنّه حوار بين الحضارة اليونانيّة- الرّومانيّة القديمة من جهة، والحضارة المسيحيّة التي تلتها وحلّت محلّها من جهة أخرى. وعن هذا الحوار نتجت النّزعة الانسانيّة لعصر النّهضة.أليس كذلك؟

فأجاب: نعم، وهو أغنى حوار شهده الغرب على مدار تاريخه الطّويل. إنّه حوار لم ينقطع أبدا.
كان الأمر في عصر النّهضة يتعلّق بالعيش مع القدماء أو العيش مجددا. كان ماكيافيلي الذي عاش في عصر النّهضة قد قال هذه العبارة الشهيرة: يبدو أنّ هذا البلد، أي ايطاليا، قد ولد لكي ينشغل بالأشياء الميّتة فقط ويبعثها!
ولكن مشكلة ماكيافيلي هو أنّه لم يفهم الحقيقة التّالية: وهي أنّ هذه الأشياء”الميّتة“التي نبشها النّهضويون الإنسانيون من أعماق التاريخ اليوناني والرّوماني القديم لم تكن ميّتة إلى الحدّ الذي يتصوّره. على العكس لقد كانت ضروريّة للتجدّد والانبعاث وإلّا لما نبشوها من مرقدها بعد آلاف السّنين. كانت الحياة الايطاليّة والاوروبيّة بحاجة ماسة اليها آنذاك. لم تكن ميتة أبدا تلك الأشياء التي يدعوها ماكيافيلي بالميّتة.يضاف إلى ذلك أنّ آثار روما الوثنيّة تتعانق مع آثار روما المسيحيّة.يكفي أنّ تتجوّل في الشّوارع للحظة لكي تتيقّن من ذلك.

والواقع أنّ أوروبا المسيحيّة تعايشت مع التّراث الوثني لأوروبا الوثنيّة الرّومانيّة. ومعلوم أنّ القديس جوستينيان كان يقول منذ القرن الثّاني الميلادي:”كلّ فكر نبيل من أي جهة جاء ينبغي أن يصبح ملكا للمسيحيين“.(بين قوسين هذا يذكّرنا بالموقف الرّائد للفيلسوف العربي الأوّل الكندي الذي دعا إلى الإستفادة من الفلسفة اليونانيّة حتّى ولو كانت وثنيّة. وقد هاجمه الفقهاء بعنف على هذا الموقف. فردّ عليهم بحزم وأخرسهم في نص مشهور قبل أن ينتصروا عليه وعلى كلّ التيّار العقلاني الذي ساد العصر الذّهبي ويتمكّنوا من تكفير الفلسفة والفلاسفة. وعن هذا التّكفير نتج كلّ الانحطاط العربي). ثمّ يردف بروديل قائلا: وأمّا القديس أمبرواز فكان يقول:”كل حقيقة من أيّ جهة جاءت صادرة عن الرّوح القدس!“وحده تورتليان كان يعترض على ذلك ويصرخ قائلا:”ماهو الشّيء المشترك بين أثينا وأورشليم؟ لا شيء“. بمعنى آخر: لا توجد أيّ علاقة بين فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو من جهة، ورسالة المسيح من جهة أخرى. المسيحيّة تكفي ولا داعي لمن يمتلك الحقيقة الإلهيّة أن يهتمّ بالحقيقة البشريّة. ولكنّه كان معزولا في رأيه هذا على الأقلّ في عصر النّهضة.أمّا في العصور الوسطى فكان يشكّل الأغلبيّة.
ولذلك يضيف بروديل هذه الملاحظة الهامّة قائلا: ولكن يبقى صحيحا القول بأنّ العصور الوسطى المسيحيّة أهملت التّراث اليوناني الرّوماني القديم الوثني. ولم تعد تهتمّ بشعراء تلك الفترة وفلاسفتها ومؤرّخيها. وإذا كانت اللاتينيّة، لغة الامبراطوريّة الرّومانيّة، قد بقيت لغة حيّة إلّا أنّ اللغة اليونانيّة اختفت عن الأنظار ولم تعد معروفة من قبل أحد تقريبا. وفي أكبر المكتبات وأكثرها غنى كانت مخطوطات الفكر اليوناني والرّوماني القديم مرميّة في الزّوايا المعتمة وقد علاها الغبار… فقد سيطر اللّاهوت المسيحي سيطرة كاملة ولم يعد للفلسفة اليونانيّة من وجود يذكر.

وهذه المخطوطات بالذّات هي التي راح النّهضويون الإنسانيون ينبشونها بل ويطاردونها أو يبحثون عنها في كلّ مكان. كانوا يبحثون عنها لإعادة قراءتها ونشرها وتفسيرها والنّقاش حولها بكلّ حماسة وغليان. وعلى هذا النّحو راحوا يبعثون آداب الإغريق والرومان لكي”يعيشوا“معها بالمعنى الحرفي للكلمة. ألم يكن بيترارك، أوّل نهضوي كبير، يهرب من معاصريه لكيلا يتحاور ويعيش إلّا مع أشخاص من أمثال فيرجيل وشيشرون؟ يقول بما معناه:
”ان مجرد رؤية الناس المعاصرين تزعجني بل وتعتبر عدوانا علي.أما القدماء فان مجرد ذكرهم يفرحني ويدخل البهجة الى قلبي؟“
ما معنى هذا الكلام؟ ألا يعبر عن ضيق صدره بفكر العصور الوسطى والنزعة السكولائية التكرارية المغلقة؟ ألم يكن جوّ العصور الوسطى المسيحيّة خانقا إلى درجة أنّ المرء يهرب منه بأيّ شكل لكي يعيش مع فلاسفة اليونان وأدباء الرّومان حيث تسود الوثنيّة الراقيّة والحرة؟ انظر كتاب:”عبقرية الوثنية“للباحث الفرنسي مارك أوجيه المختص بعلم الانتربولوجيا العامّة والفلسفيّة. صدر لأوّل مرّة عن منشورات غاليمار عام 1982. وكتابه يعتبر المقابل المضادّ لكتاب شاتوبريان:”عبقريّة المسيحيّة“الصادر لأوّل مرّة عام 1802.
Marc Auge :Genie du paganisme.Gallimard.2008

Chateaubriand :Genie du christianisme
يمكن أن نقارن كل ذلك بكتب”العبقريات" للعقاد.
لا يمكن أن نفهم النّزعة الإنسانيّة لعصر النّهضة إلّا من خلال هذه القراءات المحبّة والمحاورات المتلهّفة التي لا تنتهي بين النّهضويين من جهة، وبين قدماء اليونان والرّومان من أمثال هوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وفيرجيل وشيشرون وعشرات غيرهم من جهة أخرى. لقد أتاحت لهم قراءة هؤلاء العظماء أن يستنشقوا نسيم الحريّة وأن يخرجوا من الجوّ الخانق للكهنوت المسيحي ولاهوته القروسطي التكراري الاجترار.

كل مفكري عصر النهضة كانوا متأثّرين بمفكّري اليونان والرّومان القدماء الذين عاشوا قبل ظهور المسيحيّة وكانوا بالتّالي وثنيين. وهذا الكلام لا ينطبق فقط على مفكّري ايطاليا، مهد النّهضة الأوّل. وإنّما ينطبق أيضا على المفكّرين الفرنسيين من أمثال مونتيني ورابليه وسواهما. فكتبهم مليئة بالإشارة إلى مفكّري اليونان والرّومان وأدبائهم. وفيها يتحدّثون عن قراءاتهم المفضّلة.

هل توجد قطيعة مطلقة بين
عصر النّهضة والعصور الوسطى؟

هذا ما كان يعتقده المفكرون حتّى أمد قريب. ولكنّهم تراجعوا عن ذلك بعد الاكتشافات والبحوث التّاريخيّة الأخيرة. فالواقع أنّ النّهضويين على الرّغم من جرأتهم الانقلابيّة على مناخ العصور الوسطى ظلّوا سجناء له في بعض جوانبه ولم يستطيعوا أن يقطعوا معه كلّيا. وأعتقد شخصيّا أنّ هذا هو موقف المثقفين العرب حاليّا من تراثهم الضّخم العريق. نحن أيضا نقف على مفترق الحز الفاصل بين العصور الوسطى اللاهوتيّة/ والعصور النّهضوية التنويريّة. وبالتّالي فمسافة التّفاوت التّاريخي بيننا وبين الفكر الاوروبي تبلغ أربعة قرون!
لكن لنعد إلى مفكري النّهضة الاوروبيّة، موضوعنا الأساسي.لا،لم يستطيعوا أحداث القطيعة الكاملة مع التّراث المسيحي. نقول ذلك على الرّغم من كلّ تهجّمهم العنيف على رجال الدّين وعلى الفلسفة السّكولائية المسيحيّة للعصور الوسطى. وهي فلسفة كانت مشكلة من الوحي المتضمّن في الكتب المقدّسة بالإضافة إلى تفاسير آباء الكنيسة التي تقدم للناس التصور العام عن الكون والتاريخ. كما وتقدم لهم معنى الحياة او الغائية النهائية للوجود البشري. ولكن بالإضافة إلى ذلك فإنّ القرون الوسطى شكّلت فلسفة خادمة لعلم اللّاهوت المسيحي: أي هدفها البرهنة على صحّة العقائد المسيحيّة.

ولكن فلسفة تلك العصور وعلمها كان يرتكز أساسا على أرسطو وبطليموس. ومعلوم أنّ فكر أرسطو أصبح معروفا كليّا في القرن الثّالث عشر بفضل المترجمين والشرّاح العرب وأيضا اليهود إلى حدّ ما. فقد ترجمت أعمالهم إلى اللاتينيّة في ذلك العصر. وقد استعاروا من أرسطو المنطق وطريقة المحاجة والتصوّر العام عن المعرفة والنّصوص العلميّة. ولكن الاحتكاك بين نظام الفكر الارسطوطاليسي الغريب كليا على المسيحية والأديان التوحيدية عموما كان خشنا في البداية. هذا أقل ما يمكن ان يقال. اذ كيف يمكن التوفيق بين فكر وثني وفكر مسيحي أو اسلامي توحيدي؟ هذه المشكلة العويصة حاولت مدرسة القرون الوسطى ان تحلها: أي السكولا. وكلمة سكولا باللاتينية تعني مدرسة. ولكنها فيما بعد اصبحت تعني التكرار والاجترار العقيم. وهذا ما كرهه مفكرو عصر النهضة في العصور الوسطى وثاروا عليه. ولكن القديس توما الاكويني حاول حلّ المعضلة والتوفيق بين اللاهوت المسيحي وفلسفة أرسطو الوثني تماما كما فعل ابن رشد في الجهة الاسلامية وابن ميمون في الجهة اليهوديّة. فقد أعلن القديس المسيحي عن الوحدة العميقة للحقيقة وقال بوجود توافق ضروري بين الإيمان (أي المعرفة النّاتجة عن الوحي) والعقل.

نستنتج في نهاية المطاف أنّ القطيعة الحقيقيّة مع العصور الوسطى لم تحصل في القرن السّادس عشر وإنّما في القرن الثّامن عشر عصر التّنوير،أي بعد قرنين بالضّبط. بل ولم تترسّخ كليّا إلّا في القرن التّاسع عشر عصر الاكتشافات العلمية الكبرى والانتصار النّهائي للعلم الحديث على اللّاهوت المسيحي القديم. وللحديث صلة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

عصر النّهضة الأوروبيّة في مرآة المؤرّخ الفرنسي الشّهير فرنان بروديل :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

عصر النّهضة الأوروبيّة في مرآة المؤرّخ الفرنسي الشّهير فرنان بروديل

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الثورة العربية في مرآة المثقف الوجودي الفرنسي
» التَّجربة النَّهضويَّة الألمانيَّة: كيف تغلَّبت ألمانيا على معوّقات النّهضة؟(*) للدكتور عبد الجليل أميم
» في مرآة الآخر
» في مرآة الآخر
» في مرآة الآخر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: