حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 مفهوم الحكمة ومفهوم السعادة في الفلسفة اليونانية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
المارد
ثـــــــــــــــائر
ثـــــــــــــــائر
avatar


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 51
معدل التفوق : 121
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 23/02/2012

مفهوم الحكمة ومفهوم السعادة في الفلسفة اليونانية  Empty
27052012
مُساهمةمفهوم الحكمة ومفهوم السعادة في الفلسفة اليونانية

كثيرا
ما يتصور الناس -وخاصة شباب اليوم- أن السعادة تتناقض مع الحكمة، وأن
الحكمة التي يتمتع بها كبار السن أو الفلاسفة قرينة العبوس والتجهم، وعدم
الاكتراث بحسن المظهر أو بمباهج الحياة، وفي ذات الوقت يتصورون خطأ أن
السعادة في الجاه أو في الثروة أو في المنصب الرفيع أو في ممارسة حياة
اللذة بكافة أشكالها المادية التي تتجلى في إشباع رغبات الجسد.


ولعل هذا الخلط يدعونا؛ لأنَّ نعرف بداية المعنى اللفظي والاصطلاحي للحكمة والسعادة.

فالحكمة
كما عرفتها الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) هي: (اكتساب العلم من التعلم أو من
التجارب ويقاربها في المعنى كلمة الخبرة، وهي علم حقائق الأشياء، وعلم
الحكمة يغسل النفوس من وسخ الطبيعة، وإذا عرفت النفس الحكمة حنت واشتاقت
إلى عالم الأرواح ومالت عن الشهوات الجسمانية المميتة للنفس الحية، والحكمة
تكبر وتنمو من الاتصال بالله. وقد عرف بعضهم الحكمة بأنها عمل ما ينبغي
كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي)(1)، وعرفها بعضهم الآخر بأنها (العلم
والتفقه)(2)والحكمة أيضاً في نظر آخرين هي (الكلام الذي يقل لفظه ويجل معناه) وهي حالة (يوصف بها الحكيم أو حالة توصف بها الأفعال والأقوال)(3).


وقد
اهتم الفلاسفة منذ القدم بتعريف الحكمة فعدها أفلاطون أحد الفضائل الأربعة
(الحكمة، العدالة، الشجاعة، الاعتدال)، واعتبرها أرسطو رأس العلوم والأدب
والفن وهي تلقيح الأفهام ونتاج الأذهان(4). أما ديكارت في مطلع العصر
الحديث فقد عرفها بأنها (المعرفة الكاملة بجميع ما يمكن أن يعرف لتدبير
الحياة وحفظ الصحة واختراع الصناعات)(5). وقد عرفها هيجل -أعظم الفلاسفة
الألمان- بقوله: (الحكمة هي أعلى المراتب التي يمكن أن يتوصل إليها، فبعد
أن تكتمل المعرفة ويصل التاريخ إلى قمته تحصل الحكمة، وبالتالي فالحكيم
أعلى شأناً من الفيلسوف، والحكمة هي المرحلة التالية والأخيرة بعد الفلسفة.
إنها ذروة الذرى وغاية الغايات)(6).


لقد
ربطت التعريفات السابقة للحكمة بينها وبين الفلسفة، واعتبرت بعضها أعلى
شأناً من الفلسفة، واعتبرت الحكيم أعلى مرتبة من الفيلسوف. والحقيقة أنه
ينبغي أن نميز بين الحكمة بمفهومها النظري وهي ما يمكن أن نسميه: الفلسفة،
والحكمة بمفهومها العملي وهي ما يطلق عليها الخبرة. وهذا التمييز يعنى
ببساطة أن الحكيم إذا ما كانت حكمته نظرية وعملية معاً فهو فيلسوف وحكيم
معاً اتسقت رؤيته النظرية مع سلوكه العملي، ولنا في سقراط الفيلسوف
اليوناني مثلاً أعلى في ذلك المقام. أما إذا اقتصرت الحكمة على طول العمر
وخبرة العمل دون الإدراك النظري واكتمال المعرفة النظرية فلا يمكن أن نقارن
هذه الحكمة والخبرة بالفلسفة ونعتبرها أعلى شأناً منها! فمهما كانت الخبرة
العملية المكتسبة ناجحة ونافعة فلا يمكن أن يقارن صاحبها بحكمة الفيلسوف
الذي درس وتأمل ووعى بعقله وأدرك طبيعة الأشياء(7).


أما
(السعادة) فهي ضد الشقاوة وهي الرضا التام بما تناله النفس من الخير وثمة
فرق بين السعادة واللذة؛ فالسعادة حالة خاصة بالإنسان وأن رضا النفس بها
تام، على حين أن اللذة حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان وأن رضا النفس بها
مؤقت ومن شرط السعادة أن تكون ميول النفس كلها راضية مرضية، وأن يكون
رضاها بما حصلت عليه من الخير تاماً ودائماً ومتى سمت السعادة إلى مستوى
الرضا الروحي ونعيم التأمل والنظر أصبحت غبطية(8).
ومن
هنا جاء تعريف البعض للسعادة بأنها (شعور بالبهجة والاستمتاع منصهرين
سوياً والشعور بالشيء أو الإحساس به هو شيء يتعدى بل ويسمو على مجرد الخوض
في تجربة تعكس ذلك الشعور على الشخص وإنما هي حالة تجعل الشخص يحكم على
حياته بأنها جميلة ومستقرة وخالية من الآلام والضغوط)(9).


وقد
اختلف الفلاسفة قديماً وحديثا حول معنى السعادة وحقيقتها؛ فالسوفسطائيون
قديماً كانوا يرون أن السعادة هي الاستمتاع بالأهواء بينما رأى سقراط
وأفلاطون أن السعادة في إتباع الفضيلة. أما القورينائيون فيقولون بأن
السعادة في الاستمتاع باللذات الحسية، بعكس الكلبيين الذين رأوا أن السعادة
هي في الزهد في هذه اللذات الحسية قدر الطاقة الإنسانية. ونفس ما اختلف
حوله القدامى حدث في العصر الحديث، فقد أرجع كانط السعادة إلى العمل طبقاً
لمبدأ الواجب، وفرق بعضهم بين اللذة والسعادة فجعلوا اللذة حالة آنية تابعة
للزمان المتغير والسعادة حالة مثالية يقترب الإنسان منها بالتدريج دون
بلوغها بالفعل. ومن هنا ظهر مذهب السعادة الذي يركز أصحابه على القول بأن
السعادة العقلية هي الخير الأعلى وهي غاية العمل الإنساني سواء أكانت خاصة
بالفرد أو بالمجتمع، في مقابل مذهب اللذة الذي قال أصحابه بأن اللذة هي
الخير الأعلى(10).


وإذا
قصرنا حديثنا هنا عن ارتباط السعادة بالحكمة أو الحكمة بالسعادة في
الفلسفة اليونانية القديمة، فإننا سنجد أن بداية هذا الاقتران بينهما كان
عند هيراقليطس الفيلسوف المتفرد في القرن السادس قبل الميلاد، فرغم أن
فلسفته اتسمت بالغموض والإلغاز وتعمده ذلك الغموض حتى في اللغة التي
استخدمها للتعبير عن فلسفته إلاَّ أنها في مجال الأخلاق جاءت أكثر وضوحاً
في بيان أن النفس الجافة أي النفس الزاهدة هي (الأحكم والأفضل)؛ فجفاف
النفس وزهدها عند هيراقليطس هو طريق فضيلتها (إذ ليس من الخير أن يحصل
الإنسان على كل ما يرغب، فالمرض مطية الصحة والسعادة والجوع سبيل الشبع،
والتعب طريق الراحة)(11)، وإذا كان (كبح جماح الشهوة عسير)(12)
-
كما يقول هيراقليطس- فإن إرضاء الشهوة وإشباعها إنما يتم على حساب نقاء
الروح وصفاء النفس. ولذلك كان يقدر أولئك الفضلاء الذين ينجحون في السيطرة
على شهواتهم ورغباتهم وفي ذلك يقول أيضاً: (إن شخصاً واحداً عندي أفضل من
عشرة آلاف إذا كان أفضلهم)(13)
إذ
أن مصير الإنسان في رأيه رهن بأخلاقه وفضائله. ولم يكن غريباً إذن أن يضيف
برتراند رسل الفيلسوف الإنجليزي المعاصر فلسفة هيراقليطس الأخلاقية بأنها
تعد (ضرباً من التقشف الشامخ بأنفه)(14).


والطريف
أن رؤية هيراقليطسس هذه في الاقتران بين الحكمة والسعادة -والتي جاءت رغم
فلسفة الطبيعية التي غلب عليها الطابع المادي- قد التقت مع رؤية فيثاغورس
صاحب المذهب الرياضي في تفسير العالم الطبيعي، وإن زاد الأخير بأن الحكمة
لا تضاف لغير الآلهة واعتبر نفسه مجرد محب للحكمة(15)
ومن هنا جاء لفظ الفيلسوف بمعنى المحب للحكمة.

وفي
محبة الحكمة عند فيثاغورس وأتباعه تكمن السعادة كل السعادة؛ فقد آمن
الفيثاغوريون بأن الطريق إلى طهارة النفس إنما يكون بالعلم والتأمل الفلسفي
فضلاً عن التمسك بالأخلاق والزهد في مطالب الحياة المادية للجسد. وبدا ذلك
تماماً حينما اختاروا في ديانتهم عبادة الإله أبوللون وهو إله العقل بدلاً
من الإله ديونيسوس الذي عبده أتباع أورفيوس(16).


وقد
لخص لنا أحد المؤرخين القدامى المبادئ الأخلاقية التي التزم بها فيثاغورس
وأتباعه في فقرة بديعة قال فيها (إن المرء يكتسب تحسناً في سلوكه من ثلاث
طرق: أولها: تأمل الإله ليدنو
من إخماد كل الشرور في نفسه ويتبع مسلك التقليد لكل ما هو إلهي. ومن شأن
هذا أن يطوع المرء نفسه لتتوافق مع الإله. وثانيها: الاعتقاد في حياة الأفعال الخيرة؛ لأنَّ الفضيلة تشعر الإنسان بالقداسة، وثالثها:
أن يكون قد بلغ تمام الصلاح في الموت حينما يصبح بتهذيب الجسد قادراً على
أن تشتاق روحه في حياته الدنيا إلى الإله وما أكثر وله الروح حينما تشق
طريقها متجهة إلى الإله عندما تخرج من هذا الجسد نهائياً عند الموت)(17).


وقد
أكد يامبليخوس -أحد أتباع الفيثاغورية في القرن الرابع الميلادي- هذا
التوحيد بين الحكمة وبين الاتجاه إلى الإله والتماس الخير والسعادة ذلك
بقوله عن سابقيه من الفيثاغوريين: (إنهم قد كفوا عن الفعل الذي لا يرضى
الإله وكان هدفهم من ذلك الاقتراب من الإله والتحدث إليه. وقد سخروا حياتهم
في الطاعة لتتوافق مع إرادة الإله. لقد آمنوا في فلسفتهم بأن من يبحث عن
مصدر آخر للخير غير الإله يكون أحمق)(18).


لقد
اكتسبت رؤية فيثاغورس والفيثاغوريين في التوحيد بين الحكمة والسعادة مسحة
صوفية زاهدة بدت في توجههم الكامل -بعد تطهير النفس بالعلم والتأمل- إلى
الإله والتماس الخير منه وحده.


وقد
تدعمت هذه المسحة الصوفية في الربط بين الحكمة والسعادة في فلسفة بارمنيدس
رغم أنه لم يذكر الإله في قصيدته الشهيرة (في الطبيعة) وفضل الحديث فيها
عن (الوجود) مدعياً أنه استلهم ذلك من آلهة العدالة كما بدا في مقدمة تلك
القصيدة التي امتلأت بالرموز الصوفية؛ حيث قال فيها أنه قد اتجه في عربة
تجرها الجياد وتقودها العرائس بنات الشمس إلى حيث الأبواب التي تفصل بين
النهار والليل أو النور والظلام، ولما اجتاز هذا الطريق الإلهي حدثته
الآلهة قائلة: مرحى أيها الشاب يا رفيق الهاديات والخالدات اللاتي أرشدن
عربتك.. مرحى لقد أرسلت في هذا الطريق بالأمر الإلهي (
DIKE) لا بالقدر السيِّء(19).

لقد
أراد بارمنيدس من هذه الصورة الرمزية لطريق الحق الذي يبحث عنه أن يوحى
لنا بأنه إنما يسلك طريقاً مختلفاً عن الطريق المعتاد الذي يسلكه الآخرون
في معرفة الحق وأن هذا الطريق إنما هو طريق إلهي مقدس. ومع ذلك فهو حينما
يتحدث بعد ذلك عن طريق الحق تجده يحكم على هذا الوحي الإلهي بالعقل، فطريق
الحق يبدأ في القصيدة بقوله (انظر بعقلك نظراً مستقيماً إلى الأشياء.. لأنه
لا يوجد سوى طريقين للمعرفة؛ أحدهما طريق الحق وهو طريق اليقين والثاني
عكس الأول، إنه طريق اللايقين واللاحقيقة أي طريق الظن. فما هو الحق
واليقين عنده؟! إنه إدراك أن الوجود واحد وهو وحده الموجود وأن طبيعة هذا
الوجود هو الفكر أي أنه يتحدث عن الوجود المعقول الذي لا يدرك إلاَّ
بالعقل. يقول بارمنيدس: (إن ما نفكر فيه وما من أجله يوجد التفكير شيء
واحد)(20). ولما كان الوجود المعقول هو وحده الموجود عنده فهو ينكر أي
حقيقة للوجود الخارجي المحسوس ويعتبره أقرب ما يكون إلى اللاوجود. ومن ثم
فالسعادة كل السعادة عند بارمنيدس والحكمة كل الحكمة عنده هي أن نبقى في
حدود هذا اليقين المطلق يقين الوجود الواحد وننكر ما عداه. وربما يكون
ممكناً للقارئ المعاصر أن يفهم بارمنيدس وحديثه عن هذا الوجود الواحد مناط
الحق واليقين عنده إذا ما وضع لفظ الجلالة) الله: مكان لفظ (الوجود)؛ فكل
الصفات التي وصف بها بارمنيدس هذا الوجود الواحد إنما هي في حقيقتها صفات
لا تنطبق إلاَّ على الوجود الإلهي، فقد وصف بارمنيدس هذا الوجود الواحد
بأنه لا بداية له ولا نهاية، لا يكون ولا يفسد، لا ينقسم ولا يتحرك...إلخ.


وعلى
كل حال فإن سعادة المرء وحكمته عن بارمنيدس في إدراكه العقلي لحقيقة هذا
الوجود الواحد. وماعدا ذلك يعد في نظره مجرد أوهام وظنون يحيا بها الإنسان
ويسير من خلالها في طريق لا يعرف فيه المعنى الحقيقي للوجود والطريق
الحقيقي للسعادة.


والطريف
في تاريخ الفلسفة اليونانية قبل أفلاطون أن تتوافق رؤية الذريين -وخاصة
ديمقريطس- مع رؤية فيثاغورس وبارمنيدس في مجال الربط بين الحكمة والسعادة
رغم مثالية الأخيرين ومادية الأول، فالمعروف أن ديمقريطس وأتباعه قد تبنوا
مذهباً مادياً في تفسير العالم الطبيعي يعتمد على رده إلى الذرات وليس إلى
العناصر الأربعة. وقد أحكم ديمقريطس إلى حد بعيد التفسير المادي الذرى (لكل
ما في العالم الطبيعي، فالنفس عنده ذرات مادية كما أن الأشياء والأجسام
والعناصر ذرات، حتى الآلهة نظر إليها على أنها مركبات ذرية لطيفة)(21)
ومع
ذلك فإن فلسفة ديمقريطس الأخلاقية جاءت مختلفة عن هذا الطابع المادي العام
لفلسفته حيث أنه بدأها بالتأكيد على أن قوة الجسم لدى الإنسان لا تعنى
شيئاً (فقوة الجسم لا تكون من أسباب النبل إلاَّ في دواب النقل) بينما قوة
العقل وقوة الخلق هي كل شيء بالنسبة للإنسان؛ لأنَّ (قوة الخلق هي سبب
النبل في الإنسان).. على حد تعبيره(22) وإذا سألنا عن جوهر السعادة عنده
لقال بما أسماه (اعتدال المزاج)، فذلك الذي يؤدى بالإنسان إلى الشعور
بالبهجة والتفاؤل، إذ أن قوة النفس واعتدال مزاجها يعنى في رأيه معرفتها
للخير وتوجيه الإرادة إلى سلوك طريقه وهذا ما يسميه ديمقريطس ما يجب عمله
to deon,(23)
فما يجب عمله بالنسبة للنفس الإنسانية يبدأ بمحاولتها كبح جماح الرغبات
والشهوات الحسية والجسدية. ولن يكون ذلك إلاَّ بالعمل الجاد وتحمل الشدائد
بشجاعة ولا يتأتى للمرء ذلك إلاَّ عن طريق الثقافة والتعليم فبهما وحدهما
يعتدل مزاج الإنسان ويتجه إلى طريق الخير والسعادة(24).


وقد
جاء السوفسطائيون بعد ذلك ليضعوا هذا التوحيد أو الربط بين الحكمة
والسعادة موضع الشك والجدل، حيث اعتبروا منذ إعلان زعيمهم بروتاجوراس أن
الإنسان الفرد معيار كل شيء، اعتبروا أن السعادة مسألة فردية؛ فما أرى فيه
الخير والسعادة يكون كذلك بالنسبة لي وما ترى أنت فيه الخير والسعادة فأنت
حر فيما ترى ومن ثم فقد أصبحت الفضيلة والسعادة مسألة نسبية تختلف باختلاف
تصورات ومصالح الأفراد(25) وذلك فقد غلب على هذه الرؤية السوفسطائية ومن
تابعوها التوحيد بين الحكمة والفضيلة والسعادة، بل بين المنفعة والفضيلة
والسعادة فلما كان ما ينفعني هو ما يسعدني فالخير إذن في النافع والمفيد
بالنسبة لي كفرد، ومادامت المصالح والمنافع تختلف من شخص إلى آخر، فإن طريق
السعادة إذن يختلف من شخص إلى آخر وكذلك مفهوم الخير والحكمة.


ولعل
تلك النظرة التفكيكية التي فكت الارتباط بين الحكمة والسعادة وفصلت بينهما
وبين الخير والفضيلة والتي انتشرت بين عامة الناس -تأثراً منهم بالمعلمين
السوفسطائيين- هي التي أثارت ثائرة سقراط وجعلته يترك بيته وأسرته ويمشى
بين الأثينيين ليجادلهم ليل نهار حتى يعودوا إلى سابق عهدهم من الثبات على
مبدأ التوحيد بين الفضيلة والسعادة. لقد كان سقراط -بحياته ومواقفه وكلماته
التي خلدها تلميذه أفلاطون في محاوراته السقراطية- هو المثال الذي يحتذي
عبر العصور في التوحيد بين الحكمة والسعادة حينما وحد بين الفضيلة والمعرفة
ورفع شعاراً لكل فلسفته هو (اعرف نفسك)، والنفس بالنسبة له كانت (ذلك
الجزء الإلهي في الإنسان وكل من تأمله وتوصل إلى معرفته، عرف ما هو إلهي
وفاز بخير معرفته لنفسه)(26).


لقد
كان سقراط يجد سعادته في توعية الناس بالطريق الحق للفضيلة، ذلك الطريق
الذي يبدأ بأن يسأل كل منهم عن ماهية ما يدعى العلم به وخاصة في مجال
الفضيلة، فإن كان يدعى أنه أنقى الناس فليسأل نفسه (ما هي التقوى أو ما
الذي يجعل الفعل التقى تقياً)، وان كان يدعى أنه أشجع الناس فليسأل نفسه عن
ماهية الشجاعة أي ما الذي يجعلنا نصف أي فعل من أفعالنا بأنه شجاعة. إن
معرفة ماهيات الفضائل ستقودنا حتماً إلى سلوك طريق الفضيلة؛ لأنَّ من عانى
في إدراك ماهية أي من هذه الفضائل سيسلك طريقها حتماً بعكس من يتعلمها من
المتعلمين دون أن يكابد مشقة البحث العقلي بنفسه، ولذلك قال سقراط قولته
الشهيرة: أن الفضيلة علم لا يعلم، وما ذلك إلاَّ لأنه يعتقد بأن الفضيلة هي
علم كامن في النفس يملكه كل الناس بشرط أن يبذلوا جهدهم العقلي في التساؤل
وفي البحث داخل النفس وباستفتاء ضميرهم الأخلاقي عند كل سلوك سيكون
الإدراك الصحيح لطبيعة الفعل الفاضل المطلوب وسيكون سلوك طريقه. ومن هنا
وحد سقراط بين الفضيلة والمعرفة واعتبر أن أي إنسان يسلك طريق الرذيلة إنما
هو جاهل بالمعنى الحقيقي للفضيلة. فسقراط لم يكن يتخيل أبداً أن أي إنسان
يعرف المعنى الحقيقي للفضيلة يمكن أن يسلك طريق الرذيلة. (فالفضيلة علم
والرذيلة جهل). وقد كان سقراط عبقرياً حقاً حينما قال قولته الشهيرة بناء
على كل ذلك (أن الفضيلة واحدة) وان سألناه: كيف تكون الفضيلة واحدة ونحن
نرى ونتحدث عن فضائل عديدة مثل الصدق والأمانة والتقوى والشجاعة...إلخ.
لأجابنا: أن كل هذه مسميات لمسمى ولحد هو الفضيلة؛ فالصدق فضيلة، والأمانة
فضيلة وهكذا فإن ما ندعوه فضائل متعددة إنما هي مسميات وصور متعددة لمسمى
واحد هو الفضيلة. والفضيلة هي (إدراك الخير)؛ فمن أدرك الخير في كل المواقف
صار فاضلاً أيا كان الاسم الذي نسمى به هذه الفضيلة. ولذلك فإن الفضيلة
عند سقراط لا تتجزأ وسلوك المرء يظل في طريق الفضيلة دائماً إذا ما عرف
أنها في كل الأحوال هي (إدراك الخير) وسلوك طريقه. فلا معنى؛ لأنَّ يدرك
المرء معنى الفضيلة ولا يسلك طريقها لأنه بذلك يكون جاهلاً كما أشرنا فيما
سبق بالمعنى الحقيقي للفضيلة؛ فالفضيلة ليست مجرد علم نظري، بل هي علم
يرتبط بالسلوك ويظهر في الأفعال(27).


وقد
كان سقراط يجد سعادته القصوى في البرهنة على ذلك الاعتقاد في كل المواقف
التي عاشها. والقارئ لحياته يجدها مليئة بالمواقف التي تؤكد أنه كان يجد
السعادة في التوحيد بين المعرفة بحقيقة الفضيلة وسلوك طريقها أياً كانت
النتائج المترتبة على ذلك. ولعل أبرز هذه المواقف الكاشفة موقف خضوعه
للمحاكمة نتيجة عدة تهم ظالمة كما بدا في دفاعه عن نفسه أمام المحكمة
الأثينية، ومع أنه نجح في رد هذه التهم عن نفسه وكشف لهيئة المحكمة أنها
غير صحيحة وملفقة من قبل خصومه إلاَّ أنه حينما استقرت المحكمة على إدانته
قبل الحكم الذي جاء قاسياً، حيث حكم عليه بالإعدام بشرب السم، وقال قولته
المشهورة (أنا إلى الموت وأنتم إلى الحياة. والإله وحده أعلم بأيهما هو
الخير)(28). وحينما عرض عليه تلاميذه عدة خطط للهرب من تنفيذ هذا الحكم
الظالم والتي تضمن سلامته التامة رفضها جميعاً، وقال أيضاً قولته الشهيرة
متخيلاً القانون شخصاً يحدثه: (أتتخيلون مدينة لا يحترم أهلها القانون. ألا
تندك هذه المدينة من أساسها!)(29)
لقد
وجد سقراط سعادته في أن يخضع لتنفيذ هذا الحكم رغم أنه كان قاسياً وظالماً
لأنه صدر بموجب القانون الأثيني وقد كان هو نفسه ينادي طوال حياته باحترام
القانون، ويعتبر أن احترام القانون هو أساس المدينة وجوهر الدولة المستقلة
وعنوان العدالة فيها، لقد تجرع سقراط السم في مساء اليوم المحدد لتنفيذ
الحكم (رابط الجأش مغتبطاً)(30)
لأنه
كان مؤمناً بأنه سيلقى مصيراً حسناً جزاء سلوكه الفاضل طوال حياته،
وسيلتقي في العالم الآخر بأناس أحبهم ولم يلقاهم في حياته الدنيا.


وحينما
نصل في استعراضنا هذا الارتباط بين الحكمة والسعادة في الفلسفة اليونانية
إلى أفلاطون سنجد أنه قد واصل طريق أستاذه سقراط في التوحيد بين الفضيلة
والمعرفة، وبدا ذلك بوضوح منذ المحاورات السقراطية التي خلد فيها أفلاطون
ذكرى أستاذه، حتى محاورات النضج التي كتبها معبراً عن فلسفته هو، ففي هذه
المحاورات أكد أفلاطون أن الفضيلة تعنى أول ما تعنى معرفة المبدأ الذي يقوم
عليه السلوك ومعرفة هذا المبدأ لا تكون إلاَّ بالتساؤل عن ماهية الفضيلة
عموماً، وماهية كل ولحدة من هذه الفضائل على حدة. والجدير بالذكر أن هذه
المعرفة بالمبادئ لا تكون عنده إلاَّ بمعرفة عالم المثل الذي هو عالم
المبادئ المعقولة لكل ما في الوجود المحسوس سواء كانت أشياء مادية أو
مفاهيم أخلاقية أو ما شابه هذا وذاك. وبالطبع فإن هذه المعرفة النظرية
بمعنى الفضيلة هي الأكثر تحقيقاً لمعنى السعادة عند أفلاطون لأنها تمثل
الفضيلة الفلسفية التي اختص بها الفلاسفة الذين لا يسلكون إلاَّ وفقاً
لمعرفتهم بالمبادئ العقلية للفضيلة؛ فلقد ميز أفلاطون -فيما يرى ستيس-(31)
بين الفضيلة الفلسفية، والفضيلة الاعتيادية؛ فالأولى هي الفضيلة الحقة التي
تقوم على معرفة المبادئ العقلية للخير، أما الثانية فهي الفضيلة بمعناها
الشائع عند الناس وتنطلق من أسس أخرى مثل العادة والعرف والتقاليد أو من
الدوافع الخيرة والمشاعر الغريزية نحو الخير. إن الفضيلة الاعتيادية على حد
تعبير أفلاطون إنما هي فضيلة أولئك الرجال المتزنون المعتدلون الذين
يمارسونها ممارسة العادة والتدرب وبدون الفلسفة والعقل(32)
. والجدير
بالذكر هنا أن هذه الفضيلة الاعتيادية ليست هي فضيلة عامة الناس فحسب، بل
هي أيضاً فضيلة خيرة السياسيين ورجال الدولة، فأفلاطون في حقيقة الأمر ينكر
الفضيلة العقلية الفلسفية على جميع الناس فيما عدا الفلاسفة الأطهار الذين
هم على حد تعبيره (أصدقاء المعرفة) حيث استطاعوا عن طريق معرفة الحقيقة
الشاملة لحقيقة الوجود أي (أي معرفة عالم المثل) أن يتحرروا تماماً (من
الملذات والشهوات والأحزان والمخاوف) وأن يتمسكوا دائماً بما هو حقيقي
وإلهي)(33).


وعلى
ذلك فالسعادة الحقيقية عند أفلاطون لا تتحقق إلاَّ لأولئك الفلاسفة
المتأملين الذين تحرروا من كل ما هو أرضى وجسدي؛ ليعيشوا وفقاً لما هو
حقيقي وإلهي، فالحكمة على وجه العموم عند أفلاطون هي رأس الفضائل سواءً
كانت هذه الحكمة النظرية الفلسفية، أو تلك الحكمة التي يتمتع بها الإنسان
الفاضل في الحياة الاجتماعية والسياسية وينجح من خلالها في إقامة التوازن
بين مطالب قوى نفسه المتصارعة داخل جسده الفاني فيمارس الشهوة باعتدال
ويمارس الغضب باعتدال. وما ذلك إلاَّ لأنَّ نفسه العاقلة تتحلى بالحكمة،
وبالحكمة يقدر المرء ماذا يشتهي ومتى ذلك وإلى أي حد، وكذلك يقدر لماذا
يغضب وإلى أي مدى!


فالسعادة
في كل الأحوال عند أفلاطون قرينة الحكمة ولا تتحقق أبداً إلاَّ لدى
الإنسان الحكيم. فإذا لم تتوافر الحكمة أصبح الإنسان فاقداً للشرط الضروري
للسعادة الحقيقية سواءً في حياته الاجتماعية والسياسية أو في حياته الفردية
وفي علاقته بالله وبالعالم من حوله.


وقد
سار أرسطو -تلميذ أفلاطون- على نهج أستاذه حينما بدأ كتابه (الأخلاق إلى
نيقوماخوس) بنقد كل صور السعادة الشائعة عند عامة الناس ورفض الآراء التي
تقول بأن السعادة في حياة اللذة أو في حياة الجاه والسلطان أو حياة الثروة
والمال...إلخ. وأكد في المقابل على التوحيد بين الفضيلة والسعادة. وكان
أرسطو حاسماً حينما أكد على أن الفضيلة فعل عقلي؛ فالإنسان في رأيه جزءان،
جزء عاقل وجزء غير عاقل. وفضيلة الإنسان تبدأ حينما يتحكم الجزء العاقل في
الجزء غير العاقل. ومن هنا انطلق إلى بيان نوعى الفضيلة في فلسفته
الأخلاقية؛ الفضيلة الأخلاقية، الفضيلة النظرية وقصد بالأولى الفضائل
الأخلاقية الاجتماعية التي لا يمكن للإنسان أن يعيش سعيداً في مجتمعه إلاَّ
متحلياً بها. وهي ما عرف لديه بنظرية الوسط الأخلاقي؛التي عرفها بقوله أن
الفضيلة (وسط بين رذيلتين إحداهما بالإفراط والأخرى بالتفريط)(34)؛ فالكرم
وسط بين الإسراف والبخل، والشجاعة وسط بين التهور والجبن وهكذا. وبالطبع
فإن إدراك هذا الوسط إنما هو فعل العقل والتحكم في السلوك بناءً على إدراك
هذا الوسط إنما هو أيضاً فعل العقل وهو هنا العقل العملي على حد تعبير
أرسطو فهو العقل المتصل بالواقع ومهمته التوجيه الصحيح لسوك الإنسان
العاقل(35). أما العقل النظري أو العقل مأخوذاً في ذاته فله فضيلة أخرى
تخصه هو وحده، هي ما أطلق عليه أرسطو فضيلة التأمل النظري التي من شأن
الإنسان فيها الوصول إلى الحقيقة المجردة والتمييز النظري بين الحق
والباطل. وهذه الفضيلة تحقق الوظيفة الأهم والأكمل لحقيقة الإنسان، فغاية
الوجود الإنساني ليست الأكل أو الشرب أو الجري وراء الملذات الحسية وإشباع
الشهوات وإنما هي التأمل. ولذا فضله أرسطو واعتبره فضيلة الفضائل الإنسانية
وأهمها على الإطلاق وأكد على أنه إذا كانت الحياة السعيدة هي الحياة
المطابقة للفضيلة، وإذا كانت السعادة تكمن في الفعل المطابق للفضيلة، فمن
الطبيعي أن تكون في الفعل المطابق للفضيلة العليا بمعنى أنها الفعل المطابق
للجزء الأحسن من ذات الإنسان وهو (العقل الفاهم المتأمل المعد ليأمر ويقود
وليكون له فهم الأشياء الجميلة والقدسية) على حد تعبير أرسطو(36). وعلى
ذلك فإن فعل هذا العقل المتأمل هو المطابق للفضيلة وفيه تكون السعادة
الكاملة(37).


والحقيقة
أن أرسطو قد أجهد نفسه في بيان ذلك التوحيد بين فعل التأمل للعقل النظري
وبين السعادة الكاملة، ليس فقط على مدار الكتاب العاشر من كتابه الشهير
(الأخلاق إلى نيقوماخوس)، وإنما أيضاً على مدار الكتاب الثالث من كتاب
(النفس) الذي أكد فيه على أن القوة النظرية من العقل الإنساني هي الجانب
القدسي من الإنسان لأنها القوة القادرة على مفارقة وجوده المادي لتأمل ما
وراء هذا الوجود وإدراك الحقيقة القصوى للوجود، الوجود الإلهي(38).


لقد
أبدع أرسطو في التأكيد على أن فعل التأمل هو الذي يحقق للإنسان الاستقلال
عن العالم الخارجي وحتى عن وجوده المادي، وأن حياة التأمل هي وحدها الحياة
المحبوبة لذاتها وهي التي تحقق للإنسان أقصى قدر من الراحة والطمأنينة ومن
ثم السعادة. وأنها إذا ما قورنت بحياة السياسي أو المحارب لوجدنا أن حياة
هؤلاء ليس فيها فراغ كما أنها مليئة بأسباب الاضطراب والقلق، بينما حياة
التأمل هي حياة السعادة الدائمة وهي الحياة الشريفة التي تناسب الأصل
القدسي للإنسان وتجعله يتشبه بحياة الآلهة كما تجعله محبوباً من قبل
الآلهة؛ لأنَّ الإنسان بالتأمل يدرك الوجود الإلهي ويتشبه به في آن
واحد(39).


وإذا
ما انتقلنا من العصر الهللينى في الفلسفة اليونانية إلى العصر الهللينستى
-أي عصر ما بعد أرسطو- لوجدنا تحولاً كبيراً في التوجه الفلسفي لدى فلاسفة
هذا العصر الجديد، وخلاصة هذا التحول أن معظم فلاسفة هذا العصر قد ركزوا في
فلسفتهم على الجوانب العملية التطبيقية وخاصة في ميدان الأخلاق حيث لم
ينشغلوا كثيرا بالحديث النظري المجرد عن ماهية الخير والفضيلة والسعادة بل
اتجهوا مباشرة إلى بيان الطريق العملي للسعادة، ذلك الطريق الذي يتمكن
الفرد من خلاله أن يحيا حياة السعادة رغم كل الظروف السياسية والاجتماعية
المليئة بالإضرابات والحروب آنذاك. لقد انشغلوا إذن بالبحث عن التماس طريق
فردى للسعادة.


وبالطبع
لا تغيب الفلسفة والحكمة في التماسنا لهذا الطريق؛ لأنَّ العقل هو الذي
يقود الإنسان إلى هذا الطريق؛ فعلى الرغم من أن فلسفات العصر الهللينستى
-وبالذات في أكبر تياريها: الأبيقورية والرواقية- تؤكد على أن العقل يولد
صفحة بيضاء وأن التجربة الحسية هي نقطة البداية في المعرفة؛ لأنَّ طريق
الأخلاق والفضيلة عندهما لا يبدأ من التجربة الحسية بقدر ما يبدأ من إعمال
العقل في السلوك.


وها
هو ذا أبيقور صاحب المذهب الحسي في المعرفة حينما يحلل القضايا الأخلاقية
بادئاً بضرورة أن نعترف بأن السعادة لدى الإنسان تبدأ من الاتجاه إلى كل ما
هو لذيذ بشكل طبيعي، نجده يؤكد على دور العقل في تمييز أنواع الرغبات
والاختيار من بينها، فهناك -فيما يرى أبيقور- رغبات طبيعية ضرورية وهناك
رغبات ضرورية وليست طبيعية وهناك رغبات ليست ضرورية ولا طبيعية. وهو يرى أن
على الإنسان العاقل أن يختار ما هو طبيعي وضروري وأن يكتفي به حتى يحيا
حياة الرضا والسعادة ويبدو ذلك في قوله: أن كل ما هو طبيعي يتيسر الحصول
عليه وكل ما هو غير طبيعي يصعب مناله، والمتعة التي تجدها في تناول طعام
بسيط ليست أقل من تلك التي تجدها في المآدب الفاخرة بشرط أن يزول الألم
المتولد عن الحاجة. كما أن التعود على العيش البسيط والتنوع هو أفضل ما
يضمن لنا الصحة الجيدة وييسر لنا الاستجابة لمتطلبات الحياة الضرورية كما
أنه يجعلنا عند وجودنا أمام ما لذ وطاب من الأكل قادرين على ذلك هو التمتع
وهو أخيراً ما يجعلنا لا نخشى تقلبات الدهر)(40).


إن
أبيقور يؤمن رغم ماديته في تفسير الطبيعة ومذهبه الحسي في المعرفة أن على
الحكيم أن يوجه مشاعره بالعقل وأن يمتلك ما أطلق عليه (فن التمتع بالمشاعر
السعيدة والتخلص من المشاعر الأليمة)(41) فحرية الحكيم إزاء ضغط الرغبات
وضرورة إشباعها تكمن عند أبيقور في معرفة للحدود التي يبغى أن يتوقف عندها
وأن يوجه سلوكه طبقاً لها؛ (فمن يجيد معرفته الحدود التي ترسمها لنا الحياة
يدرك كم من السهل على المرء أن يتزود بما يقضى على الألم الناتج عن الحاجة
وبما يجعل الحياة كلها كاملة)(42).


إن
معرفة الحدود تجعل الإنسان في رأي أبيقور قادراً على أن يميل نحو الزهد في
مطالب الحياة المادية؛ لأنَّ هذا الزهد الذي يتمثل في الاكتفاء بما هو
ضروري وطبيعي هو أساس الرضا وسر السعادة.


وكما
تخلصنا هذه الفلسفة الأخلاقية الزاهدة مِمَّا ليس ضرورياً من الألم وتسهل
لنا طريق الخير والسعادة، فإنها تخلصنا أيضاً من مخاوف عديدة كالخوف من
الموت والخوف من الآلهة ومن عقابها حسب رؤية أبيقور، فما الموت إلاَّ
انعدام الإحساس ومن ثم فلا إحساس معه لا بلذة ولا بألم، أما الآلهة فلن
يسعدها أو يزيد من سعادتها أن تعذب الإنسان بل على العكس أنه مِمَّا يسعدها
أن تراه سعيداً هانئاً.


ومن
هنا دعا أبيقور الجميع؛ لأنَّ يتفلسفوا حتى يجدوا ويعيشوا حياة السعادة،
فالفلسفة هي التي تورث الحكمة (والتي هي مبدأ كل شيء، وهي أعظم خير نعرفه
وهي أصل جميع الفضائل من جهة كونها تعلمنا أنه لا يمكننا أن نكون سعداء دون
أن نكون حكماء ونزهاء وعادلين، ولا أن نكون حكماء ونزهاء وعادلين دون أن
نكون سعداء)(43).


فالفلسفة
إذن عند أبيقور هي طريق الحكمة والسعادة معاً، فالحكيم الذي بلغ ذروة
الحكمة إنما هو القادر على أن يكون حراً في كل الظروف حيث تكسبه الفلسفة
التحرر من الآخرين ومن الطبيعة ومن القدر وتجعله قادراً على أن يملك نفسه
بنفسه وأن يكتفي بذاته وبأصدقائه وبالحياة السهلة الهادئة التي توفرها له
الحكمة(44)
.

وإذا
ما انتقلنا إلى الحديث عن رؤية فلاسفة الرواق، وهم الممثلون الحقيقيون
لهذا العصر الهللينستى نظراً للانتشار الواسع الذي حققته فلسفتهم عبر ست
قرون كاملة منذ تأسيس المدرسة على يد زينون الرواقي في نهاية القرن الرابع
قبل الميلاد وحتى وفاة آخر زعمائها الكبار ماركوس أوريليوس عام 180م، أقول
إذا ما انتقلنا إلى فحص رؤية فلاسفة الرواق حول الحكمة والسعادة لوجدنا
أنهم رغم الاختلافات الكثيرة بين أرائهم في قضايا المعرفة والطبيعة، يتفقون
على أن الحكمة هو أولى الفضائل الأصلية وهي التي تنبثق عنها كل الفضائل
الأخرى؛ فالحكمة فيما يروى المؤرخ ديوجين اللايرتى عنهم هي (المعرفة
بالأشياء الخيرة وبالشر وبما هو ليس خيراً أو ليس شراً)(45)
.

وبالطبع
فإننا بهذه المعرفة نتعرف على طريق السعادة، فالسعادة تتحقق من معرفتنا
وسلوكنا طريق الفضيلة والخير عند الرواقيين، فهم قد عرفوا الخير بأنه
الكمال الطبيعي للوجود العاقل وهو الموافق للكائن العاقل(46).


ولعل السؤال الآن هو: إذن كيف يحقق الإنسان العاقل كماله ومن ثم سعادته؟!

إن
طريق السعادة عند أهل الرواق يبدأ من إدراك أن سعادتنا بأيدينا، وهي تنبع
في الأساس من داخلنا، ومن ثم فقد أكدوا على أن سعادة الإنسان لا تخضع
للظروف التي تحيط بالإنسان بقدر ما تتوقف على حالته النفسية في مواجهة هذه
الظروف وحكمه عليها؛ فردود أفعالنا إزاء ما يمر بنا من أحداث هو ما يتشكل
بمقتضاه شعورنا بالسعادة أو بالألم.


ولذلك
فقد ركز الرواقيون على دراسة الانفعالات الإنسانية بغرض السيطرة عليها؛
لأنَّ في ذلك تكمن الحكمة والسعادة معاً. ومنذ مؤسس الرواقية زينون حصرت
الانفعالات الرئيسية في أربعة هي: الحزن، الخوف، الرغبة، واللذة. وهي كلها
تدور في إطار تعريفهم للانفعال بأنه (حرك لاعقلانية ولا طبيعية في
النفس)(47)
وهذه
الحركة اللاعقلانية المرفوضة عندهم والتي يدعون إلى التقليل منها والإقلاع
عنها يقابلها انفعالات يمكن أن ندعوها خيرة وطيبة وهي: الفرح، الحذر
والإرادة الطيبة؛ فالفرح ضد اللذة حيث أنه سمو بالنفس العاقلة، والحذر ضد
الخوف حيث به يمكن تجنب ما ينبغي تجنبه، أما الإرادة الطيبة فهي ميل دائم
نحو العقلانية وضبط اللذة(48).


وإذا
ما قدر للإنسان أن يعيش وفقاً لطبيعته العاقلة ويمتلك هذه الإرادة الطيبة
فإنه سيكون على طريق الحكمة والسعادة معاً؛ فالمثل الأعلى للإنسان عند
الرواقيين هو -بلا شك- الحكيم الرواقي نفسه، وأول صفات الحكيم الرواقي هو أنه رجل بلا انفعالات لأنه لا يترك نفسه يسقط فيها(49)
. أما ثاني
صفاته فهي الإخلاص ومحاولة الظهور بأفضل صورة ممكنة فيظهر من الأشياء أفضل
ما فيها ويخفى ما فيها من مساوئ، فالحكيم الرواقي لا ينافق ولا يرائي ولا
يتصنع، وهو لا يدخل في علاقات تجارية قد تكون معارضة للائق أو للمناسب؛ انه
قد يشرب الخمر لكنه لا يصل به لدرجة السكر أو الغياب عن الوعي، وهو لا
يشعر بالألم مطلقاً؛ لأنَّ الألم انفعال لا عقلاني لا يليق بنفس الحكيم(50)
. وفي ذلك يقول سينكا أحد كبار الرواقيين في عصرها الذهبي المتأخر-: (أنه يمكن أن نتحمل المحن بنفس مرحة فكل شيء إلى زوال)(51).

أما ثالث
صفات الحكيم الرواقي فهي إيمانه التام بالألوهية، وهو يعلن ذلك دائماً
وبداخله نقاء الإيمان بالقداسة ويقوم بممارسة العبادات والطقوس المفروضة
عليه ويبتعد عن كل خطيئة ويسير دائماً في طريق القداسة والعدالة(52).


وهذا
الإيمان بالألوهية والسير في طريق الهداية وممارسة العبادات لا يمنعه من
المشاركة السياسية، فالحكيم الرواقي ممن يهتمون بالعمل السياسي إلاَّ إذا
وجد ما يمنعه من ذلك وهو ممن يفضلون الزواج وإنجاب الأطفال كما يقول
زينون(53).


أما رابع
صفات هذا الحكيم الرواقي فهي أنه وديع ولا يضر نفسه ولا غيره. وفي ذات
الوقت فهو لا يسامح ولا يشفق على من تقع عليه عقوبة أنزلها القانون. إن
الرجل الحكيم لا يرى أن إنزال العقوبات بالمجرمين والأشرار مسألة قاسية وهو
كذلك لا يعجب ولا يندهش من وقوع أحداث قد تبدو مستحيلة التصديق(54).


أما خامس
صفات الحكيم الرواقي فهو شعوره الدائم بالحرية رغم الإيمان بالحتمية
والقدرية، فلقد قيل من بعضهم (أن الرجل الحكيم هو وحده الحر والسيئون أو
الأشرار فهم وحدهم العبيد؛ فالحرية هي القدرة على الفعل المستقل بينما
العبودية امتناع هذه القدرة إن الحكيم ليس حراً فقط بل هو ملك؛ لأنَّ الملك
هو من لا يحاسبه أحد على ما يفع. وهذا لا يكون إلاَّ للحكيم الذي يملك
وحده معرفة الخير والشر بينما الأشرار لا يعرفون ذلك)(55).


وعموماً فإن الحكيم الرواقي هو الرجل (المثالي) في كل شيء، الكامل في شعوره بالسعادة، لأنه ببساطة -كما عبر عن ذلك زيللر Zeller-
هو الذي يحوز كل الفضائل وكل المعرفة؛ وهو وحده الذي يفعل الصواب في كل
شيء. وهو وحده الملك الحقيقي، السياسي الحقيقي، الشاعر الحقيقي، هو الملهم
والمرشد...إلخ، هو المتحرر كلية من الحاجات والآلام، وهو وحده الصديق
المحبوب للآلهة. إن فضيلته دائمة ولا يمكن أن يفقدها وسعادته لا يمكن أن
تنقص من وقت لآخر(56)
.

إن
السعادة لدى حكماء الرواقية هي سر من أسرار النفس البشرية العاقلة التي
تدرك يقيناً أن كل ما يجرى في الكون إنما هو إرادة إلهية وقدر سماوي ومن ثم
ينبغي الخضوع له والتسليم به دون جزع إذا كان مؤلما و دون فرح زائد عن
الحد إذا كان مفرحاً. ولذلك كان الفيلسوف الرواقي يقوم بكل فعل عن إدراك
حقيقي لما هو خير دون أن ينتظر النتائج، ويقوم بواجبه إزاء أي دور يؤديه
كما رسمته له الطبيعة والعناية الإلهية والقدر خير قيام دون أن يخشى نتائج
فعله طالما رأى فيه أنه الفعل الأمثل المناسب للموقف وكأن قيامه بواجبه في
حد ذاته هو السعادة القصوى له بصرف النظر عما يحيط بذلك من آلام محتملة أو
عواقب وخيمة ممكنة الحدوث، فلم يكن الرواقي -مادام يقوم بواجبه- يخشى شيئاً
حتى الموت وقد قال أحدهم تعبيراً عن عدم خوفهم من الموت، بل وترحيبهم به
باعتباره القدر المحتوم, لو أنى أعرف متى وكيف سيكون الموت لذهبت إليه
بنفسي. فالسعادة في هذه الحياة الدنيا هي الرضا التام عما يجرى بها وفعل ما
ينبغي فعله طالما يتوافق مع الطبيعة والقدر ويرضى عنه الإنسان الحكيم
ولتأتي النهاية كما تأتي وبالكيفية التي حددتها العناية الإلهية والقدر
أيضاً، فكما أننا لم نختار تاريخ المولد ولا كيفيته ينبغي أن نسلم بتاريخ
الموت وبالكيفية التي يأتي بها دون وجل ودون جزع.


ويبدو
أن هذه الآراء الرواقية كانت صاحبة السيادة في عصرها لدرجة أنها أثرت حتى
في الفلسفات الدينية في القرون الأولى للميلاد سواءً كانت هذه الفلسفات
الدينية تابعة لأديان سماوية كاليهودية والمسيحية التي كانت ناشئة آنذاك أو
كانت فلسفات دينية تابعة لأديان تراثية في الحضارات الشرقية القديمة؛
فكلهم قد تأثروا بآراء الرواقيين حول ضرورة الإيمان بالألوهية وبحتمية
القدر والعناية الإلهية وكلهم تأثروا بهذه الآراء الرواقية حول الحكمة
والسعادة وإن اتخذت الحكمة لديهم صورة أخرى؛ تلك الصورة التي يغلب عليها
الطابع الصوفي الذي يسعى فيه الإنسان المؤمن بالخروج من ذاته محاولاً
الاتحاد بذات الإله عن طريق الانجذاب إليه، ذلك الانجذاب الذي يغيب فيه
العقل ولا تصعد فيه إلاَّ الروح النقية الخالصة التي تشتاق للاتحاد ببارئها
والعودة إليه في لحظة تنأى عن الوصف ولا يشعر بمدى السعادة فيها إلاَّ من
يعيش هذه التجربة الصوفية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

مفهوم الحكمة ومفهوم السعادة في الفلسفة اليونانية :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

مفهوم الحكمة ومفهوم السعادة في الفلسفة اليونانية

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المدونات العامة-
انتقل الى: