حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 في الكتابة: القرآن نصّ أم نصّان؟بقلم: منصف الوهايبي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
باسل
ثـــــــــــــــائر محــــرض
ثـــــــــــــــائر محــــرض
باسل


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 259
معدل التفوق : 770
السٌّمعَة : 21
تاريخ التسجيل : 15/12/2011

في الكتابة: القرآن نصّ أم نصّان؟بقلم: منصف الوهايبي  Empty
18122013
مُساهمةفي الكتابة: القرآن نصّ أم نصّان؟بقلم: منصف الوهايبي

في الكتابة: القرآن نصّ أم نصّان؟بقلم: منصف الوهايبي  Arton246-5526a
يرجع المعاصرون نشأة الكتابة واختراع أنظمتها إلى أسباب ودوافع سياسيّة. والسّياسة في أشمل معانيها هي علاقة الفرد بالمجتمع من ناحية وعلاقته بالسّلطة من أخرى. وقد يتساءل المرء: إذن ما علاقة الكتابة بالسّلطة؟ وما شأنها بقيام الدّول أو بسقوطها، أو بتماسك المجتمعات أو بانحلالها؟ أليس للكتابة من نظامها الخاصّ ما يجعلها سلطة قائمة بذاتها، وينأى بها عن تقلّبات الدّول والمجتمعات؟ فهل أسرف هؤلاء المعاصرون في التّقدير حينما قصروا نشأة الكتابة وذيوعها على السّلطة حينا، بل على العنف حينا، بل عليهما معا؟
يرى كلود ليفي شتراوس أنّ الوظيفة الأوّليّة التي قام عليها التّخاطب الكتابيّ كانت تسهيل استعباد النّاس وتسخيرهم والتّحكّم فيهم. ويضيف أنّ استعمال الكتابة لغايات ومقاصد نزيهة أو موضوعيّة مثل إشباع حاجات ثقافيّة أو جماليّة، لم يكن إلاّ نتيجة لاحقة على تلكم الوظيفة. بل ربّما كان هذا الاستعمال مقصورا في الأغلب الأعمّ على وسيلة لتقوية الآخر أو التّستّر عليه.
وهو بهذا إنّما يسترعي انتباهنا إلى مسألة في تاريخ الكتابة ونشأتها وذيوعها خليق بنا أن نلتفت إليها ونعنى بها، خاصّة أنّها على صلة، في جانب منها بالإسلام الذي نشأ أساسا في المدينة. وإنشاء المدن وقيام الممالك والدّول كان من أهمّ الظّواهر التي لازمت الكتابة ورافقتها. وهذه الكتابة إنّما كانت أداة من أدوات إخضاع النّاس لقوانين الحضارة وقواعد الاجتماع، وإرغامهم على الامتثال لأصول الحكم أي إدماجهم في الحياة الاجتماعيّة المدنيّة أو في نظام سياسيّ أو تقسيمهم إلى فئات وطبقات. ومن هذا الجانب يبدو أنّ الحاجة الماسّة إلى شدّ أواصر الملك وتوطيد دعائمه، كانت من أهمّ مقتضيات الكتابة. فربّما كانت الكتابة هي التي ذلّلت تسخير النّاس، ويسّرت استغلالهم قبل محوهم وتجريدهم من قيمتهم الفرديّة، وربّما على هذه الخطّة سارت وذاعت. وليس بمستغرب من عالم مثل شتراوس كثيرا ما يعيد في بحوثه خلق الماضي وتصويره تصويرا يلائم فروضه ويساوق رؤاه الفكريّة، أن يستدلّ من التّاريخ بحوادثه وانقلاباته الحافلة، على “صحّة” نظريّته و“أصالتها” ليوضّح أثر الكتابة في صنع تاريخ المدن والممالك القديمة وفي تسلسل أدواره.
غير أنّ هناك من الباحثين والمفكّرين، من لا تروقه هذه النّزعة التي تغفل تنوّع أنظمة الكتابة وتاريخها، ولا هذا النّفاذ من غواشي الماضي إلى فروض ينسجها السّراب الأبجديّ وأوهامه الخادعة. فلم تكن الكتابة في كلّ أطوارها صورة منعكسة من ماض أو من تاريخ قلق مجهود، ولا هي ذوت أو فترت في فترات من التّاريخ ضربت فيها الفوضى واستحكم الاضطراب.
وعليه، فمن التّمحّل أن نحصر الدّافع إلى اختراع الكتابة وذيوعها في مجرّد الحاجة إلى التّحكّم في النّاس ومغالاة السّلطة في استخدام قوّتها. فربّما صحّ ذلك في فترات من التّاريخ، ولم يصحّ في أخرى؛ وربّما كان استثناء لا قاعدة. وقد يشتدّ التّهافت على الكتابة، ويذيع التّعلّق بها، سواء جرت الحياة رضيّة مذلّلة أو لم تجر. فللكتابة نظامها الخاصّ الذي يمكن أن يحميها من الانغماس في فوضى العالم وينأى بها عن اضطراباته. ونشوؤها وإن تأثّر بالتّغيّرات العامّة التي تطرأ على المجتمع وانفعل بها، محكوم بمنطقها الدّاخلي الخاصّ. ولكن ربّما ساد في عصور الاستقرار وقيام المدن، نوع أو نظام خاصّ من الكتابة، وربّما انبعث في عهود المشادّة وسقوط المدن نوع أو نظام آخر مغاير.
فإذا سوّغنا رأي آخرين في أنّ الأبجديّة أحدثت قطيعة في نقل اللّغة نقلا كتابيّا ـ استئناسا بالمفهوم التّأليفيّ المملى عليهاـ فكيف نزعم أنّ هذه الأبجديّة ماثلة ضمنا في الأنظمة الكتابيّة السّابقة عليها، دون أن نأخذ بوجهة نظر غائيّة؟ “نحن ننزع على سبيل الاستدلال ـ ولأنّ الشّرق الأدنى والغرب كانا أيضا مراكز حضارات الأبجديّة ـ إلى أن نعزو تواطؤا إلى الكتابات ما قبلها، غائيّة كان ينبغي أن تجعلها منذورة للأبجديّة.” ويبدو أنّ هذه “الغائيّة” ماثلة عند المعاصرين من أمثال جاك دريدا الذي يرفض أن تكون الكتابة تابعة للّفظ أو مشتقّة منه أو هي في خدمة الصّوت ليس إلاّ؛ وكأنّها لا تعدو أكثر من تصوير للأصل.
والمسألة الرّئيسة في هذه النّظريّة ليست الكتابة في ذاتها وإنّما تعريف الذّات تعريفا جديدا من شأنه أن يشرخ “الفردانيّة المركزيّة” بإدماج الآخر في “الأنا”. وهو لا يستند إلى الكتابيّ إلاّ بمقدار ما يلغيه، ولا يضع موضع التّساؤل حقّا الفروض النّظريّة التي تسوّغ حسب لوروا غوران تخيّر النّظام الخطّيّ من حيث هو دليل قاطع على الكتابة؛ وإنّما يثبّت “الغائيّة” من خلال إقراره بنبرة حاسمة أنّ معنى السّلطة التي تنعت بـ“الرّمزيّة” من حيث هو معنى وامتلاك في آن، كان موصولا أبدا بأحكام الكتابة وتراتيبها وتدابيرها.على حين أنّ غوران يستند إلى تفكير قياسيّ، ويعدّ الخطّ مكوّنا للكتابيّ، لأنّه تمثّل السّلطة تمثّلا بديهيّا أو طبيعيّا. فما دامت الآثار الخطّيّة تظهر “الدّيناميّة” الحركيّة، فإنّ الخطّ كان يوعز “ديناميّة” الكلام. وهذا منحى في تفسير نشأة الكتابة أو تعليلها، لا يناسب نظريّة دريدا في الخطّ والكتابة. فما يعنيه من الخطّ ومن نشوئه كونه علامة أو سمة غياب ملحوظة (غياب المتكلّم والمخاطب والمعنى المستقرّ في وعي المتكلّم الغائب) مقابل حضور هذه العناصر الثّلاثة في حال اللّفظ، عند القائلين بأسبقيّته. والكتابة عند دريدا فعل إبعاد، والإبعاد “هو دائما غير المدرك وغير الحاضر وغير الواعي...”، وهي بهذا “لا تهب نفسها كما هي في تجربة ظواهريّة لحضور ما. إنّها تسم الزّمن الميّت في حضور الحاضر الحيّ وفي هيئة كلّ حضور عامّة”.
على أنّ ما يعنينا في السّياق الذي نحن به، أنّ الكلمة (المكتوبة) كانت شيئا جديدا في عالم الأشياء. ولعلّ هذا ما يفسّر إلى حد ما اقتران الكتابة أوّل نشأتها أو في المجتمعات التي لم تكن ذائعة فيها، بالسّحر والأسطورة،وهي التي كانت مثار دهشة وفتنة وإعجاب. ويبدو أنّ مختلف التقاليد الثقافيّة الأقدم عرفت بنسبة أو بأخرى، نوعا من «الإحيائيّة“كانت تثيرها الأبجدية سواء الصوتية منها أو الرسمية أي تلك التي قامت على رسم الصوت أو تلك التي قامت على رسم الشيء. وربّما تعذّر الفصل بينهما عند العرب المسلمين، وهم الذين سمّوا الكتابة رسما، ومن معاني”رسم“كتب وخطّ؛ وشبّهوا النّطق بالخطّ والتّصوير. وربّما كان من السّائغ أن نقول ـ بناء على ما تقدّم ـ إنّ الكلمة صورة تنطوي على صورة، سواء انبنت العلامة بين الكلمة والصّوت على قانون المشابهة والمطابقة والرّمزية أو على ترابط المجاورة والاستبدال الكنائي. فالكلمة في هذه الحال أو في تلك طقس سحريّ أو”سحر تعاطفيّ“سواء اتّخذ هيئة”التّعاطف المثلي“القائم على المشابهة أو هيئة” السّحر التّجاوري“القائم على المجاورة. وعلى هذا الأساس تحضر الكلمة، وبخاصّة في نصّ مثل القرآن تفنّن المسلمون في كتابته، من حيث هي صورة خطّية وعلامة بيانيّة، حضورا مضاعفا أي في ذاتها وفي تمثّلها، وتجمع بذلك بين وظيفتين: جماليّة وتوصيليّة. بل لعلّها تصهرهما في وظيفة إبداعيّة واحدة، إذ هي تنزع الأشياء من أقنومها وتفتح أغلاقها، لتعيد إنتاجها أو لتخلقها خلقا ثانيا. ومن ثمّ كان امتزاج الكتابة بالأسطورة، والصّورة بالإحيائية. ونقدّر أنّ هذا جزء من جوهر الكتابة لا ينفصل عنها ولا يفارقها.
إذا استتب لنا القول بأن الكتابة سلطة وأنّ هذه السّلطة منوطة بقيمة الكتابة الاجتماعيّة، أدركنا أن البحث في واقع الكتابة ومدى ذيوعها وانتشارها في المجتمع العربيّ ما قبل الإسلاميّ أو بعده هو من الكمّ الذي لا يعتدّ به كثيرا. فقد يكون المرء، جاهلا بالخطّ ولكنّه ليس جاهلا بالكتابة.
ولعّل كتابة القرآن أن تكون خير نموذج لما نحن فيه، فقد كانت تتأدّى بواسطة الإملاء على كتبة الوحي. ولا شكّ أنّ إملاء نّص كالقرآن”محكم“في صيغه وتراكيبه، لا يمكن إلا أن يستدعى أداء”مبنيّا“؛ لأنّ الأمر ـ على ما أوضحنا في مقال سابق ـ لا يتعلّق بنصّ يرتجل وإنّما بنصّ”يمليه“صاحبه على نفسه قبل أن يمليه على غيره.ومثل هذا النّصّ”الوحي“كتابيّ حتّى وإن أعدّ شفهيّا أو ذهنيّا في صمت أي قبل أن يمليه صاحبه على الآخرين، وقبل أن تتدبّره الكتابة وتثبّته في صورة خطّية وتقيّده في هيئة بصريّة. والكتابة بهذا المفهوم تنوب”التّفاعل“الشّفهيّ. فهي لا تحدّ في شيء العلاقة المباشرة بين متكلّم ومستمع، وهي أساس الكلام أو الأداء الشّفهيّ. ذلك أنّ نصّ الوحي مثل الشّعر قول لا يُسمع سمعا، بل يستغرق السّمع استغراقا.
نشير في هذا السّياق إلى قول القاضي عبد الجبّار،من أنّ النّبي”كغيره في بون ما بين كلامه وبين القرآن“، فهو قول في غاية الدّقّة. قال:”فلا يصحّ أن يقال: إنّه[النّبي] أتى به لمزيّته في الفصاحة، وحال كلامه كحال كلام غيره، في أنّ القرآن يفوقه، ويفضل عليه؛ وبيّنوا [شيوخنا] أنّه لا يمكن أن يقال: تعمّل له زمنا، وسائر كلامه ارتجله؛ وذلك لأنّ المتقدّم في الفصاحة يقارب المرتجل من كلامه المسموع عنه، بل ربّما فاقه البعض منه، على ما جرت به العادة، إذا كان ممّن يمكنه الارتجال كما يمكنه التّعمّل...“(المغني ص.275). ولعلّ في هذا ما يدلّ على أنّ نصّ”الوحي“كلام”متعمّل“أي مصنوع، وإن لم يقصد القاضي عبد الجبّار إلى ذلك، ولكنّ كلامه يسوق دون تمحّل إلى هذا الاستنتاج. و”نزول“النصّ [القرآن] منجّما أو في مواقيت متباعدة، يعزّز طابع الصّنعة فيه، والمقصود بها هاهنا الكتابة. وكذلك ما يحفل به من تكرير المعاني والموضوعات والصّيغ، فهذا راجع إلى ما يسمّيه المعاصرون”الاستعمال المتواطئ“الذي هو سمة الكلام المكتوب أكثر ممّا هو سمة الشّفوي كما يقع في الظنّ عادة.
و”الوحي“من ثمّة، يمكن أن يحدّ من حيث هو أداء كتابيّ حتّى وإن جاء بصيغة صوتيّة غير مخطوطة. فهو نصّ”يُملى“، وكلّما كان إملاء كانت كتابة. ووضعيّة الإملاء تتيح لصاحب النصّ أن يتعهّد نصّه المثبّت في الذّاكرة، حذفا أو زيادة أو تغييرا وأن يمليه دونما استئناس بنصّ مخطوط. وربّما وقع في الظّن أن وضعيّة الإملاء تنطوي على عناصر الاتّصال”الجاكوبسونية“جميعها من سياق ومرسل ومتلقّ، وأنّ النّصّ ينضوي، من ثمّة، إلى الأداء الشّفهيّ وليس إلى الأداء الكتابيّ حيث لا يظهر المرسل ولا يملك المتلقّي سوى الرّسالة وحدها. وهذا في تقديرنا من مدخول الظّنّ وخادع الانطباع، فالوحي محكوم بازدواجية مثيرة: ازدواجيّة السّياق وازدواجية المرسل وازدواجية المتقبّل.
أمّا سياقه فسياقان: سياق غائب يرجع إلى”الخطاب الصامت“السّابق على لحظة الإملاء حيث يكون المرسل قد تعهّد نصّه وثبّت الكلمات ومبناها في ذاكرته. وسياق حاضر يرجع إلى مواقيت إملائه ومواقعها.
وأمّا المرسل فمرسلان : فالوحي في معتقدات المسلمين وفي متخيّلهم الدّيني، رسالة أوحت بها ذات متعالية مفارقة (الذّات الإلهيّة) إلى متقبّل أوّل (النبيّ). وهذا المتقبّل مرسل ثان ينقل الرّسالة إلى متقبّل ثان لا يحدّ ولا يصنّف أو هو متحرّر من رقّ الزّمان والمكان، لأن ه(الإنسان) في كل زمان وفي كلّ مكان. على أنّ هذا المتقبّل في سياق الإملاء، إملاء الوحي”كاتب“يسّجل الوحي ويقيّده بالخطّ.
إنّ تقصّي مظاهر الكتابة في نصّ كالقرآن ( القرآن / الوحي والقرآن / المصحف ) يؤكّد أنّ الجهل بالخط لا يعني ضرورة الجهل بالكتابة. فالوحي”كتاب“أو هو نصّ” كتابيّ مكتوب “ما أخذنا بالاعتبار مفهوم الكتابة عند العرب، من حيث هي بنية أو تجميع وتأليف أي جمع أشياء بعضها إلى بعض ووضع جمل بعضها مع بعض وربط أحداث بعضها إلى بعض، لأداء معنى مفيد. وربّما تعزّز المظهر الكتابيّ في القرآن /الوحي بهذه الإشارات المرئيّة التي نقف عليها في ازدواجيّة عناصر الاتّصال غير الصّوتيّة. وهي ازدواجية قائمة في جذر أيّ تجربة جماليّة يمكن أن تقدّمها الكتابة. على أنّها في”القرآن الوحي“،وربّما في غيره من أجناس القول، ليست كتابة خالصة. فنصّ الوحي يقارب القصيدة طالما كان المرسل هو المتكلّم، وينحو باتجاه المكتوب طالما كان المتكلّم ممايزا من المنشئ (الذّات الإلهيّة). وهو، من ثمّ، نصّ محكوم بهيئة من التّأليف شبه شفويّة وهيئة من التّأليف كتابيّة أو شبه كتابيّة. ومن هذا الجانب فإنّ” التّأليف الشّفهيّ“في ثقافة كتابيّة أو هي عرفت الكتابة بنسبة أو بأخرى، لا يمكن إلاّ أن يختلف عن” قرينة “في ثقافة شفهيّة خالصة.
ومهما يكن فإنّ سلطة الكتابة الاجتماعيّة منوطة بنوع الكتابة أو بمفهومها، أكثر منها بكمّها أو بمدى ذيوعها وانتشارها. والقرآن إنّما شدّ العرب بنوع كتابته وهم الذين حاروا فيه، والوحي قريب العهد إليهم، وتحيّروا، فمن قائل إنّه شعر أو سحر وقائل إنّه أساطير الأوّلين أو سجع الكهّان،وقائل ينزّهه عن هذا كلّه فما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة. بل إنّ ابن الرّوندي (أو الرّيوندي) الذي عاش في القرن التّاسع ميلادي، يطعن على القرآن في غير موضع ممّا تبقّى من نقول كتبه، وهي شذرات قليلة جدّا. ويرى فيه تناقضا وكلاما مستحيلا، وأنّه ليس بمنزّل. ونقرأ في”الأغاني“أنّ بشّار بن برد فضّل بعض شعره على سورة”الحشر“، وأنّ أبا العتاهية قال لبعض أصحابه :”قرأت البارحة“عمّ يتساءلون” ثمّ قلت قصيدة أحسن منها“. و مع ذلك ففي هذا الزّعم أو ذاك تسليم بأثر أساليب القرآن وبيانه في نفوسهم أي بما هو منضو إلى النوّع و”الحسن“و”الممتع“أو راجع إلى الوظيفة الشّعريّة أو الجماليّة أو إلى”الغريب“أو”غير المتوقّع“.
وما كلامهم في مباحث الإعجاز، والوحي بعيد العهد عنهم، على”مفارقة القرآن لكلام العرب“و”خروج نظمه عن سائر نظومهم“سوى تسليم بنوع من”بيان القلم“لم يكن للعرب به سابق عهد. وبهذا النوّع من الكتابة استطاع النبي على-”أمّيته بالخطّ“-( اختلف المسلمون في هذه الأمّية. والأرجح أنّه لم يكن كذلك. وحتّى لو كان فالأمّية بالخطّ لا تعني ضرورة الأمّية بالكتابة. فضلا عن أنّ للأمية معنى آخر دينيّا لا يعنينا في السّياق الذي نحن به) أن يجمع سلطان النّصّ إلى سلطان النبوّة الاجتماعيّ والسّياسيّ وأن يجعل العرب يعتقدون في اختلافه عنهم، وتميّزه عليهم فيحشدهم في طاعته وفي مراتب قيمه ونسيج نصّه، برغم أنّ المتخيّل الذي ينهض به”النصّ“[القرآن] متخيّل تخاطب كتابيّ يخصّ طائفة من النّاس مأخوذة بالكتابة؛ والحال أنّ الكتابة لم تكن ذائعة شائعة في بيئة هؤلاء العرب القدامى،كما هي الحال اليوم في أكثر بلدان العالم الإسلامي.
فلعلّ سلطان الكتابة كان راجعا، في جانب منه، إلى تطابق صريح بين سلطة النّبيّ السّياسيّة وسلطة المتخيّل وطرائق أدائه. والكتابة ـ في ما تبيّنه الدّراسات الحديثة ـ إنّما تكون حامل تصعيد أو حامل تسام أو إعلاء، كلّما استشعرت الجماعة المرتبطة بها، الحاجة إليها من حيث هي صورة من صور التبعيّة للآخر والولاء له. وهذا رأي تثبته شتّى الكتابات الدّينيّة وتنهض به، ونلتقي في”القرآن على القرآن“أو”الخطاب على الخطاب“أدّلة وقرائن كثيرة تتضافر كلّها في صياغة”لغة واصفة“تشير إلى تفكير الذّات المتكلّمة في خطابها من حيث هو الكلام المعجز المبين ووحي السّماء وأساس التّشريع والقانون المنظّم للسّلوك والمرشد إلى معالي الأمور؛ أي التلفّظ” أو“القول” القائم على متكلّم ومستمع، حيث المتكلّم مدفوع برغبة التّأثير في المستمع أو المتقبّل بطرائق وأساليب شتّى. ولا نعدم في مباحث الإعجاز لفتات طريفة إلى الأثر الّنفسيّ في أسلوب القرآن، حيث تطّرد عند علماء الإعجاز مثل الرّماني والخطابي والباقلاّني وعبد القاهر الجرجاني، مفردات مثل “اللذة” و“الحلاوة” و“المهابة” و“الروعة” وما إليها من عبارات تتضافر في صياغة سلطة ذات “كاتبة” غير منظورة، تنفصل ـ وهي تتكلّم ـ عن العالم المتخيّل الذي تنشئه على قدر ما تتّصل به.
وعليه فإنّ الأثر النّفسيّ في أسلوب القرآن وكتابته أو “رسوم نظمه” بعبارة الخطابي ـ ولعلّها ليست إلاّ رسوم الكتابة حيث “الحاجة إلى الثّقافة والخدمة فيها أكثر لأنّها لحام الألفاظ وزمام المعاني، وبه ينتظم أخذ الكلام، ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النّفس يتشكّل بها البيان”، وما يلازم هذا الأثر النّفسيّ من نظرة دهشة وإعجاب ويخلص منه إلى القلب من “اللّذة” و“المهابة” و“الرّوعة”، وما يتلوه من يقظة الإدراك وصحوة العقل، سواء أكان المتقّبل، من النصّ في سهولة مأخذ وحسن تأتّ، أم كان منه بين ارتفاع وصبب ـ مظهر لافت من سلطة الكتابة القرآنيّة، لا ينسرح العقل منها ولا ينفكّ عنها.
غير أنّ الكتابة، بقدر ما تثّبت الكلام وتقيّده، فإنّها تسمح أيضا، لسبب ما أو ذريعة ما، بإعادة ترتيبه أو بتصحيفه وتغيير معناه. من ذلك أنّ القرآن / الوحي هو في المعتقد الدّينيّ الكلام الإلهيّ المنزّل الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولكنّه، وقد كتب، فإنّ المسلمين، منذ أن نهضوا بجمع القرآن ـ وكان بعضه مسطورا في العسب واللّخاف والأكتاف...وبعضه محفوظا في الذّاكرةـ لم يجدوا غضاضة في إعادة ترتيبه.بل إنّ من الشّيعة من يذهب إلى أنّ عثمان محا الآيات التي تؤيّد علي بن أبي طالب وأتباعه.
وعليه يكون من السّائغ أن نتحدّث عن نصّين اثنين: “نصّ” الوحي المحكوم بأسباب التّنزيل، ونصّ المصحف المحكوم بأسباب الكتابة ودوافعها ومواقيتها، أو إكراهات الكتابة، بعبارتنا اليوم. وسواء علينا أحملنا هذين “النصّين” على أنّهما مظهر من مظاهر التّقليد الشّفهيّ في أداء القرآن أم مظهر من“كتابيّته”، فلا مناص من الإقرار بأن سلطة الكتابة نسبيّة وليست مطلقة كما قد يتبادر إلى الذّهن. بل ربّما سوّغنا الرّأي القائل بهشاشة الكتابة وبعدم الإفراط في تقدير “الحقيقة”، حقيقة الكلمة المكتوبة. ويتعزّز هذا الرأي، إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ العربيّة التي كتب بها القرآن، إنّما هي عربيّة “ما قبل الإسلام”، أي عربيّة الشّعر والمثل والخطابة وسجع الكهّان وفنّ التّوقيع.ولا نظنّ أنّ هناك من يجادل في أنّ هذه العربيّة ليست قانونا نافذا على الدّهر،وإنّما هي لغة نسبيّة مقصورة على حقبة بعينها،محدّدة ،أي عالم الذّات التي تعقد أكثر من علاقة بين ملفوظها وفعل تلفّظها، فيما La deixisب “أنا/الآن/هنا”، تتكلّمها في القرآن “ذات” تدور على مطلق، أو هكذا هي تقول
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

في الكتابة: القرآن نصّ أم نصّان؟بقلم: منصف الوهايبي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

في الكتابة: القرآن نصّ أم نصّان؟بقلم: منصف الوهايبي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: الحــــــــــــــــــداثـــة-
انتقل الى: