حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 في الإسلام السياسي خطابا وممارسة(2/2) السبت 11 شباط (فبراير) 2012 بقلم: العربي بن ثاي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابوشديد
ثـــــــــــــــائر
ثـــــــــــــــائر
avatar


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 111
معدل التفوق : 291
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 15/12/2011

في الإسلام السياسي خطابا وممارسة(2/2) السبت 11 شباط (فبراير) 2012 بقلم: العربي بن ثاي Empty
13022012
مُساهمةفي الإسلام السياسي خطابا وممارسة(2/2) السبت 11 شباط (فبراير) 2012 بقلم: العربي بن ثاي



في الإسلام السياسي خطابا وممارسة(2/2) السبت 11 شباط (فبراير) 2012 بقلم: العربي بن ثاي Arton10889-c89e6


في هذا القسم الثاني من مقاله يواصل الباحث العربي بن ثاير رصد تجربة صعود الإسلاميين إلى الحكم في تونس بعد أن تناول في الجزء الأوّل مشروعهم المجتمعي


آليات نظام الحكم عند "النهضة":


بناء
على ما تقدم، وفيما يخص تنظيم السلطات، وانسجاما من النهضاويين مع
منطلقاتهم ورؤيتهم للمشروع المجتمعي، يبدو فكرهم السياسي غير قادر أو
بالأحرى غير قابل للتحول إلى الديمقراطية والتعددية؛ ولا أدلّ على ذلك من
تصوّرهم الشكلي، بل الكلياني في بعض وجوهه للديمقراطية، ويظهر ذلك جليا في
جوهر نظرتهم لمؤسسة المجلس التأسيسي التي يتمثلونها كما لو كانت جماعة
"أهل الحل والعقد" القابعة في مخيالهم، وهم يمارسون فعلهم السياسي في
المجلس التأسيسي بعقلية يغلب عليها طابع البيعة والطاعة. إن نظرتهم هذه
نظرة شكلية ترميمية، لنظام يبدو برلمانيا في الظاهر، يُعْمَدُ فيه إلى
ديمقراطية التصويت والأرقام لا ديمقراطية الحوار والمشاركة الحقيقية في
صنع القرار؛ فهي شكل معصرن للشورى غير الملزمة، وبالتالي فهو ليس بنظام
برلماني في جوهره وروحه: (ينظر مقالنا بعنوان "ديكتاتورية ملتحية: أية
ديمقراطية سيجلبها الإسلاميون للعالم العربي؟") ()؛ فهم يوهمون أنفسهم
بأنهم تحولوا إلى الديمقراطية في حين لم يتمكنوا من القطع فعليا مع جوهر
فكرة الشورى التقليدية، ولذلك تراهم يستغربون كيف يتم نعتهم بأنهم غير
ديمقراطيين! إنهم في الحقيقة لم يتجاوزوا كثيرا من الأحكام السلطانية
لنظرية الخلافة المترسبة في غور وجدانهم تجاوزا حقيقيا وفعليا إلا في
المظهر والشكل. والأدهى- حتى أنهم أن أمرهم هذا يبدو حالة من الفصام
الفكري والحضاري فعلا!- ادّعاء "حمادي الجبالي" بأن الشعب التونسي كاملا
بمثقفيه ودارسيه ومحللي الخطاب فيه وغيرهم، كلهم لم يفهموا استخدامه عبارة
"الخلافة الراشدة السادسة" و"الدورة الحضارية" و"الإشارات الربانية"
استخداما على سبيل "الاستعارة" على حدّ قوله وكرمز أو خلفية حضارية على
حدّ قول مبرّري قوله! وعلى أية حال، يمكن الجزم بأنه لا يعرف للنهضاويين
نص واحد واضح تمام الوضوح يقترب حتى من صيغة الكواكبي في "طبائع
الاستبداد" أو علي عبد الرازق في "الإسلام وأصول الحكم" أو حتى بصيغة
الشيخ محمد عبده المشهورة (لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين).


ونميل
إلى الاعتقاد أن الاتجاهات الديمقراطية والتحديثية في تونس -والعالم
العربي كذلك- الحريصة على تجاوز المناكفات مع تيار الإسلام السياسي والتي
تجتهد في العمل معهم على تجاوز معيقات التواصل السياسي والاجتماعي من أجل
اندراج النخبة السياسية والفكرية الفاعلة برمتها في سياق العصر، قد تكتفي
منهم بالجزم الواضح والصريح أنهم يتجاوزون فكرة الشورى ونظرية الخلافة
كنظام حكم و"مشروع" مجتمعي دون رجعة؛ فحتى هذا يتلكؤون في الاستجابة له
للعوامل التي أسلفنا ذكرها، ويرمون الكرة في شِباك المستقبل ويعلقون الحبل
على غالب التدرج، إنهم يتحدثون عن الديمقراطية في مناسبة وغير مناسبة
ولكنهم لا ينبسون ببنت شفة عما يمكن عده تجاوزا حقيقيا لفكرة الخلافة؛ فهم
عمليا مازالوا أنصارا للنظام الذي استقرّ في شكل شورى التناصح تارة، أو
ديمقراطية التصويت البارد الفاقد للروح تارة أخرى، وذلك وفق الظروف التي
قد تختلف حسب الود والعلاقات المصلحية، أو الجفاء وتضارب تلك المصالح.
وليس لديهم الشجاعة الكافية لنقد تصوراتهم التقليدية نقدا جذريا وحقيقيا
بل نراهم يطوعون لها الديمقراطية تطويعا ويجرونها إليها جرا؛ حتى أن
الأستاذ عياض بن عاشور سماه "النظام المجلسي" الذي يشرع ويقنن ويحكم في
الآن نفسه، واعتبره ضربا آخر من ضروب الدكتاتورية، وعدّها أخطر حتى من
الدكتاتورية الفردية. فمما ذكره على إذاعة "موزاييك أفم أم" في تصريحات
خطيرة عن المجلس التأسيسي ما يأتي:


- المجلس التأسيسي يتقاعس عن مهامه في إعداد الدستور مؤشر خطير جدا
- المجلس حاد عن مهامه الأساسية؛ فمنذ 22 نوفمبر إلى الآن لم يبدأ بعد في صياغة الدستور وهو بالأساس مهمته الأساسية والأصلية.


- تباطؤ المجلس عن صياغة الدستور قد يكون متعمدا لإطالة مدة عمله لتصبح سنوات بدل سنة واحدة
-هناك العديد من الزلات والإخلالات في التنظيم المؤقت للسلط العمومية وأي طالب سنة أولى حقوق يفطن إليها


- كان على المجلس الاستعانة بخبراء للقيام بالعمل التقني الذي لا يعرفه ويفهمه إلا الخبراء وهو ما أهمله المجلس ().


وأضيفُ
أن عمل المجلس يبدو ظاهريا عملا ترويكيا ومجلسيا جماعيا وهو في الحقيقة
عمل نهضاوي بامتياز يتم قبل انعقاد المجلس وفي كواليسه، يدبرونه عبر
"إقناع" الحليفين. ثم يمرر القانون أو الإجراء أمام الكاميرات "ليحظى"
غالبا بتصويت شكلي لا روح فيه، وبذلك يتم إخراجه وتسويقه على أنه منتج
ديمقراطي. ومما يؤكد هذا التمشي خير تأكيد ما رأيناه في المجلس التأسيسي
من عدم الرغبة في الاستجابة إلى مقترحات عملية جيّدة من خارج التحالف
الثلاثي.


ولمزيد من الإضاءة قد يكون التعرض
لقانون تنظيم السلطات المؤقتة للمجلس التأسيسي الذي اقترحته "الترويكا"
(النهضة والمؤتمر والتكتل) ونشرته جريدة "الصباح" التونسية في إبانه مما
يزيد التحليل تدعيما بالمثال الواقعي المشاهد بالعيان " وليس بعده بيان"
؛() وقد كاد يتم فعلا اعتماد هذا القانون دون الحياد عنه بالفاصلة والنقطة
لولا معارضة قوية له في المجلس وفي اعتصام باردو1، ممّا اضطرهم إلى تغيير
بند سحب الثقة من الثلثين إلى النصف زائد واحد كما سيأتي بيانه، وهذا ما
يرجح الاعتقاد بأن القانون برمته كان من إملاء النهضة؛ لأنه يكاد يكون
حرفيا ما دافعت عنه الحركة في أثناء الحملة الانتخابية، الأمر الذي يوضح
أيضا أن ما يدعونه عملا ثلاثيا مشتركا - كما يحرص المتحالفون على قوله- لا
يعدو أن يكون تغطية إعلامية وحفظا لماء وجه الحزبين الحليفين اللذين ترديا
في حضيض التبعية، خاصة في الفترة الأولى لعمل المجلس التأسيسي إلى حدود
الأسبوع الثالث من تشكل الحكومة، ويعكس سيطرة فعلية للنهضة على ثلاثي
الحكم، فكأنهما يمثلان المعارضة الشكلية زمن بورقيبة وبن علي وربما
المعارضة الكرتونية التي ينطبق عليها قول الفرزدق:


ما قال لا قطّ إلا في تشهّده *** لولا التّشهد كانت لاؤه نعم "


وربما
الفارق الوحيد كونهما "يعارضان" من داخل ائتلاف الحكم أحيانا قليلة بل
نادرة، وهذا خطير من طرف التكتل الذي يمثل يمين اليسار والمؤتمر الذي يمثل
يسار اليمين، فكأنّ الجميع يذهب في اتجاه اليمين على الرغم من أن كلا
الحزبين تقدمي في مَنابِتِه وأفكاره؛ يمكن القول إذن إن النهضة
وحليفيها تسببوا في خيبة انتظار للشارع بهذا القانون، ولم يقطعوا فعليا مع
جوهر فكرة الشورى التقليدية. ولهذا فمن يحكم عمليا في الفترة التأسيسية هو
الوزير الأول حمادي الجبالي بمعاونة رئيس الدولة المرزوقي ورئيس المجلس
التأسيسي مصطفى بن جعفر. وعلى الرغم من بهلوانيات الرئيس السياسية التي
يريد من خلالها الإيحاء بأنه ليس إمّعة، رأيناه كيف تخلى عن منطلقاته
ورؤاه أو على أدنى تقدير كيفها حسب حليفه الكبير؛ فقد قسم التونسيات، في
خطاب القسم، إلى محجبات ومنقبات و "سافرات"، مع كل ما توحي به كلمة السفور
من ظلال سيئة في الوجدان العام، وأردف هذا التقسيم بتقسيم المجتمع كله في
كلمته ليلة رأس السنة الإدارية - بالنسبة إلى الاحتفال بهذه المناسبة- إلى
مقلدين للغرب ومتمسكين بالتقاليد العربية الإسلامية، وهو تقسيم يعرف الخاص
والعام في تونس أنه مفتعل. والحقيقة أن كلمته تلك كانت مستوحاة من خطب
الجمعة التي ألقاها المتشددون قبيل رأس السنة وواقعة تحت ضغطهم، ولعله
يريد بها أيضا إعطاء دماء جديدة لحزبه –المؤتمر من أجل الجمهورية-الذي دخل
في مرحلة الصراع الداخلي الذي يهدده بالانخرام والتلاشي والذوبان.


ومما
زاد من وضوح تقربه إلى الفكر النهضاوي – وهو العلماني- أنه صرح عند ذهابه
إلى ليبيا بأن الشعوب العربية صوتت للإسلاميين لإدراكها أن "الإسلام هو
الحل" ! ولن أدخل في متاهات قشرية حقوق الإنسان عند هذا الرابطي القديم
الذي تقمصها كقميص عثمان، ولكن أقول: إن كلامه متأخر جدا عن ظهور هذا
الشعار في الثمانينات! وإن الداعين إليه لم يعودوا يرفعونه جهرا! وأتساءل
هل هي عودة العصفور إلى الشرق وسينتظر معها الشعب التونسي فصول فيلم
زهديات أبي العتاهية، أم هي عودة الروح إلى "الرئيس المسلم" كما حصل
للنميري والسادات ! وبالعودة إلى القانون المؤقت للسلطات الذي تم إقراره،
عمليا ووفقا للصيغة المثبتة فإني أرى من الأهمية بمكان التذكير بالنقاط
المحورية البارزة فيه فيما يأتي:


رئيس الجمهورية
مهمش عمليا مع صلاحيات محدودة إلى حد كبير فهو لا يعدو كونه رئيسا شرفيا
وحتى التعديلات التي أحدثت على تلك المهام لم تغير في تلك الصلاحيات شيئا
كثيرا لتصل بها حد التوازن الحقيقي مع صلاحيات رئيس الحكومة؛ ففي أغلب
الأحوال يشاركه رئيس الحكومة أو رئيس الحكومة ورئيس المجلس التأسيسي
القرار .
رئيس الوزراء من الحزب الأول –أي النهضة- مع أكبر عدد
من المقاعد (بأغلبية بسيطة)، هو الذي يقود الحكومة والسياسة العامة
للدولة، وهو الشخصية المحورية في النظام السياسي.
يمكن للتصويت
على الثقة (الذي يتقدم به المجلس التأسيسي لصالح الحكومة) فيأخذ أغلبية
بسيطة غير أن آلية الرقابة (أي سحب الثقة) تتطلب أغلبية الثلثين، ثم عدّل
إلى الأغلبية 50٪ +1 بعد أخذ ورد ومناورات تحت ضغط قوي وكبير من اعتصام
باردو والشارع التونسي بجميع فعالياته الاجتماعية والثقافية والحقوقية
والنقابية وسائر الجمعيات المهتمة بالشأن العام، ورغم ذلك "التنازل" يبدو
أنه لا أحد بمقدوره الإطاحة بالحكومة بما أنها تحتكم على الثلث المعطل –
ويا للمفارقة لأن الثلث المعطل غالبا بيد المعارضة لا الحكومة! - وبالتالي
تظل الحكومة قائمة حتى لو خسرت الأغلبية! وهكذا تنجو الحكومة من كل
مسؤولية والغريب أنها تنجو في الوقت ذاته من التصويت على سحب الثقة منها
وبالتالي تؤكد سيطرتها فهل ثمة معنى آخر للدكتاتورية المفروضة بالدستور؟!
يتم
إقرار مواد الدستور بأغلبية 50 ٪ + 1، ومطلوب فقط أغلبية الثلثين لاعتماد
نص الدستور في مجمله، وبالتالي فمن المتوقع أن هذا ما سيمكن النهضة عمليا
من الناحية الفنية أن تحشو النص ببعض المصطلحات والتعابير والصيغ المناسبة
لها والتي سيتم اعتمادها بسهولة في القراءة الأولى وبالتالي من الصعب رفض
تلك التعابير والصيغ في القراءة الثانية لأنها تصويت ثان ليس من مشمولاته
مناقشة التفاصيل بل الصيغة الشاملة للنص فقط! فحتى التعديلات التي أجريت
على الوثيقة مؤخرا تبقى شكلية باعتبار ميل موازين القوى في الحكومة التي
ستكون متضامنة حتما لصالح الوزير الأول.
هذه الإجراءات كحزمة
كاملة- يعتبرونها "متناغمة" ونراها منغلقة بل محكمة الانغلاق- تكشف مدى
الابتعاد عن روح الثورة وأهدافها؛ لأنها لم تعط أي دليل ملموس وحقيقي على
النقلة النوعية المنشودة من الحكم الاستبدادي الفردي أو العائلي إلى الحكم
الديمقراطي التشاركي التعددي؛ لأن تشكيل الحكومة خضع للمحاصصة الحزبية
ولهيمنة عائلة راشد الغنوشي عليها من خلال صهريه خاصة. ويبدو أن كثيرا من
أنصار المتحالفين بمن في ذلك النهضاويين تفاجؤوا هم أيضا بالحد الذي كانت
عليه تشكيلتها مخيبة للآمال حتى ببقاء رموز تجمعية سابقة - مرفوضة غالبا-
في مواقع الاستشارة؛ والاستشارة -كما هو معلوم- نصف القرار إن لم تكن كله؛
مما زاد من إضفاء طابع الغموض والالتباس على الحكومة لجهة ولاءات عناصرها
داخليا وخارجيا.




وكخلاصة للأمر،
يمكن القول إن أغلب التونسيين يميلون اليوم إلى اعتبار المستقبل غامضا
ويزيده غموضا على غموض القانونُ المنظم للسلط الذي قرر منح المجلس
التأسيسي مدة غير محددة، وقد تم تمريره بتصويت بارد لا طعم فيه ولا روح
له، بل فيه انقلاب على ما تعهدوا عليه ووقعوا عليه مع أحد عشر حزبا قبل
الانتخابات. وحتى إذا تبنوا قرارا قريبا في روحه من الديمقراطية، فإنما
يعود ذلك للضغط الشعبي والأحداث القوية، ولا يكون ذلك إلا بعد صراع مرير
ونقاش طويل وحاد في أغلب الأحيان، فيضطرون إثر ذلك إلى النزول عند رغبة
الشارع الضاغط لا عن اقتناع ، غير أنهم يحرصون على إخراجه مخرج الاقتناع
أو التنازل منّة وتكرما مثلما حصل عند انتخاب مصطفى بن جعفر رئيسا للجنة
صياغة الدستور مؤخرا ()، أو عند حصول محمد عبو على الصلاحيات التي طالب
بها بعد أن هدد بالاستقالة، وبعد أن تغيب نحو أسبوع عن مباشرة مهامه ().


وعلى
الرغم من هذا الاتجاه النهضاوي الواضح في مسألة نظام الحكم، ما زال بعض
الأطراف يعتقدون – بتفاؤل مبالغ فيه- بأن في النهضة اتجاهات متباينة؛ بين
التزمت والتفتح والنزعة المدنية والنزعة الدينية….إلخ، وأن هذا التباين في
المواقف من نظام الحكم يمكن أن يبلغ حد مناقضة اتجاهها العام حول رؤيتها
للحكم. ويتوهمون أيضا أن هاتين النزعتين متعادلتان؛ أي أنّ إحداهما تضاهي
الأخرى، وربما تميل كفة نزعة التفتح إلى الرجحان خاصة مع الحراك
الديمقراطي اليومي والممارسة والاحتكاك بالقوى المعارضة في الداخل وبالدول
الغربية المجاورة في الخارج….إلخ، وهذا في اعتقادي أمل أكثر منه حقيقة،
ورغبة من هذه الأطراف في تبرير الاقتراب من النهضة والشراكة السياسية معها
أو التقرب إليها.


ومازال بعض الأطراف الآخرين
أغلبهم في المعارضة يطالبونها -عبثا- بأن توضح موقفها من تجربة الحكم في
الإسلام منذ الخلافة الراشدة؛ فهذه مسألة كما يقولون، وهم محقون، لا تتحمل
اللعب بالكلمات، وهو توضيح لن تفعله النهضة، وإن فعلته ففي إطار تحالفها
الثلاثي في الحكم حاليا، فكلنا يتذكر أن حديث الخلافة الراشدة السادسة على
لسان الجبالي أثار توجسات ومخاوف حتى في صلب حزب "التكتل" بلغت من القوة
ما جعل الحزب يخشى على وحدة صفوفه ويعلق المفاوضات طالبا التوضيح، وقد
يكون التوضيح قد جاءه من حليفه النهضاوي سرا ولكن هذا التوضيح لم يعلن
أبدا؛ لأن في ذلك أحد مَقاتل "النهضة" بانفضاض أنصارها عنها واتجاههم إما
إلى السلفية أو حزب التحرير أكثر مما هم فاعلون حاليا.


إن
أقصى ما سيحدث في صورة تبلور تيار تحديثي داخل حركة النهضة أنه إما أن
يعيش على هامش الأغلبية المؤمنة بالثوابت السابق ذكرها فضلا عن انحساره
المتزايد أمام أمواج الانتهازيين الجدد، أو أن يجمد نشاطه، أو ينسحب منها
ولكن دون انشقاق بل بهدوء وبفاعلية وتأثير ضعيفين، وذلك على الأقل في
المدى المنظور، وهذا ما نلمسه فعلا لدى بعض المنعزلين أو المعتزلين أو
المعزولين أمثال الأستاذ عبد الفتاح مورو، الذي ظلت علاقته بحزب النهضة
غامضة إلى فترة تشكيل حكومة الجبالي؛ إذ كان سيعين فيها وزيرا أو مستشارا
ثم استغني عنه أو رفض في آخر اللحظات.
هذا، ونود الإشارة إلى
أنه بغض النظر عن نتائج الانتخابات غير المتوازنة رغم الشهادات الرسمية
حول "نزاهتها" ظاهريا، والتي أعطت النهضاويين أسبقية واضحة لأسباب عديدة
يضيق المجال عن تعدادها وكنا قد ذكرنا أهمها في مقال آخر بعنوان " الإسلام
السياسي ومفارقات "الفلسفة" الذرائعية للمشروع المجتمعي: تونس أنموذجا"()
فإن حقائق مهمة في المجتمع التونسي المعاصر هي بصدد التشكل. وتتمثل هذه
الحقائق في فهم ظاهرة/ إشكالية "الهوية " المفتعلة بما فيها الوازع الديني
واللغوي الذي أرادت حركة "النهضة" أن تجعل منه مسألة سياسية، فكانت نتائج
الانتخابات "عرس" الديمقراطية كما ليس من المؤكد أن التونسي أرادها:
المرتبة الأولى في كل الدوائر لحزب الدين، المرتبة الثانية في معظم
الدوائر للعريضة الشعبية التي عرفت هي الأخرى كيف تستغل الدين، المرتبة
الثالثة للحزب الذي استمات في الدفاع عن حزب الدين، والرابعة في معظم
الدوائر للحزب الذي سلك مبدأ ميكيافيليا يسمى عادة "الحياد الإيجابي" حين
لم يوضح موقفه من حزب الدين.


ولكن أحداث ما بعد
الانتخابات والمفاوضات في الغرف المغلقة سريعا ما جعلت التونسي يكتشف
العلاقة غير السوية بين حزب الدين والديمقراطية؛ فالديمقراطية الصحية
والإيجابية هي الديمقراطية التعددية الحقيقية التي ينتمي فرقاؤها إلى
مشاريع مجتمعية تستند إلى الواقع وتعبر عن طموحات الشعب أو على الأقل
السواد الأعظم منه، لا مشاريع وهمية تستند خطأ إلى الدين؛ أي أن العلاقة
غير السوية التي تزرعها النهضة –بوعي أو بدون وعي وبارتباك واضح – هي ليست
ضد الديمقراطية فقط بل كذلك جوهر المفهوم الصحيح للوطنية القائم على
المواطنة (أي دين الشعب لا النخبة والمؤدلجين فقط، أو الدين بمعناه الروحي
والاجتماعي لا بتوظيفاته السياسية، واللغة وسنن التواصل، والعادات
والتقاليد، والأخلاقيات). وليس أدل عند البعض على الازدواجية هو خطاب
حمادي الجبالي الذي ألقاه يوم السبت 3/12/2011 بلغة فرنسية والحال أنه
ألقاه في الداخل لا في الخارج وأمام جمهور من الإيطاليين وليس من
الفرنسيين() .


ومما يؤكد بعد الشقة ما بين
النظري والتطبيقي على صعيد الممارسة العملية في الواقع أن التمشي الفعلي
الحاصل هو عدم الالتزام لا بحرفية الإدعاء ولا بروحه، وربما كان ذلك بدعوى
الظروف والملابسات، والدليل عليه ما أثاره ذلك الخطاب من التعليقات التي
حملها الفيسبوك؛ فخلاصة هذه التعليقات أنه من المؤسف والمهين أن يتحدّث
الجبالي بالفرنسيّة في لقاء عقد في تونس في الوقت الذي يدعي فيه الدفاع
المستميت عن الهوية، ورأى فيه الكثيرون إهانة للغتنا الوطنيّة وللهويّة
العربية الإسلاميّة التي طالما أعلت النهضة عقيرتها بالصياح "دفاعا" عنها
موحية أنّها الحامي الوحيد لها أو على الأقل أحد أهم المدافعين عنها، في
حين أنها تفرط فيها عند أول "اختبار".


وهكذا
يتبين التونسي، يوما إثر يوم، أن الممارسة هي غير الإدعاء، وأن
الديمقراطية وعي حداثي مشروط برؤية متكاملة على المرء أن يدرب نفسه على
اكتسابها، ومن أهم مبادئها وأعلاها حق المختلفين في التعبير عن اختلافهم
بحرية يضمنها القانون ويحددها في الآن نفسه. ولكن الأحداث كلها أكدت لا
بعد النهضة عن تبن حقيقي لهذه المبادئ فقط، بل كذلك عملها على تقويضها؛
ففي محاولة كسر إرادة المعتصمين بباردو1 وخاصة يوم الثالث من ديسمبر- وهو
اليوم الرابع للاعتصام - كفّر المتظاهرون النهضاويون وحلفاؤهم السلفية
والتحرير المعتصمين وصاحوا: "اللّه أكبر" فأجابهم المعتصمون وهو كذلك
"اللّه أكبر"! ضربوهم بالحجارة وهدّدوهم فقالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل!
شتموا المعتصمين وسبّوهم، ونعتوهم بأنهم "أيتام فرنسا" فأجابهم المعتصمون
"تونس تونس حرة حرة"! قالوا: أفديك يا "نهضتي" فأجاب المعتصمين مرة أخرى
"بالروح بالدم نفديك يا تونس "! أبرز قسم من المعارضين للاعتصام علم
القاعدة وأعلام التحريرين والجهاديين، فأعلى المعتصمون علم تونس وقالوا
"تونس فوق الجميع، بالروح بالدم نفديك يا علم! قال المتظاهرون ضد
الاعتصام: تحاربون الإسلام فردّ المعتصمون: لا بل نحارب كل ديكتاتوريّة
تدعي الإسلام! صلّى المتهجمون صلاة العصر في الشارع معتقدين أنّهم
سيستفزّون المعتصمين، فصمت المعتصمون احتراما لهم وصلى البعض من المعتصمين
في الوقت ذاته ولكن بمعزل عن المتهجمين!


الرؤية الاقتصادية لحزب النهضة:


"تقولون للشعب: علينا أن نفرح بزائر يجلب معه خمسين ألف موطن شغل.

فكيف تقولون عن “المومس" لماذا تبيع لحمها مقابل لقمة العيش؟"! () وفي حين
تتغنون بوديعة الـ خمسمائة مليون دولار، فإن استثمارات صخر الماطري في بلد
ذلك الزائر نفسه وبأموال استنزفها من الشعب التونسي تبلغ 10مليار دولار!
فأعيدوا إلينا "صخرنا" وخذوا وديعتكم إن كنتم صادقين! ()


إن
هذين السياقين، وغيرهما كثير، هما من أطرف وأعمق المحاججات التي يواجه بها
هذا الحزب "الذي تنكر للزوالي" مباشرة إثر الانتخابات بعد أن قضى به حاجته
الانتخابية. إن حزبا بالشاكلة الموصوفة فيما تقدم من العسير أن يمتلك –
كذلك- رؤية اقتصادية مخصوصة تعمل على صون الكرامة بصفة واضحة وتسعى في
الوقت ذاته إلى إكساب تلك الرؤية صبغة شعبية وتهدف إلى تلبية أهداف الثورة
في السيادة الوطنية والاستقلال الاقتصادي والازدهار الاجتماعي والحضاري في
كنف المساواة والعدالة؛ فها هي معالم نظرتهم الاقتصادية تتضح شيئا فشيئا
على الصعيد الداخلي والخارجي. ولعجزهم الفعلي عن الانكباب على مواجهة
المشكلات العاجلة بالمقاربة الملائمة والوسائل الناجعة، نراهم لا يكفون عن
لوْك ما كانوا يرددونه سابقا عن ترياق العودة إلى جذور العدالة ومعجزة
الاقتصاد الإسلامي على الرغم من أنه قد تبين للعالم أنه لا يختلف في شيء
جوهري عن الاقتصاد الرأسمالي، وأن المتخصصين يعلمون أنها أفكار مغرية غير
أنها غائمة وفضفاضة لم تتخل عن ميسمها البدوي الريعي المؤدلج "تحديثيا"،
والتي لا تصلح إلا لنوع من إدارة الثروة المتراكمة من نتاج الأرض وخيراتها
كالنفط وغيره من الكنوز، وليست قيما منتجة ومبدعة في بلد فقير محدود
الثروات والإمكانيات كبلادنا!


إنها لا تعدو أن
تكون قيما مسوّقة للبيع في عالم الوهم ليستهلكها الضعفاء والبسطاء والمغرر
بهم؛ فقد " أكد السيد رمضان الدغماني العضو في اللجنة المكلفة بدراسة
مشروع قانون ميزانية الدولة أن سبب التأخير في دراسة قانون الميزانية يعود
إلى التجاذبات والمزايدات التي حصلت بين النواب حول البنوك الإسلامية،
وبين الدغماني في تصريح خص به "الجريدة" أن أطرافا داخل اللجنة، لمح إلى
أنها تنتمي لحركة النهضة، أصرت على ضرورة إدماج فصول خاصة بالبنوك
الإسلامية دون أن تقدم تصورا واضحا لعملها أو خصوصياتها أو تضبط ملامحها.
وأضاف أنه تم توظيف البنوك الإسلامية لإغراء المواطنين"(). وفي هذا الصدد،
يُذْكَرُ أنّ وزير التعليم العالي سيدعو إلى "إحداث ماجستير في مجال
الماليّة الإسلاميّة في الجامعات التّونسيّة، تكون غايته في النهاية
"تطوير القطاع المصرفيّ إلى قطاع متّفق مع الشّريعة الإسلاميّة"، وتسائله
الدكتورة رجاء بن سلامة قائلة: "… إنني أسألك : ألم تقرأ كلّ الأبحاث
الجادّة التي تثبت عدم وجود نظام مصرفيّ "حلال"؟ في أيّ عالم تعيش؟ وهل
يجوز لك تسخير هياكل التّعليم لنصرة أفكارك الإيديولوجيّة؟
أمّا
تدريس تاريخ الاقتصاد الإسلاميّ فجائز، وأمّا تدريس شيء لا يوجد ولن يوجد
إلاّ للتّمويه على الناس، اسمه البنوك الإسلاميّة أو المصارف الإسلاميّة
فذلك ما لا أظنّ الجامعيّين يوافقونك عليه…" ()


إنها
سياسة لا تختلف في شيء - إذن- عن الليبرالية القائمة أساسا على سياسة
الخصخصة وتخلي الدولة عن دورها التعديلي اقتصاديا. وهي إذ تفعل ذلك، فإنما
تكون بالنتيجة قد نفضت يديها لا محالة من الخدمات الاجتماعية. وهذا لا
يختلف في جوهره عن سياسة التجمع البائد. وقد لوحظ – كما أسلفنا- أن النهضة
وحليفيها يسلطون الاتهام على اليسار على أنه محرك الفئات الفقيرة للاعتصام
والمطالبات، ويهددون المعتصمين بالمتابعة القانونية والمحاكمات، في حين
يظهر رئيس منظمة الأعراف السابق صهر المخلوع في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم حول
الشأن الاقتصادي والاستثمار معززا مكرما، ويبدو وكأنه يتمتع بحصانة لا
يرقى إليها شك تحميه من التتبعات.



إن
برنامج حركة النهضة الاقتصادي والاجتماعي في كثير من نقاطه هو وعود
انتخابية أكثر من كونه برنامجا عمليا، وهذه حقيقة بات يعلمها القاصي
والداني. إن هذا البرنامج الشهير بثلاثمائة وخمس وستين نقطة! يختلف عن
تصريحات قياداتها بعد الانتخابات؛ ذلك أن أعيان حركة النهضة يحصرون
المشكلة حاليا في الفساد المالي وسوء التصرف، ولا يتحدثون عن تباين حقيقي
مع سياسات الحكّام السابقين، في حين أن المشكلة – بالإضافة إلى الفساد
الناتج حتما عن الاستبداد- هي النموذج الليبرالي المتوحش الذي انخرط فيه
نظام بن علي والذي يجد معارضة عميقة وشاملة اليوم على الصعيد العالمي وفي
مركزه الأعظم ورمزه الأعلى "وول ستريت". فمن المفارقة– والحال هذه، وفي
مثل هذه الظروف- أن يقدم حزب نفسه كحزب "هوية"، مستفيدا من صفة الضحية
الهولوكوستية التي توظفها الحركات الدينية أو العرقية المعروفة في العالم
عامة، مزيفا القضايا الرئيسية لمجتمع لا أزمة للهوية فيه باعتبار تجانسه
التاريخي عرقيا ودينيا إلى حد بعيد، والحال أن المطلوب هو حلّ المشكلات
الحقيقية في التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية
والتعددية السياسية الحقيقية وفق أجندة وطنية وفي فترة انتقالية من أهم
خصائصها أنها تستدعي التشارك والتوافق. إنه إذ ينأى إلى الهامشي بل
المفتعل، فإنما يقلب المعطيات ويهرب إلى مسكّنات الهوية والدين – إلى حين
طبعا مهما طال- إفلاتا من استحقاقات البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي
يجدر أن يكون محلّ المناقشات اليومية في هذا العالم الذي صار يناضل ضد
العولمة النيو- ليبرالية نضالا يوميا.


وفي حين
تُمضي عديد الأحزاب التقدمية في العالم على عريضة للمطالبة بإلغاء ديون
تونس، لم تنبس قيادة النهضة ولا حليفيْها- وخاصة المؤتمر الذي طالما عارض
المديونية في الحملة الانتخابية- ببنت شفة حول هذه المسألة () . إن حركة
النهضة – وحليفيها كذلك في أغلب الأحوال - ماضية في تعهداتها بمنح ميزات
تجارية خاصة لأمريكا والتمسك الحرفي بالشراكة الأورومتوسطية حتى بعد
شائعات بل بالأحرى ترجيحات شبه مؤكدة عن انصراف الأوروبيين إلى حل مشاكل
اليونان وربما إيطاليا وإسبانيا والبرتغال على حساب الشركاء في جنوب البحر
المتوسط كما في قطاع السياحة مثلا، وحتى بعد مؤشرات طلب المغرب مراجعة هذه
الاتفاقية… وهذا يؤكد أن النهضاويين لا يهمهم المضي في سبيل مجتمع حديث
وحداثي فيه مساواة حقيقية بين الفاعلين الاجتماعيين، ولا تعنيهم الترجمة
العملية والحقيقية للعدالة في توزيع الثروة بين طبقاته.


هكذا
إذن نستخلص أن سبب ضيق حركة النهضة بالديمقراطية باعتبارها مشروعا مجتمعيا
متكاملا فإنما لأنها تقوم لا على "التدافع" الذي يتحدث عنه زعيم النهضة
الذي يستبطن الفوضى والغوغائية والعنف بل على الاختلاف البنّاء الذي يقوم
على الحوار والجدال الفكري وتنوع المشاريع المتنافسة؛ فالاختلاف هو الذي
يمحص المشروع الوطني من المرهون للخارج والبرنامج الشعبي من النخبوي
والفكر الديمقراطي من الاستبدادي في جوهره، وهذا هو الفرق بين سياسة
الخلافة والسلطنة، وسياسة الجمهورية، وبين الشورى التي تسعى إلى الإجماع
ولو كان شكليا وعلى مضض، وبين الديمقراطية التي تضمن حق الأقلية في الوجود
والتعبير والاعتراض، وتطبق مقترحاتها وأفكارها إذا كانت جيدة لاسيما وأن
المرحلة تأسيسية وليست برلمانية؛ بحيث يقابل الفكر الفكر المقابل والرأي
الرأي المقابل، ولا يسمح لأيّ طرف أن يتصرّف بطريقة مطلقة، ويستأثر
بالقرار. وإذا كانت المرحلة التأسيسية هي مرحلة أخرى للتوافق لا الحكم فإن
هذا التوافق يجب ان يكون من أجل إنقاذ البلاد لا من أجل إنقاذ النهضة من
فشلها البادي في الأفق، فنحن كلنا مسؤولون عن انتقال سلس وكل حزب مسؤول في
الوقت نفسه عن مشاريعه بصوابها وخطئها ويجب ألا يتحمل ذلك أي طرف عنه أو
معه ، تلك هي فضيلة الديمقراطية. ولهذا نرى شعبنا بعد الانتخابات يبدي
اهتماما متزايدا بضرورة مناقشة وطنية واسعة حول نظام الحكم: فهل سيكون ذا
خلفية دينية بطابع فقهي وهابي أم مالكي أم مقاصدي كما تذهب إلى ذلك
الأجنحة المختلفة للحركة الإسلامية التونسية؟ أم سيكون مدنيا قائما على
تدين تونسي على الطريقة التي تدعو إليها بعض الحركات الإصلاحية الدستورية
والليبرالية؟ أم يجدر أن يكون ذا خلفية طابعها حضاري إسلامي كما يدعو إلى
ذلك التقدميون عموما واليسار لا سيما الجذري خصوصا؟


وهنا
يتنزل طرح القضايا الاجتماعية والثقافية بتجاذباتها وتناقضاتها، ومن أهمها
مظاهر التدين كالحجاب، وخاصة النقاب، والدعوات إلى الفصل بين الجنسين في
المدارس والجامعات، والسعي غير المعلن إلى تمرير نظام الكفالة بدل التبني،
والعمل على إقرار تدريجي لأنماط من الزواج كالزواج العرفي بالاستناد إلى
حالات صحية معينة كالإعاقة، أو ظروف أسرية محددة كالجفاء والخصام والمشاكل
الزوجية المستديمة والمزمنة مع كراهة الطلاق بسبب الأطفال مثلا، وقد يعترف
لاحقا بزواج المسيار المعمول به في بعض بلدان المشرق بسبب العنوسة، وغير
ذلك من الإجراءات التي تسعى إلى ما يسمى بأسلمة المجتمع. في مقابل ذلك،
يتمسك قطاع عريض يشمل حتى أطيافا إسلامية يسارية أو تقدمية أو ليبرالية
بمكتسبات المجتمع كمجلة الأحوال الشخصية وحقوق المرأة وعلى رأسها
المساواة، ويطالب قسم كبير من التونسيين منذ أمد بمدنية الدولة، وكذلك سعى
كثيرون إلى إعادة النظر في نظام الإرث بالتساوي بين المرأة والرجل ويعلي
كثيرون فكرة المطالبة الصريحة بحرية المعتقد بناء أولا وأساسا على حق
الاختلاف الذي تضمنه شرعة حقوق الإنسان والمبادئ القانونية العالمية بل
تكفله أيضا الشرائع الدينية في تأويلاتها المتسامحة…


إن
الدرس الذي استخلصه كثيرون هو أنه من العسير أن نخرج مباشرة وسريعا من
الاستبداد وعقلية الحزب الواحد إلى الديمقراطية؛ فشعبنا وإن اختلف نسبيا
عن بقية الشعوب العربية في درجة تمدّنه فإنه هو الآخر عاش طويلا على عبادة
الزعيم والحاكم الواحد الأوحد، ولم يألف قيم الحوار والتعددية
والديمقراطية والتداول على الحكم، فتبدو كما لو أنها مازالت بعيدة عن
متناول عقلية المواطن التونسي العادي لاسيما على صعيد الممارسة. لكن في
الوقت ذاته نستطيع أن نتلمس في الواقع العيني أدلة واضحة على أن ما ترنو
إليه النخبة الديمقراطية التونسية المعروفة في محيطها العربي باعتدالها
وتمسكها بالتفتح والتسامح وقبول الاختلاف والحداثة ليس مقصورا على الطبقة
الوسطى فقط بل يشمل حتى الطبقات الشعبية. غير أن همّ هذه الطبقات الشعبية
محصور اليوم في الانتفاضة من أجل العمل ولقمة العيش بعد أن يئس أغلبهم من
وعود "الحكام الجدد" من "حزب ربي" وحلفائه الذين انتخبوهم متوسمين فيهم
صدق النوايا فألفوْهم قد قلبوا لهم ظهر المجنّ وركبوا السلطة وانصرفوا إلى
المحاصصة ومد الجسور نحو الخارج والبحث عن توافقات إقليمية ودولية تاركين
الداخل بدون برنامج، وذاك بسبب أفقهم الضيق وبدائلهم المحدودة بل العقيمة
معرفيا ومنهجيا والعاجزة بالضرورة عن مسايرة متطلبات الثورة ، نقول هذا
بكثير من التساهل في التقييم والتماس للأعذار. وبناء عليه، فإن أحزاب
السلطة الآن مهتزون وفريقهم تكذبه الأيام وتفضحه الأحداث، إذ تحصل في
صلبهم تناقضات وصراعات منها الظاهر ومنها الخفي، ويستقيل منهم بين الفينة
والفينة أفراد وجماعات، فقد بدأ الفرز يحتد، والديمقراطية تكسب كل يوم
أنصارا جددا ()؛ فهم في السلطة لا لأنهم جديرون بها بل لأن منافسيهم لا
يحسنون التنظم ولا يمارسون النقد الذاتي البناء بشكل علمي واضح المعالم
ولم يبلغوا الدرجة العالية الضرورية من نكران الذات والاعتراف بفضل الثورة
والشهداء عليهم، ولم يصلوا بعد إلى النضج السياسي والصلابة في العمل
اليومي الميداني وسط الناس والمرونة والاجتهاد الفكري لابتكار أشكال
توعوية سليمة وغير نخبوية، والعمل الدؤوب الذي يتجاوز المناسباتية،
والقدرة على التوحد وبناء الجبهة التقدمية والديمقراطية المناضلة التي
تستطيع أن تلتحم مع الجماهير وتنقذ المسار الثوري. يمكن القول إذن رغم
وجود أحزاب ومجموعات حداثية وديمقراطية وشعبية، فلا جبهة تعبر عن طموحات
الشعب إلى حد الآن تعبيرا واضحا رغم كثرة المتكلمين باسمه، غير أنهم،
مدفوعون بالأحداث الجسام وضغط القواعد، يسعون بعض السعي الجاد إلى التنسيق
حد ما ويبذلون جهودا في خلق آليات جديدة للتشاور. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه
مازالت أمام التقدميين والنخبة الحداثية فرصة حقيقية لنبذ الفرقة والتآلف
والتوحد من أجل الالتحام بالشعب؛ ولذلك فهم مطالبون بمغادرة منطقة
الانتظارية والتواكلية والأحلام والأوهام التي قبعوا فيها طويلا ولم تحرك
سواكنها العميقة حتى الثورة العاصفة، ولا بد لهم من ممارسة النقد الذاتي
بصفة علمية فعليا، والبحث عن بدائل أكثر مرونة وشعبية تلتف حولها أوسع
فئات الشعب. وهذا الاتجاه المدني العريق، إذا استطاعت المعارضة التقدمية
بجانحيها الليبرالي واليساري أن تكرسه وتوسعه فكريا وسياسيا في أرض
الواقع، فستزيده الأيام تبلورا كلما ابتعدنا عن عصر الخوف والرعب الذي شكل
جانبا من وجدان التونسي وترسب في لاوعيه، وكلما شعر التونسي بقيمة ثورته
ذات البعد الإنساني العالمي وتمسك بكرامته وثمّن عاليا مواطنته وتشبّث
بأبعادها الحضارية، ومارس حريته على الوجه المدني الديمقراطي المنشود.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

في الإسلام السياسي خطابا وممارسة(2/2) السبت 11 شباط (فبراير) 2012 بقلم: العربي بن ثاي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

في الإسلام السياسي خطابا وممارسة(2/2) السبت 11 شباط (فبراير) 2012 بقلم: العربي بن ثاي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: