ما بعد العلمانية: قراءة في مشروع هابرماس على الممارسة الدينية أن تعتمد على نتائج القبول بالتعددية، وإنجازاً للمشروع برمته نجد هابرماس يدعو إلى إعطاء منزلة جديدة للدين.
تشكل الرؤية العقلانية للمجتمع المعاصر، لدى هابرماس، أساس الإنتقال من
نموذج الفكر القروسطي والأصولي والعنفي، مروراً بتجاوز العنف المضاد من
السياسة العَلمانية التي تهدف إلى الإقصاء والتهميش للفكر الديني، إلى
نظرية في المجتمع ما بعد العَلماني.
والمجتمع ما بعد العَلماني يلتمس استمرارية الجماعات الدينية في محيط
يستمر بعلمنة نفسه، والدور الحضاري الذي يؤديه التشارك والفكر الجمعي
الموجه والمتنور بالديمقراطية، وفي هذا الجدل كله يظهر المجتمع ما بعد
العلماني وكأنه طريق ثالث بين العلم والدين.
ويتطلب لما سبق أن يؤدي الفكر الديني ثلاثة إنجازات هي:
1- يجب على الوعي الديني أن يبذل مجهوداً ليتجاوز التفاوت المعرفي الذي لا بد أن يبرز من الالتقاء بالطوائف أو الديانات الأخرى.
2- وعلى الوعي الديني أن يماشي سلطة العلوم التي تحتفظ بالاحتكار الاجتماعي للمعرفة على العالم.
3- ولا بد أن ينفتح الوعي الديني على أولويات دولة الحق الدستورية، ففي
كل مرة ينفجر فيها صراع جديد، لا بد من متابعته في مراكز المجال العام
الديمقراطي.
ولا يمكن تحقيق كل ما سبق، كما يرى هابرماس، كمخرج لأزمة التطرف
والعلاقة النقيضة للدين بالسياسة أو العكس، إلا بسن معايير مشتركة وتشكيل
حس مشترك يمكن أن يوفر مناخاً تسامحياً من جهة، وشرعياً من جهة أخرى،
والمهمة المرحلية للدين – وبناءً على دوره في التأسيس، والأثر في المجتمع
– يجب أن تتجلى في متابعة الممارسة النقدية التي حققها الدين في علاقته مع
الموروث الميثولوجي السابق عليه، وكما يقول هابرماس: “إن العمل الذي حققه
الدين على الأسطورة، يقوم المجتمع ما بعد العَلماني بمتابعته على الدين
نفسه”، فالأسطورة (اسطورة الخلق السابقة للدين) رُفضت لخرافيتها،
وابتعادها عن المعقولية من طرف المؤمنين أو الدين عموماً، واليوم فالمجتمع
المعاصر – المجتمع ما بعد العَلماني، عليه أن يتوجه للدين [بأداة
الفلسفة]، ليتفحص مقولاته والبعد الخرافي والأسطوري، لكشفه ونقده، لتحقيق
مقبولية معيارية عامة، قائمة على التعددية الدينية كما سبق، والتعددية
الثقافية.
وبذلك على الممارسة الدينية أن تعتمد على نتائج القبول بالتعددية،
وإنجازاً للمشروع برمته نجد هابرماس يدعو إلى إعطاء منزلة جديدة للدين،
بحيث يصبح مجتمع العلمانية أقرب إلى الظاهرة المركّبة التي تفترض وجود
طرفين هما العَلماني والدينيّ. وتكون ما بعد العلمانية بذلك مساراً
تكاملياً بين الطرفين، بل يعتقد هابرماس أنّ من مصلحة الدولة الدستورية
الحديثة مراعاة كل المصادر أو الينابيع الثقافية التي يتغذّى منها التضامن
بين الناس وينمّي وعيهم بالقيم. ولذا فإنّ المؤمنين والعَلمانيين في
الدولة الدستورية الحديثة ينبغي عليهم التعامل باحترام متبادل. أما الأساس
الفلسفيّ لتلك العلاقة، فهو مبدأ عدم التوافق بين العلم والإيمان كأحد
مبادئ الدولة العَلمانية. ولكنّ هذا المبدأ لا يجد له ترجمة معقولة حسب
هابرماس إلا عندما يتمّ الإعتراف للقناعات الدينية بمنزلة ابستمية مختلفة،
والكفّ عن نعتها باللاعقلانية.
وهنا إشارة واضحة لوجوب قبول التعددية من طرفي المعادلة: الدينين
والعلمانيين، بذلك سينشأ التضامن بين السياسية والدين والفلسفة على الشكل
الآتي:
1- إصلاح ذاتي للدين، ينتج القبول بالتعددية والإنجاز العلمي.
2- إمكانية رعاية النظام السياسي التشاوري لإمكانيات وفاعليات المجتمعات ما بعد العلمانية المتعددة، باسم الديمقراطية.
3- إصلاح فلسفي للمكتسب الديني والسياسي، بواسطة النقد لتأسيس تعددية عالمية عقلانية.
د. علي عبود المحمداوي
مدرس الفلسفة في كلية الآداب – جامعة بغداد